المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال (بوريطة)        هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام        وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الريسوني : الحرية في الإسلام أصالتها وأصولها
نشر في التجديد يوم 18 - 02 - 2003

إذا كان لكل شيء ضد، فللحرية أضداد متعددة؛ فالتسلط والاستبداد، والقهر والاستعباد، والاحتلال والاستغلال، والأغلال والقيود، والحواجز والحدود. وكذلك التسيب والتحلل، والفوضى والاستهتار... كلها أضداد للحرية ونقائض ونواقض لوجودها وممارستها.
أضداد الحرية ونوا قضها
أضداد الحرية هذه ونوا قضها، قد تصيب الإنسان في جسمه فيسجن أو يعذب، أو في حياته فيقتل ويعدم، أو في سيادته فيسترق ويستعبد، أو في عزته وكرامته فيذل ويهان، أو في رزقه وماله فيمنع من كسبه أو من حرية التصرف فيه، أو في حرية القول والتعبير، فيمنع من الكلام، أو يعاقب إذا تكلم...
و كل هذه أحوال مقيتة بغيضة لا يرضاها حر لنفسه ولا لغيره، بل هي محنة ووبال على الإنسان فردا وعلى الإنسان جنسا.
غير أن أسوأ نواقض الحرية وأخطرها على الإنسان, هي تلك التي تصيبه في عقله وفكره وعلمه، وخاصة حينما تصبح حرية العقل وحرية الفكر وحرية الفهم مكبلة ومعاقة ذاتيا وداخليا، وبنوع من الاقتناع والارتياح.
الإسلام وحرية الفكر
ويوم جاء الإسلام، كان العرب- على سبيل المثال- يتمتعون بدرجة عالية من الحرية ومن العزة والكرامة؛ يتحركون ويتنقلون بحرية، ويتكلمون ويعبرون بحرية، ويتصرفون في مكاسبهم وممتلكاتهم بحرية، ويحاربون أو يسالمون بحرية... ولكن حرية الفكر كانت عندهم مشلولة ومعطلة، أو على الأقل معاقة ومكبلة. ولم يكن ذلك من خارجهم ومن متسلط عليهم، بل كان من ذاتهم ومن داخلهم، وبرضاهم وتمسكهم.
ومع العرب كان يعيش اليهود في تجمعات سكنية مستقلة، تتمتع أيضا بقدر كبير من الحرية. وكانوا أصحاب تراث ديني وثقافي عظيم، من أهم ما كانت تملكه البشرية يومئذ. ولكنه تراث أصبح معطلا ومكبلا، وأصبح أصحابه مثلهم ( كمثل الحمار يحمل أسفارا ) .
ولقد كان في مقدمة مقاصد البعثة المحمدية تحرير العقل والفكر، ورفع ما أحاط بهما من آصار وأغلال وقيود وأوهام. قال تعالى: ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ).
لقد جاء الإسلام رسالة تحريرية على كافة الأصعدة، وفي مقدمتها صعيد الفكر والفهم والعلم والتدين. وإذا كنا لا نجد في الإسلام مصطلح "الحرية"، فإننا نجد الإسلام مليئا بمعاني الحرية وبالقواعد المؤسسة للحرية، وبالقيم والتوجيهات الداعمة للحرية.
في البدء كانت الحرية
مما يلفت الانتباه في قصة خلق آدم كما يحكيها القرآن الكريم، تلك العناية والحفاوة البالغة التي أحيطت بها هذه الواقعة وهذا المخلوق:
- ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )
- ( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )
- ( لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم )
- (وعلم آدم الأسماء كلها )
ولم تقف الحفاوة عند هذا الإعلان الإلهي الجليل، ولا عند تسمية هذا المخلوق خليفة، ولا عند تصويره وتسويته بيد العناية الربانية، ولا عند النفخ فيه من روح الله تبارك وتعالى، ولا عند إسجاد الملائكةله وهم عباد بررة مكرمون، لم تقف الحفاوة الإلهية بالإنسان عند هذا، بل امتدت وسمت إلى حد إسكانه الجنة وإطلاق يده وحريته فيها، دون أن يكون قد فعل ما يستحق به شيئا من هذا كله ( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ) ولم يكن مع هذه الحرية المطلقة ومع هذه الإباحة الشاملة سوى استثناء رمزي، لا تعدو نسبته إلى الجنة وما فيها، أن تكون كقطرة في بحر أو حبة رمل في صحراء...
