عدد من المثقفين والفنانين ورجال الإعلام والسياسة الذين باتوا يحبّون الذهاب إلى مدينة تحناوت كان الفضل في ذلك إلى الفضاء الثقافي «المقام» الذي يشرف عليه الفنان التشكيلي محمد المرابطي. ومنذ افتتاحه قبل حوالي عشر سنوات احتضن هذا الفضاء الثقافي عددا من الفعاليات الثقافية في شكل معرض فنية وندوات وتكريمات لأدباء مغاربة وفنانين من داخل المغرب وخارجه، بحيث لعب بالفعل دورا كبيرا في إشعاع هذه المدينة ثقافيا بعيدا. لكن يبدو أن هناك نيّة للقضاء على هذا الفضاء الذي ما تزال بعض العقليات في السلطة تنظر إليه نظرة ابتزازية. ففي اتصال بالجريدة، أوضح الفنان محمد المرابطي أن عناصر من الدرك تعمد، وبدون سند قانونيّ، إلى مضايقته ومضايقة العاملين ورواد المقام بدعوى الحفاظ على الأمن والسلامة. بل لقد بلغ بهم الأمر، يضيف المرابطي، إلى حدّ الهجوم على المقام واعتقال أحد العاملين به وابتزازه بحجج واهية لم تعهدها المنطقة من قبل. وأمام هذا التضييق، لم يجد المرابطي بدّا من الاضطرار إلى إغلاق الفضاء الثقافي الوحيد بتحناوت، بعد تكرار أساليب الابتزاز والإهانة وعدم الاعتراف بما قدمه هذا الفضاء طيلة سنوات. فهل قُدّر للثقافة أنْ يكون قدرها هو الإبعاد لكونها لا تذرّ الأرباح التي تفتح الأفواه؟ سؤال طرحه الفنان المرابطي وهو مضطر لإغلاق «مقامه» ومغادرة تحناوت نحو مدينته مراكش مكتفيا بالتشكيل. هذا وقد علمت الجريدة أنه بمبادرة من عدد من الفنانين والمثقفين فتحت لائحة للتوقيعات تنديدا بهذه الإهانة التي تعرّض لها «مقام تحناوت» وصاحبه. 1- مفهوم الإنسان في المرجعية الأوربية ما أكدته كتابات الجابري كون الثورة العقلانية في أوربا قد تجاوزت معرفيا وثقافيا مفهوم الإنسان كما كان «مفكرا فيه» في القرون الوسطى»، تجاوز أحدثته الوثيرة السريعة لتحويل «ما هو قابل للتفكير فيه» إلى «مفكر فيه»، مع تحقيق تقدم مستمر وملموس في غزو مجالات «اللامفكر فيه» واكتشاف «ما هو غير قابل للتفكير فيه». لقد حققت العقلانية الأوروبية حركية دائمة في التفكير وضعت حدا للجمود والتقليد المفتعل من طرف رواد الكنيسة المدعم لسلطتهم السياسية. لقد تمكنت المرجعية الأوروبية من تشييد مفهوم الإنسان على أساس إعادة الاعتبار للفرد البشري وتحريره من الشعور بوزر ما يسمى ب»الخطيئة الأصلية» (الأكل من شجرة الجنة المنهى عليها). فبعدما ساد الاعتقاد في القرون الوسطى بكون الإنسان مشدود بروحه إلى مملكة الله (الروح المقدسة)، وبجسده إلى مملكة الشيطان (الجسم المدنس)، نجح الفلاسفة والمفكرون والسياسيون من إعادة الوحدة بينهما (بين الجسم والروح)، وبالتالي التمكن من تحرير الإنسان بنفسه وجسده من سلطة الكنيسة (التي فرضت نفسها ممثلة لمملكة الله) و»الأمير» الخاضع لها. ومن هنا برز أول حق للإنسان في المرجعية الأوربية وهو حقه في جسمه، وفي ملكيته والتمتع به وتمتيعه. وانطلاقا من تأصيل هذا الحق ثقافيا، صار ينظر إلى الإنسان، لا على أنه الكائن المدنس، بل أنه الكائن الذي يجب أن تتجه جميع أنواع أنشطته إلى تنمية جسمه وروحه وحريته وكرامته. وبذلك، تكون النهضة الأوربية قد مكنت الإنسان الأوربي من تجاوز الثنائية ما بين الروح والجسد والتي روج لها بكل الوسائل كمعتقد واهي مكن من ضمان سيطرة الكنيسة على مصير الشعوب الأوروبية لقرون. وبذلك تمت إعادة الاعتبار إلى الجسد بوصفه جزءا لا يتجزأ من ماهية الإنسان نفسه، الإنسان الذي أصبح ينظر إليه على أنه يسمو بإنسانيته ذاتها، لا بشيء خارجها. 