وهكذا خلق الإنسان أول ما خلق عزيزا كريما، وحرا طليقا. وإذا كانت الأخطاء وعوارض أخرى متعددة قد غيرت وتغير من وضعية الإنسان وتحد من حركته وحريته، فإنها لا يمكن أن تغير من أصله وجوهره.
فكرامة الإنسان وحريته هي أصله وهي الأصل فيه.
" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"
وهذا هو المعنى الذي ما فتئ العلماء والمفكرون ينصون عليه ويعبرون عنه، كل بطريقته وعبارته. وقد عبر عنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقولته الشهيرة " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"، ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليكرر ويقرر هذا المعنى في مادته الأولى التي تقول: " يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق".
محمد طاهر بن عاشور والرؤية الإسلامية للحرية
ولعل خير من تناول هذه المسألة من علماء الإسلام هو العلامة الشيخ محمد طاهر بن عاشور في كتابيه ( أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) و(مقاصد الشريعة).
ففي الكتاب الأول اعتبر الحرية هي إحدى المصالح الأساسية والضرورية التي يقوم عليها المجتمع ويجب على ولاة الأمور تحقيقها وصيانتها. وبعد استعراضه لمفهوم الحرية الذي يتضمن معنيين هما: حرية الرقبة، وحرية التصرف، قال: " والحرية بكلا المعنيين وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير".
وهذا التقييد أو - التحجير- للحرية لا ينبغي اللجوء إليه إلا عند الضرورة ومن أجل دوافع ومصالح راجحة، يقول رحمه الله:" إن الحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها (أي الحرية) نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق أن تسام بقيد إلا قيدا يدفع به عن صاحبها ضر ثابت أو يجلب به نفع".
ويؤكد أصالة الحرية و فطريتها في موضع آخر بقوله:" والحرية بهذا المعنى حق للبشر على الجملة، لأن الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة وأودع فيه القدرة على العمل فقد أكنَّ فيه حقيقة الحرية وخوله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة".
فابن عاشور يتجاوز ذلك النقاش والتأرجح الذي عرفه فلاسفة الحرية واللبرالية الغربيون حول أصل الحرية ومصدرها، هل هو الخلقة الأولى للأفراد وما فيها من نزوع إلى حرية التصرف واتباع هوى النفس وميولها، أم هو العقل والنظر العقلي، والعمل بمقتضاهما؟ وهي القضية التي يعرضها جون ديوي كما يلي: " كانت فكرة الحرية مرتبطة في تقاليد مذهب الأحرار n عند كل من الأمريكيين والإنجليز n بفكرة "الفردية"، أي بالفرد نفسه من حيث هو فرد. وكان هذا الارتباط وثيقا وكثير الورود على الألسنة، حتى خاله الناس أمرا ذاتيا أصليا. فكان الكثيرون يدهشون إذا ما سمعوا بأن أحدا يزعم أن للحرية مصدرا آخر وأساسا آخر غير طبيعة هذه الفردية نفسها. ومع ذلك فقد كان المأثور عند الأحرار في القارة الأوربية أن فكرة الحرية إنما ترتبط بناحية العقل والاستدلال. فالأحرار عندهم هم الذين يوجهون سلوكهم ويسيرون أمورهم بحسب ما يمليه عليهم العقل وحده، أما أولئك الذين يتبعون هواهم ويجرون وراء شهواتهم وحسهم، فمحكومون بهذا الهوى وبتلك الشهوات والحواس، فهم ليسوا بأحرار"
الرؤية الإسلامية لابن عاشور تتجاوز هذا التجاذب الثنائي في مرجعية الحرية ومعيارها، فكون الحرية صفة فطرية غريزية تلقائية، لا ينفي اعتمادها - تأصيلا وممارسة على العقل والنظر العقلي. وهذا ما يفسر لنا كون الحرية ولدت مع الإنسان، ولكنها أيضا ولدت مقيدة من اللحظة الأولى، ولو أن تقييدها جاء في البداية رمزيا واستثنائيا. يقول ابن عاشور:" وقد دخل التحجير في بني البشر في حريته من أول وجوده، إذ أذن الله لآدم وزوجه - حين خلقا وأسكنا الجنة - الانتفاع بما في الجنة، إلا شجرة من أشجارها. قال تعالى: ( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) ثم لم يزل يدخل عليه التحجير في استعمال حريته بما شرع له من الشرائع والتعاليم المراعى فيها صلاح حاله في ذاته، ومع معاشريه، بتمييز حقوق الجميع ومراعاة إيفاء كل بحقه" .
وهكذا تتأسس رؤية ابن عاشور إلى الحرية على أصالة مزدوجة متكاملة فيها: أصالة فطريتها الملازمة لكل فرد في خلقته، وأصالة مبدإ تقييدها وعقلنتها، باعتباره الشكل الوحيد الممكن لتحقيقها وإنجاحها. يقول في مثال آخر عن حرية العمل:" وأما حرية العمل فإن شواهد الفطرة تدل على أن هذه الحرية أصل أصيل في الإنسان، فإن الله تعالى لما خلق للإنسان العقل وجعل له مشاعر تأتمر بما يأمرها العقل أن تعمله، وميز له بين النافع والضار بأنواع الأدلة، كان إذن قد أمكنه من أن يعمل ما يريد مما لا يحجمه عنه توقع ضرر يلحقه... فكانت حرية العمل والفعل أصلا فطريا..."
وقد ألف الأستاذ محمد زكي عبد القادر كتابا لطيفا، يعد بمثابة استقراء لما قيل عن الحرية لدى مختلف الأمم والشعوب وعلى مدى عشرات القرون من الزمن. ويلخص المؤلف فكرة كتابه وثمرته بقوله في مقدمته:" وهذا الكتاب الذي أقدم له جمع أقوالا في الحرية والكرامة الإنسانية، اختيرت من مختلف اللغات في الشرق والغرب: من العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والإغريقية القديمة، واليونانية الحديثة، والإسبانية والإيطالية والألمانية، والأردية، والنرويجية، وعلى الجملة من عدد كبير من اللغات التي يتحدث بها البشر، ومن مختلف العصور. فيها أقول قيلت قبل الميلاد بألف سنة، وفيها أقوال قيلت منذ سنوات. وعلى طول ما يفصل بينها من الزمن لا تكاد تجد المعاني تغيرت، ولا حب الحرية والافتتان بها قل أو تحول. وفي هذا دليل على أن الحرية والكرامة الإنسانية ليستا شيئين ينموان بنمو الإنسان، ولكنهما شيئان ولدا معه وأحس بهما وكافح من أجلهما وأراق دمه في سبيلهما قد يتطور مدلولهما ويتقدم ويتسع، وقد يتخذ أشكالا متعددة، ولكنهما من حيث الجوهر باقيان خالدان."
وإذا كانت الحرية صفة فطرية من صميم خلقة الإنسان ومن صميم مؤهلاته الأولية، فمن الطبيعي أن يجعل الإسلام - وهو دين الفطرة - هذه الحقيقة أساسا مرجعيا في تشريعاته وأصوله التشريعية. ولتوضيح ذلك أعرض فيما بعض الأصول الإسلامية المترجمة لمبدأ أصالة الحرية.
الإباحة الأصلية:
من القضايا التي يتطرق إليها ويناقشها عامة الأصوليين قضية حكم الأفعال والأشياء قبل ورود الشرع، أي في حالة عدم وجود شرع, وكذلك حكم الأفعال والأشياء التي سكت عنها الشرع بعد وروده، فلم يخصها بحكم.
ويحكي الأصوليون في هذه المسألة ثلاثة أقوال مشهورة، مع قول رابع يمكن إضافته وتمييزه عند التمحيص والتدقيق.
1. القول الأول لجمهور الأصوليين، وخاصة منهم الحنفية، وعامة الفقهاء. وهو قول الظاهرية ومفاده أن كل ما لم يرد فيه شرع، أو لم يخصه الشرع بحكم، فالأصل فيه أنه مباح. وهذا ما يقصدونه بعبارة "الأصل في الأشياء الإباحة" أو "الإباحة الأصلية".
2. القول الثاني، وهو لبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، ويرون أن الأصل في الأشياء هو الحظر والمنع، حتى يرد دليل الإباحة.