2- مفهوم الإنسان في القرآن على عكس ما حدث في التاريخ الأوروبي من تطورات في شأن «مفهوم الإنسان»، نجد أن هذا المفهوم كان دائما حاضرا في النصوص القرآنية (أي أنه كان مفكر فيه وقابل للتفكير فيه). فالمفسرون القدامى فكروا فيه حسب مشاغلهم آنذاك، ولكن لم يرق تفكيرهم إلى مستوى الأبعاد والآفاق نفسها التي تؤطر الرؤية المعاصرة بسبب تداخل الحرية في التفكير (مجال «المفكر فيه»، ومجال «القابل للتفكير فيه») بالسلط السياسية التقليدية. لكن على مستوى النصوص القرآنية التي تناولت «مفهوم الإنسان»، يقول الجابري، نجدها تلتقي على طول مع المفهوم الذي شيده الفكر الأوربي الحديث، ويتبناه الفكر العالمي المعاصر. لقد أكد القرآن أن الله فضل الإنسان على جميع المخلوقات بما في ذلك الملائكة وميزه وحده ببعده الحضاري: صانع الحضارة (انظر مفهوم العمران لابن خلدون). إضافة إلى هذا التفضيل، خلت كل الآيات القرآنية من ثنائية النفس والجسد التي كانت منطلقا «للمفكر فيه» أوروبيا في العصور الوسطى. فالقرآن الكريم جعل من الإنسان روح وجسد ولم ينقص من قيمة الجسم قط، بل مجدهما الاثنين معا. فمفهوم الإنسان ككائن حضاري كرمه الله بالعقل والنطق والتمييز والحظ، وكجسم وصورة حسنة قويمة وقامة معتدلة (للجسم حق والنفس حق). ومن ضمن الآيات التي أثبتت هذا التفضيل والتمجيد نذكر: * «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» (سورة الإسراء الآية 70). * «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا. قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا» (سورة الإسراء الآيتان 61-62). * «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم» (سورة البقرة الآيات 29-31). * «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين. وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم» (سورة البقرة الآيات 33-36). * «هو أنشأكم من الأرض.واستعمركم فيها» (سورة هود الآية 60). * «...وأثاروا الأرض وعمروها...» (سورة الروم الآية 8). * «ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون» (سورة يونس الآية 14). * «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» (سورة التين الآية 4). * «وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات» (سورة غافر الآية 64). المحور الثاني: تطابق الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان الكونية بين الحضارتين الإسلامية والغربية 1- مسألة «التطابق بين نظام الطبيعة ونظام العقل» بخصوص اعتبار العقل المرجعية التي تعلو على كل شيء، دعا القرآن الكريم صراحة مرارا وتكرارا إلى تأمل نظام الطبيعة واستخلاص النتيجة منه، بل أكثر من ذلك، ختمت عدة آيات بعبارات توحي بأن نظام الطبيعة هو نفسه نظام العقل. وفي هذا الصدد، قالى تعالى: «إن خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، لآيات لقوم يعقلون» (سورة البقرة الآية 163). ونفس هذه الحقيقة أقرها كذلك فلاسفة أوربا حيث أكدوا أن الله هو الذي خلق نظام الطبيعة ونظام العقل على ما هما عليه من التطابق والتساوق، وأنه ما كان للعقل أن يدرك مغزى نظام الطبيعة لو لم يكن نظامه هو نفسه مطابقا لنظام الطبيعة، ولو لم تكن أحكام العقل وقوانين الطبيعة متطابقة كذلك. ونظرا للأهمية التي أعطاها الله (سبحانه وتعالى) للعقل البشري، نجد القرآن يوظف مرارا وتكرار العقل سلطة وحكما، مؤنبا الذين يخضعون للتقليد، داعيا إياهم إلى تحكيم العقل وحده (الآية): «قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون» (سورة الشعراء الآيات 71-74). إنها دعوة ربانية صريحة إلى اعتماد العقل وترك التقليد والاهتداء بآيات الكون (أي نظام الطبيعة). 1- الدعوة إلى الرجوع إلى «حالة الطبيعة» جاءت الدعوة إلى الرجوع إلى «حالة الطبيعة» في القرآن مرادفة للدعوة إلى «نظام الفطرة»، حيث عندما يدعوا الله إلى الرجوع إليه فإن ذلك يتطابق و»حالة الطبيعة». وبذلك يكون «قانون الفطرة» هو «القانون الطبيعي» الذي فطر الله الناس عليه. الأهمية القصوى لهذه المطابقة ليست اعتباطية بل مستمدة من كون اعتبار الإسلام دين الفطرة، دين إبراهيم السابق للأديان (يقول الجابري أن المقصود ب»الإسلام» هنا هو دين إبراهيم، لأنه أصل كل دين وهو سابق على كل خلاف ديني، إذ هو الفطرة). وفي هذا الشأن، جاء في القرآن ما يبرر مقاربة «حال الفطرة» بالمفهوم الإسلامي مع «حالة الطبيعة» التي أسس عليها فلاسفة القرن الثامن عشر بأوربا مفهوم حقوق الإنسان مضامينه الحديثة، حيث يقول الله تعالى: * «فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون» (سورة الروم الآية 29). * «ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وما كان من المشركين» (سورة آل عمران الآية 66). * «إن الدين عند الله الإسلام»(سورة آل عمران الآية 19) . * وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه»(سورة آل عمران الآيتان 83-84). * «وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم» (سورة آل عمران الآية 19) خاتمة فإذا حاول جون جاك روسو، المؤسس لحقوق الإنسان على فكرة «حالة الطبيعة»، إثبات معقولية المسيحية وتبرير ضرورة الاستغناء على التقاليد الكنائسية، فإن إثبات «معقولية الإسلام» وتأصيلها ثقافيا تتطلب منا كذلك التشبث بالعقلانية والإيمان بالاختلاف والتطور والمستقبل والابتعاد عن التقليد ودعوات الرجوع إلى الوراء والاستغلال «السياسوي» للدين. لقد حان الوقت لتربية الأجيال على التمييز ما بين مجال العقل (الأمور التي توافق أو تناقض العقل) ومجال الوحي (الأمور التي تعلو عليه). ولتوضيح هذا الأمر، أعطى جون لوك أمثلة مجسدة لذلك حيث قال : «فإن القول بوجود إله واحد قول يتفق مع العقل، والقول بوجود أكثر من إله قول مناقض للعقل، والقول ببعث الأموات قول يعلو على العقل». إن ما تحتاجه الإنسانية اليوم هو الاحتكام إلى العقل من أجل توفير شروط تحسين ظروف العيش المشترك. وهذا الهدف لن يتأتى ما لم تحسم المجتمعات في الصراعات المفتعلة المعرقلة للمساعي التحديثية الرامية إلى تحرير الإنسان من القيود المصطنعة وتمكينه من تفجير طاقاته إلى أقصى الحدود، ومن أن يطلق العنان لمخيلته لتنمية قدراته الإبداعية، واستغلال طاقته الجسمانية وتسخير إمكانيات روحه وجسمه الفنية والجمالية من أجل إسعاد نفسه ومحيطه. إن فلاسفة أوربا، الذين حملوا مشعل «التنوير» الثقافي، وأسسوا ل»حقوق الإنسان» في الفكر الحديث، لم يقفوا بذلك ضد الدين كدين، وإنما وقفوا ضد نوع من الممارسة الدينية التي كانت تقوم بها الكنيسة. كما أن بناء النظريات على فرضية تطابق ما هو «عقلي» مع ما هو «طبيعي»، لا يعني اعتبار هذا الأخير بديلا من «الإلهي»، بل هو كل موحد. ف»الطبيعي» لا يمكن أن يحل محل «الإلهي»، ولا «العقل» محل «الدين»، بل، بالعكس، فالدين الطبيعي عندهم هو نفسه الإلهي. وهذه الأمور لا تتناقض مع مقومات الدين الإسلامي. فهذا الأخير يدعو بدوره إلى العقلانية لإزاحة