3. القول الثالث، وهو لكثير من الأصوليين المتكلمين، من معتزلة وأشاعرة، وهو القول بالوقف، باعتبار أن كلا من الإباحة والتحريم حكم شرعي وحيث لا دليل ولا خطاب من الشرع فلا حكم، أي لا تحريم ولا إباحة، وإنما نتوقف عن إصدار حكم في المسألة وفروعها التطبيقية.
4. أما القول الرابع، وهو قلما يذكر، فهو التفريق بين الأشياء النافعة، والأشياء الضارة. فالأصل في الأولى الإباحة، والأصل في الثانية التحريم. وبهذا قال الفخر الرازي ، وتبعه بعض المتأخرين.
وأنا أريد أن أقف عند القولين الأول والثاني. فالأول مع الحرية وأنها هي الأصل، والثاني على العكس. أما القولان الآخران فيؤولان في النهاية إلى الوفاق العملي مع القول الأول.
فالقول بالوقف، هو مجرد امتناع من إصدار "حكم شرعي" بالإباحة أو الحظر. والنتيجة العملية أن الناس في هذه الحالة يبقى أمرهم بيدهم، فمن شاء أقدم ومن شاء أحجم. فالقول بالوقف لا يمكن أن يتحول إلى تحفظ وتعرض، وإلا التحق بالحظر والتحريم، وإذا ترك الناس لشأنهم فتلك هي الإباحة عمليا، وإن لم يصدر بشأنها "حكم شرعي". فأصحاب هذا القول يختلفون مع القول الأول نظريا لا عمليا، فهو خلاف كلامي ليس إلا.
وأما القول الرابع، فهو وإن كان فيه تدقيق وجيه وله سنده في نصوص الشرع، فهو بمثابة ذكر الاستثناء عند ذكر القاعدة. ذلك أن ما خلق الله تعالى من أشياء كله في الأصل مفيد ونافع، والضرر فيه عارض وشاذ. فإذا قررنا أن الأصل في المنافع الإباحة، فكأننا قررنا أن الأصل العام في الأشياء هو الإباحة، وهذا هو القول الأول. وإذا قررنا أن الأصل في المضار التحريم، فكأننا قررنا أن التحريم وارد على سبيل الاستثناء في الأشياء الضارة ضررا راجحا، وهي ذات نسبة ضئيلة بجانب ما في الكون والحياة من منافع وفوائد ومصالح.
وأعود للقول الأول لأوضحه وأوضح أهم مستنداته، وهو القول بأن الأصل العام في الأشياء والأفعال هو الإباحة، أي حرية التصرف.
يستند هذا القول إلى جملة من الآيات والأحاديث، فيما يلي بعضها.
* قوله تعالى: ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) فهذه الآية تفيد أن جميع ما في الأرض قد خلق للمخاطبين n وهم بنو آدم n ليستعملوه وينتفعوا به، كما قال في الآية الأخرى ( ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) فالأرض مستقرنا وما فيها متاع لنا.
ولا يقف الأمر عند الأرض وما فيها، بل يتجاوزها إلى السماوات وما فيها (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) ، ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه )
- قوله عز وجل ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) وهذا معناه أن ما حرمه الله تعالى هو ما ذكره ونص عليه وفصل القول فيه. ومعناه أيضا انتفاء التحريم عما سواه. وقد جمع ابن حزم مضمون هذه الآية مع مضمون الآية الأولى ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) وركب منهما نتيجة قاطعة بقوله: " فصح بهاتين الآيتين أن كل شيء في الأرض وكل عمل فمباح حلال إلا ما فصل الله تعالى تحريمه باسمه، نصا عليه في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم..." .
قال ابن حزم: " ثم زادنا تعالى بيانا فقال: (هَلُمشهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم )، فصح بنص هذه الآية صحة لا مرية فيها أن كل ما لم يأت النهي فيه باسمه من عند الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حلال، لا يحل لأحد أن يشهد بتحريمه" .
على أن كلام ابن حزم رحمه الله مع متانته وقوة منطقه n يحتاج إلى شيء من الاستدراك والتدقيق في بعض ألفاظه، وهو ما سأورده في ثنايا الفقرة التالية:
- استدل القائلون بالإباحة الأصلية كذلك بعدة آيات نصت على إباحة الطيبات وما خلقه الله من زينة ورزق، وتنكر على من حرموا ما خلق الله لعباده، كما تنص بعض هذه الآيات n وهو محل الاستدراك على كلام ابن حزم n على تحريم ما كان خبيثا. قال تعالى: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) ، ( يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) ، ( اليوم أحل لكم الطيبات ) .