التقاليد الواهية وسلطتها المكبلة ليحل محلها العقل وسلطته. فاعتماد العقل (تطابق نظام طبيعة مع نظام العقل) والفطرة (حالة الطبيعة) والميثاق والشورى (العقد الاجتماعي) هي نفس الأسس التي اعتمدها رواد الفكر الفلسفي الأوروبي من أجل بلورة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. أما فيما يخص الجدل في تحديد «مفهوم الإنسان» في المرجعيتين الغربية والإسلامية، فقد توج التفاعل العقلاني بالتقائية فندت المساعي «الكنائسية» للتمييز ما بين الجسد (المدنس) والروح (المقدس). لقد فضل الله الإنسان كجسد وروح على سائر المخلوقات بما في ذلك الملائكة وكرمه ومتعه بجملة من الحقوق حث القرآن على احترامها وتأصيلها في ثقافة الشعوب والأمم. وهنا يقول الجابري :» ... ذلك أن الإنسان في المنظور القرآني هو روح وجسم، ولم يرد في القرآن قط ما يحط من قدر الجسم، بل بالعكس يذكر الجسم في القرآن في معرض الأمور التي بها يكون الفضل والتفوق، من ذلك قوله تعالى «وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم» (سورة البقرة الآية 245).. انتهى لميزانية الدولة ثلاثة أبعاد أساسية، تتوزع بين المالي و الاقتصادي و الاجتماعي. من جهة أولى، يتعلق الأمر بضمان التدبير الأمثل للموارد المالية المحدودة بطبيعتها، من أجل تحقيق أهداف السياسة الحكومية عبر توزيع ناجع للاعتمادات المالية، وفق سلم أولويات محددة مسبقا. تتوخى الميزانية ثانيا، تحقيق أهداف ماكرو اقتصادية تتعلق بتحسين المؤشرات العامة للاقتصاد الوطني، عبر تشجيع خلق الثروات و بالتالي الرفع من نسب النمو المحققة، وضمان استدامتها في الزمان، في تلازم وترابط بين الاختيارات الآنية وتلك المهيكلة البعيدة المدى. وفي الأخير، تتكفل الميزانية كذلك بتوزيع الثروات الوطنية وفق نسق يضمن الإنصاف، والسعي للتقليص من حجم الفوارق الاجتماعية والمجالية، وحتى تلك المرتبطة بالنوع الاجتماعي. الأهداف الثلاثة إذن تبقى مترابطة فيما بينها بالنظر لكون تحقيق بعد من الأبعاد الثلاثة، يستوجب في الآن ذاته الأخذ بعين الاعتبار إمكانيات وحدود تحقيق الأبعاد الأخرى، مما يطرح ضرورة التحكيم و القيام باختيارات تبقى أولا وأخيرا ذات طبيعة سياسية . يستمد النقاش حول الميزانية أهميته البالغة من الدور الحيوي للميزانية العامة للدولة وقانون المالية في تصريف السياسة الحكومية في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك من تجسيد للإرادة السياسية للناخبين و ترجمة عملية لتداول السياسات العمومية التي من المقترض أن تقترن بتناوب الحكومات على موقع المسؤولية. و نحن اليوم بصدد مناقشة مشروع ميزانية سنة 2013 و الذي قدمت خطوطه العريضة أمام ممثلي الأمة، يلاحظ أن القانون المالي لم يتبوأ بعد مكانته الأساسية في تحديد و تنفيذ اختيارات اقتصادية و اجتماعية بديلة تعطي للتناوب السياسي معناه الحقيقي و دلالاته الرمزية، بكل ما يعنيه ذلك من ربط وثيق بين إرادة الناخبين من جهة، و طبيعة التوجهات الحكومية. و إن كنا متفقين عموما حول نوعية الأهداف التي يسعى مشروع قانون مالية 2013 إلى تحقيقها، و الذي يتوخى حسب الحكومة تحقيق ثلاثة أهداف ذات أسبقية، تتعلق بتفعيل الإصلاحات الهيكلية الضرورية وتحسين الحكامة مع الحرص على استعادة التوازنات الماكرو- اقتصادية والمالية، والرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني، وتخفيض الفوارق الاجتماعية والقطاعية، فإن المتأمل في مقتضياته التفصيلية سيستنتج لا محالة أن مشروع ميزانية 2013 يندرج في إطار استمرارية ساذجة، تجعل مشروع القانون المالي وثيقة «تدبيرية» في معناها الضيق بنكهة محاسباتية،. واقع يستدعي الإشارة إلى ثلاث نقاط أساسية. أولا: مشروع قانون مالية 2013، هو عمليا أول قانون مالي تعده الحكومة الجديدة منذ تنصيبها، بعدما عمدت خلال السنة الماضية إلى تحيين فرضيات المشروع الذي أعدته الحكومة السابقة. وضع يفترض ضرورة ترجمة البرنامج الاقتصادي و الوعود الانتخابية للأحزاب المشكلة للأغلبية، و على رأسها حزب العدالة و التنمية الذي يقود التجربة الحكومية، و هو ما يمكن تسجيل غيابه تماما بين سطور و جداول مشروع الميزانية التي إما لا تدرج تلك الوعود أو تقترح إجراءات لا تتضمنها برامجها الحزبية. ثانيا: يلاحظ غياب توجه مذهبي اقتصادي واضح في المشروع المعروض للمناقشة و التصويت، حيث تتضمن نفس الوثيقة إجراءات و قرارات تتعارض في ما بينها أو تحقق أهداف متناقضة. أبرز مثال على ذلك، الاقتطاعات الضريبية الجديدة المقترحة و التي ستهم في نفس الوقت الشركات الكبرى و جزءا من الطبقة المتوسطة. بمعنى أن الحكومة تفتقر لتوجه ضريبي واضح، و هو ما يجعل اختياراتها الضريبية شبيهة بالعشوائية. ثالثا: يتبنى مشروع قانون المالية مختلف الاستراتيجيات و السياسات القطاعية المنطلقة منذ سنوات، بشكل يسترعي الاستغراب، بالنظر لغياب أي محاولة تقييم أو تقويم لتلك السياسات من طرف الحكومة الحالية، علما أن جزءا كبيرا منها قد استنفذ أدواره، في حين تحتاج سياسات أخرى لإعادة النظر. انطلاقا مما سبق، يتضح بالملموس أننا بصدد تناوب سياسي لم يفضي بالمقابل إلى تداول حقيقي للسياسات العمومية، و هو ما قد يجد تفسيره في عوامل اقتصادية و سياسية متداخلة. في هذا الإطار تجب الإشارة إلى أن القرار الاقتصادي بالمملكة ظل و لسنوات بيد «دوائر عليا' تحكمت في التوجهات الأساسية للاقتصاد الوطني و طبيعة السياسات الاقتصادية للدولة، بعيدا عن نطاق التدخل الحكومي أو المراقبة و المسائلة البرلمانية. وضع، و إن عرف بعض التحول منذ تنصيب حكومة التناوب التوافقي سنة 1998، و اتخاذها لمجموعة من القرارات الإرادية، فإن واقع الحال أتبث بالملموس «سيادة» توجهات و أولويات بعينها مهما كانت طبيعة التوجه الإيديولوجي لمكونات الأغلبية الحكومية. بالمقابل، و بالنظر لطبيعة النقاش/الصراع السياسي لمغرب الاستقلال، و خصوصية العملية الانتخابية ببلادنا، فإن البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية كانت تتميز دائما بالضعف في شقها الاقتصادي على الخصوص، و افتقارها للواقعية و هو ما عزز الاختيارات التقنوقراطية للدولة في هذا المجال. ضعف القوة الاقتراحية للأحزاب و غياب برامج اقتصادية حقيقية تنهل من توجهاتها المذهبية و الإيديولوجية، فتح المجال أمام «الإدارة» كبنية بيروقراطية قوية داخل الوزارات تستمد شرعيتها من «التجربة» و «الخبرة» بالإضافة للموارد البشرية المتمرسة على تدبير الشأن العام و إكراهات السلطة، بعيدا عن تقلبات الزمن الانتخابي. وضع ملتبس كهذا لا يمكن أن يساعد على إعطاء مصداقية للسياسة و اللعبة الديمقراطية، طالما لم ترتبط العملية الانتخابية في ذهن المواطن بتداول للسياسات العمومية المطبقة. هدف يرتبط تحقيقه بتعزيز القدرة التدبيرية للأطر الحزبية، و تمكين الهيئات السياسية من الوسائل اللوجيستيكية و البشرية، مع تسهيل الولوج للمعلومة و جعل الإدارة في خدمة القرار السياسي و السلطة الحكومية من أجل تنفيذ برنامجها الانتخابي.