فكل هذه النصوص تفيد صراحة وقطعا أن كل ما كان زينة وطيبا، فحكمه الأصلي هو الحل والإباحة، ولا يتعلق به التحريم إلا عرضا ولأسباب عرضية ليست ذاتية.
ومقابل هذا، فإن ما كان خبيثا فحكمه الأصلي هو التحريم، سواء كان مما فصل الله تعالى ومما ذكره باسم، أو لم يكن كذلك وعرفناه بصفته ( الخبث ). فهذا هو الاستدراك الذي لابد منه على كلام ابن حزم المتقدم، حيث يلح أن الحرام هو فقط ما ذكر الله تحريمه بالاسم. والحق أن الله تعالى حرم أشياء بصفتها، فمتى ثبتت تلك الصفة ( الخبث والضرر ) ثبت التحريم. ونبقى معه في أن كل ما لم يتصف بالخبث فحكمه الإباحة وحرية الاستعمال والتصرف.
من تطبيقات القاعدة وآثارها:
قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة "، تعني أن الإنسان حر مسموح له بالتصرف في نفسه وفيما يزدحم به هذا الكون من خيرات وكائنات ومنافع وإمكانات. فهذا هو الأصل المعتمد حتى يأتي استثناء شيء ممن له الأهلية وله الحق في ذلك، أو حتى يظهر فساد شيء ويثبت خبثه وضرره.
وهذه القاعدة قبل أن تحرر الإنسان في سلوكه وتصرفه، تحرره في إيمانه وضميره. فهو بفضلها يعلم ويطمئن أن ما لم يرد فيه تحريم ولا تقييد، وكان له فيه رغبة ومصلحة فهو له، ولا حرج فيه ولا خوف منه، وأن تصرفه ذلك حلال سائغ، فضلا من الله ونعمة.
ومن هنا ندرك ذلك السر والخيط الرابط بين تحليل الطيبات وتحريم الخبائث من جهة، وإزالة الأغلال والآصار من جهة ثانية. وأعني بذلك ما ذكره الله في صفات رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) .
فالمؤمن إذا أصبح شاكا خائفا من شبح التحريم والإثم حيثما فكر وقدر، وكلما هم وعزم، وأينما تحرك واتجه، لمجرد أن كل ما ليس منصوصا على إباحته فهو حرام، أو يحتمل أن يكون حراما، أو قيل أنه حرام، أو فيه شبهة الحرام... هذا المؤمن قد يدخل في أزمة إيمان وضمير، قبل أن يدخل في أزمة تصرف وتدبير.
ومن المجالات التي تحتاج إلى استحضار هذه القاعدة فيها، من أجل رفع الضيق والحرج والحيرة عن الناس، وحتى عن عقول الفقهاء أنفسهم، مجال المأكولات.
وفي هذا المجال أنزل الله تعالى عدة آيات ( كلوا من الطيبات ) ، ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات...) ، ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم...) ، ( فكلوا مما في الأرض حلالا طيبا )
ومع هذا كله نجد خلافات ونزاعات فقهية لا تنتهي في كثير من الأطعمة والحيوانات - أحلال هي أم حرام - مما يمكن رده إلى هذه الآيات وحسمه بها بلا تردد. فكل ما كان طيبا n أي يستطيبه الناس وينتفعون به n فهو حلال بلا تردد.
ولتوضيح هذه المسألة بكفاءة وجدارة، أستسمح القارئ الكريم في نقل نص مطول للعلامة المجدد محمد الطاهر بن عاشور، جادت به قريحته عند تفسير آية المائدة (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات )
فبعد أن ذكر طرفا من اختلاف الفقهاء في تحديد معنى الطيبات ومعيار تحديد ما هو طيب وما ليس بطيب، حيث أرجع بعضهم ذلك إلى عادات العرب وأذواقهم، وبعضهم أرجعه إلى المتحضرين من الناس دون أهل البداوة والبدائية... بعد ذلك قال رحمه الله: " وفيه من التحكم في تحكيم عوائد بعض الأمة دون بعض ما لا يناسب التشريع العام، وقد استقذر أهل الحجاز لحم الضب بشهادة قوله n صلى الله عليه وسلم n في حديث خالد بن الوليد " ليس هو من أرض قومي فأجدني أعافه " ومع ذلك لم يحرمه على خالد.
والذي يظهر لي: أن الله قد ناط إباحة الأطعمة بوصف الطيب فلا جرم أن يكون ذلك منظورا فيه إلى ذات الطعام، وهو أن يكون غير ضار ولا مستقذر ولا مناف للدين، وأمارة اجتماع هذه الأوصاف أن لا يحرمه الدين، وأن يكون مقبولا عند جمهور المعتدلين من البشر، من كل ما يعده البشر طعاما غير مستقذر، بقطع النظر عن العوائد والمألوفات، وعن الطبائع المنحرفات. ونحن نجد أصناف البشر يتناول بعضهم بعض المأكولات من حيوان ونبات، ويترك بعضهم ذلك البعض. فمن العرب من يأكل الضب واليربوع والقنافذ، ومنهم من لا يأكلها. ومن الأمم من يأكل الضفادع والسلاحف والزواحف ومنهم من يتقذر ذلك، وأهل مدينة تونس يأبون أكل لحم أنثى الضأن ولحم المعز، وأهل جزيرة شريك يستجيدون لحم المعز، وفي أهل الصحاري تستجاد لحوم الإبل وألبانها، وفي أهل الحضر من يكره ذلك، وكذلك دواب البحر وسلاحفه وحياته. والشريعة أوسع من ذلك كله فلا يقضي فيها طبع فريق على فريق. والمحرمات فيها من الطعوم ما يضر تناوله بالبدن أو العقل كالسموم والخمور والمخدرات كالأفيون والحشيشة المخدرة، وما هو نجس الذات بحكم الشرع، وما هو مستقذر كالنخامة وذرق الطيور وأوراث الأنعام، وما عدا ذلك
لا تجد فيه ضابطا للتحريم إلا المحرمات بأعيانها. وما عداها فهو في قسم الحلال لمن شاء تناوله. والقول بأن بعضها حلال دون بعض بدون نص ولا قياس هو من القول على الله بما لا يعلمه القائل، فما الذي سوغ الظبي وحرم الأرنب، وما الذي سوغ السمكة وحرم حية البحر، وما الذي سوغ الجمل وحرم الفرس، وما الذي سوغ الضب والقنفذ وحرم السلحفاة، وما الذي أحل الجراد وحرم الحلزون، إلا أن يكون له نص صحيح، أو نظر رجيح، وما سوى ذاك فهو ريح."
وما قيل في مجال المطعومات يقال في سائر المجالات وكافة التصرفات والمعاملات، لا تحريم إلا ما حرمه الله باسمه أو حرمه بصفته ( الخبائث والمضار)، ولا تقييد إلا من طريق معقول ومصدر مشروع.
وبسبب ما خيم على هذه القاعدة من تشكيك وتشويش نظري، ومن إغفال أو إهمال عملي، فقد أصاب المسلمين عنت كبير، في فكرهم وفقههم وحياتهم. ففي مجال المكاسب والمهن والمعاملات المالية، - وقد جد منها في حياة المسلمين، في ديارهم وفي غير ديارهم، ما لا يحصى n نجد لدى كثير من المفتين والدعاة والواعظين نزوعا شديدا نحو التضييق والتحريم والتعسير، حتى ليبدو أن القاعدة عندهم هي أن الأصل في الأشياء التحريم، وأن كل جديد فهو متهم. ويحسبون أن هذا قوة في العلم، وقوة في الدين، وقوة في التقوى، وما هو إلا ضعف في النظر، وضعف في التمييز، وضعف في التحرر الفكري.
وقد أدى هذا النظر المقلوب إلى حرمان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مما لا يحصى من فرص الكسب والإنتاج والتطور والتقدم والتأثير والتغيير، في المجالات الاقتصادية والسياسية والمهنية والتعليمية والإعلامية والفنية، وسائر مجالات الحياة... فكان شأن هؤلاء المفتين أشد وأسوأ من أولئك الذين قال عنهم ابن القيم "أفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله ... ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله."
وأختم هذه القاعدة بذكر هذا الأنموذج. فقد كنت سنة 1997 في بلد عربي، وتحدثت مع بعض قادة الحركة الإسلامية هناك عن الانتخابات البرلمانية التي كانت وشيكة في المغرب، فسألني أحدهم: هل سترشحون نساء منكم؟ قلت: نعم. فقال متعجبا (أو ربما مستنكرا): وهل عندكم فتوى تبيح لكم ذلك؟ فقلت له: نحن سنرشح النساء، وإذا كانت عندكم فتوى تحرم ذلك فابعثوا بها إلينا لننظر فيها وفي دليلها...
الأصل براءة الذمة
هذه القاعدة هي شقيقة القاعدة السابقة، أو هي الوجه الآخر لها. و هي تعني أن ذمة الإنسان بريئة خالية من أي حق عليها أو تكليف يلزمها، حتى يثبت شيء من ذلك بدليله و حقه. و حرية الناس كما تعاق و تضيق بالمحرمات و الممنوعات، فإنها أيضا تعاق و تضيق بالتكاليف و الالتزامات. فلهذا كانت أصالة الحرية محمية من ضائقة التحريم بالإباحة الأصلية، ومحمية من ضائقة الإلزام بالبراءة الأصلية. فلا تحريم إلا بدليل و لا إلزام إلا بدليل. و في هذا المعنى يقول ابن القيم " لا واجب إلا ما أوجبه الله، و لا حرام إلا ما حرمه الله، و لا دين إلا ما شرعه الله "
وأصل هذه الأصول في الإسلام، هو أن الناس كلهم عباد متساوون، فلا يحق n في الأصل - لأحدهم أن يتحكم في غيره و أن يقيد حريته. بل الأصل أن من يتحكم في العباد و يقيد حرية العباد هو رب العباد.
و أما غيره فان مارس شيئا من ذلك، فيجب أن يكون بالتبعية و في حدود ما هو مأذون و مشروع من صاحب الحق الأصلي. فهو سبحانه لا يمكن أن يحيف أو يتعسف على أحد.
يقول العلامة ابن عاشور" و إن موقف تحديد الحرية موقف صعب و حرج ودقيق على المشرع غير المعصوم، فواجب ولاة الأمور التريث وعدم التعجل، لان ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد و جلب المصالح الحاجية من تحديد الحرية يعد ظلما" و قال في موضع آخر " و اعلم أن الاعتداء على الحرية نوع من أنواع الظلم"
و مما استدل به ابن حزم على تأصيل هذا الأصل حديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم " دعوني ما تركتم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، و إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
قال ابن حزم" فهذا حديث جامع لكل ما ذكرنا، بين فيه عليه السلام انه إذا نهى عن شيء فواجب أن يجتنب،و انه إذا أمر بشيء فواجب أن يؤتى منه ما بلغت الاستطاعة،و أن ما لم ينه عنه و لا أمر به فواجب أن لا يبحث عنه في حياته عليه السلام. وإذ هذه صفته ففرض على كل مسلم أن لا يحرمه و لا يوجبه" وبناء على هذه القاعدة- قاعدة البراءة الأصلية- لا يصح و لا يجوز لأحد من الناس وضع عبادات أو الزيادة في عبادة وضعها الشارع، أو الزيادة في شروطها وصفاتها.
ويدخل في هذا أول ما يدخل، الابتداع في الدين. فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. والابتداع نوع من الزيادة في الدين، و خاصة في معتقداته وعباداته. فهو افتئات على الله و تحكم على عباد الله. قال تعالى ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)
ويدخل في هذا الباب، مما هو تجاوز للبراءة الأصلية، ما يضعه بعض الفقهاء من شروط إضافية لبعض الأحكام و التكاليف الشرعية، سواء كانت في العبادات أو المعاملات أو غيرها.
و قد كان الإمام مالك رحمه الله ينفر من إلزام الناس بما لم يرد في كتاب و لا سنة و لا جرى به العمل عند الصحابة رضي الله عنهم. قال ابن القصار في مسالة استصحاب البراءة الأصلية " ليس في ذلك عن مالك رحمه الله نص، و لكن مذهبه يدل عليه، لأنه احتج في أشياء كثيرة سئل عنها فقال : لم يفعل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك ولا الصحابة رحمة الله عليهم. وكذلك يقول : ما رأيت أحدا فعله. وهذا يدل على أن السمع إذا لم يرد بإيجاب شيء لم يجب، و كان على ما كان من براءة الذمة"
ومن مقتضيات هذه القاعدة أيضا أن الناس أحرار في أموالهم وممتلكاتهم، لا يفرض عليهم شيء و لا يؤخذ منهم شيء إلا بدليل و بطريق مشروع ولاعتبارات راجحة و مقدمة.
خاتمة
وبعد، فقد ركزت في هذا المقال على الحرية في أصولها وأسسها الفكرية و في أبعادها المنهجية. و قد نزعت في حديثي إلى هذه الناحية: أولا لما هو معلوم من كون الحرية في مجالاتها و قضاياها السياسية والاجتماعية حاضرة بقوة وبكثافة فيما يقال ويكتب عن الحرية. فلعلي بهذا الاختيار أكون مسهما في إعادة التوازن و إعادة الاعتبار إلى ما تناولته. و ثانيا لإيماني بأن الحرية الباطنية، حرية النفس و الفكر والضمير، هي التي تصنع باقي الحريات، و هي التي تغذيها و تحميها. فإزاحة الغبار و الصدأ عن مبدأ أصالة الحرية و فطريتها هي بمثابة تجديد لإيمان الإنسان بنفسه و بحقيقته و بما وهبه خالقه. وإزالة التشكيك والتأرجح في الإباحة الأصلية و البراءة الأصلية ، هي إنهاء لحالة التكبيل و الاعتقال و رفع للآصار و الأغلال، عن فكرنا و فقهنا و إبداعنا. و كل ذلك في نطاق المشروعية الواضحة و العقلانية الصحيحة، وفي ظل الشعور بالأمانة و المسؤولية.
و بالله تعالى السداد والتوفيق
هوامش البحث:
1. سورة الجمعة، 5
2. سورة الأعراف، 157
3. سورة البقرة، 30
4. سورة الحجر، 28-29
5. سورة الأعراف، 11
6. سورة البقرة، 31
7. سورة الأعراف، 19
8. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 162- الطبعة الثانية n 1985 الشركة التونسية للتوزيع- تونس.
9. المصدر السابق، ص 163
10. نفسه، ص 169
11. الحرية والثقافة لجون ديوي، ص 33، ترجمة أحمد أمين مرسى قنديل n مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة n د. ت.
12. أصول النظام الاجتماعي، ص 162
13. المصدر السابق، 176-177
14. الحرية والكرامة الإنسانية، ص 6-7
15. المحصول من علم الأصول 2 / 541
16. سورة البقرة، 29
17. سورة البقرة، 36
18. سورة لقمان، 19
19. سورة الجاثية، 18
20. سورة الأنعام، 119
21. الإحكام في أصول الأحكام 8 / 13 n ط 2 /1403 n 1983 منشورات دار الآفاق الجديدة- بيروت
22. نفسه 8 / 14
23. سورة الأعراف، 32
24. سورة يونس، 59
25. سورة الأعراف، 157
26. سورة المائدة، 5
27. سورة الأعراف، 157
28. سورة المومنون، 51
29. سورة المائدة، 4
30. سورة المائدة، 5
31. سورة البقرة، 168
32. التحرير والتنوير 6 / 112 n 113 n الدار التونسية للنشر n تونس 1984
33. إعلام الموقعين 1 / 344- طبعة دار الجيل n بيروت- 1973
34. نفسه
35. أصول النظام الاجتماعي، ص 177
36. مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 287 n بتحقيق محمد الطاهر الميساوي، ط 1 / 1418-1998- البصائر للإنتاج العلمي.
37. الحديث رواه البخاري، كتاب الاعتصام
38. الإحكام 8 / 16
39. سورة الشورى، 316
40. المقدمة في الأصول للإمام أبي الحسين بن القصار ( ت 397 )، تحقيق وتعليق الدكتور محمد الحسين السليماني، ط 1 / دار الغرب الإسلامي ببيروت- 1996.
الدكتور أحمد الريسوني، أستاذ أصول الفقه
ومقاصد الشريعة - جامعة محمد الخامس - الرباط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.