يقارب المقرئ أبوزيد قضية الحرية من خلال مفهومين تبلورا ضمن مسارين مختلفين، مفهوم الحرية المتحرر من القيود، وهو المسار الوضعي الذي ينتهي بالحرية في مسار تطبيقها إلى فرض قيود وضعية تفرضها الحاجة الاجتماعية والاعتبارات الإنسانية، وبين مفهوم للحرية يعتبر الأخلاق قيودا خلاقة تمنع من أن تصير الحرية نفسها إلى وسيلة لتدمير الذات بدل أن تكون أداة للانطلاق والإبداع وتحقيق الذات. في ضوء هذه الفكرة الكبرى المؤطرة يناقش أبو زيد حرية الاعتقاد في علاقتها بحد الردة، ومفهوم الحرية في علاقتها بالأخلاق، والحرية بين النظرية والتطبيق، ويطرح للنقاش قضية الحرية والإساءة للأديان. وهذا المقال الذي ننشره اليوم كان في أصله حوارا أجراه موقع اسلام أونلاين مع الأستاذ المقرى الإدريسي، وقد أعاد صاحبه تنقيحه بعد إعادة صياغته. مفهوم الحرية بين مسارين عرف مفهوم الحرية عبر مساره الطويل مسارين اثنين: الأول: وهو ما يسميه محمد خاتمي: مسار الالتزام، وهو المرتبط بالرسائل السماوية ومبدأ العبودية لله عز وجل في إطار الاستخلاف والتسخير. الثاني: طور مفهوم الحرية في اتجاه وضعي بشري دنيوي، متفلت من ضوابط المسار الأول، أو بتعبير أدق، تبلور في مواجهة هذا المسار. لكن المأزق الذي يواجهه المسار الثاني المتفلت، بغض النظر عن المضامين اللاأخلاقية أو التدميرية الموجودة داخله، هو أن هذا المفهوم سرعان ما يصطدم بواقع الحاجة البشرية الاجتماعية إلى التقييد، فيشرع في وضع قيوده الخاصة به انطلاقا من العقل والتجربة والمواضعات البشرية، ناسيا أنه بلور ذاته في مواجهة مفهوم القيد الذي جاء به الشرع. وهكذا يكون مفهوم الحرية في إطار الضوابط الشرعية على الأقل منسجما مع نفسه، بغض النظر عن جودة مضامينه وسلامتها من التناقض، وتعالي مصدرها الذي هو الوحي، فهو لا يتناقض مع نفسه؛ لأنه ينطلق من وضع قيد على الحرية، وهو القيد الذي ليس لأحد الحق في أن يضعه إلا المشرع سبحانه وتعالى. فالحرية وفق هذا التصور حق مقدس وبعد فطري، وهي حيوية للإنسان مثل الأوكسجين، لكن الذي يضع قيدا للحرية هو خالق الحرية الذي خلق الإنسان. وفي الاتجاه الوضعي نشأ مفهوم الحرية المضاد للحرية الملتزمة بدعاوى الثورة على القيد، ثم سرعان ما بدأ يضع قيوده الوضعية بتبرير الخضوع لمنطق الأشياء وضرورة تلافي الاصطدام بالفوضى وتعدي الحرية على حريات أخرى وتعدي الحرية المطلقة على الحدود. وعليه، فللحرية مفهومان: الأول ينطلق من مفهوم القيد وهو منسجم معه، والثاني ينطلق ضد القيد ثم يضعه. ويبقى السؤال الحقيقي بين المفهومين، وهو: هل هناك حرية متفلتة وأخرى غير متفلتة؟ بل السؤال الحقيقي: من له الحق أن يضع القيد على الحرية؟ هل الإنسان الذي يشرع لأخيه الإنسان فيسقط في أحابيل التأله والاستصنام والاستعباد لأخيه الإنسان؟ أم الله عز وجل الذي خلق هذه الحرية، وهو الوحيد الذي له الحق في أن يصادرها أو أن يحد منها متى شاء؟ وإذا دخلنا بعد هذا التحليل الأولي في مضمون الحرية، فسنجد أن ضوابط الحرية المنبثقة من مبادئ الالتزام الديني هي ضوابط منسجمة مع الحاجات الإنسانية والفطرة الإنسانية ومع حدود الحرية وحدود التعدي من الجهة الأخرى، مع حفظ المصالح الحيوية للإنسان وهي: حفظ العقل والدين والنسل والمال والعرض، وأن الحرية إنما يوضع لها حد عندما تصبح انفلاتا وتعديا. ولنأخذ على سبيل التوضيح مستوى من مستويات هذه الحرية وهي حرية العقيدة، فالإسلام لا يضع قيدا على حرية العقيدة {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} الكهف، بل إنه كثيرا ما نستشهد في سياق حديثنا عن هذا المستوى من الحرية بقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}البقرة، ثم ننسى السياق الذي هو أعمق، وهو: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} البقرة، فالوصول إلى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هو قمة الرشد الإنساني الذي لا يمارس وصاية على أحد، ولا يؤسس محاكم تفتيش، ولا ينقب في ضمائر الناس أو يشق عن قلوبهم، كما جاء في الحديث النبوي:أشققت عن قلبه؟!. وبذلك، فالإسلام لا يضع حدودا لحرية العقيدة، ولكنه يسمح للمجتمع المسلم -الذي أغلبية أعضائه مسلمون بالاختيار والوعي- أن يضعوا ضوابط تحمي حرمة عقيدتهم ليمارسوا حياتهم وفق هذه العقيدة، ويبقى لمن هم في الهامش، أو الاستثناء أو الأقلية، الحق في أن يعتقدوا ما يشاءون دون أن يعتدوا على حرية وكرامة وهوية الأغلبية التي ارتضت العيش ضمن العقيدة الإسلامية، وهي عقيدة ليست مفصولة عن الدنيا والتشريع والنظام العام للحياة. فإذا كان الأمر كما ذكرت في مجال العقيدة، أي أن الإسلام لا يضع ضوابط على الحرية إلا إذا تحولت حرية الاعتقاد إلى اعتداء على الآخرين، فكيف بما دون ذلك مثل حرية الفكر، التي يقول فيها القرآن: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} المائدة:48، وحرية الاختيار وحرية إبداء الرأي في المواقف السياسية، سواء في المعارضة والشورى والمشاركة، وكذا في حرية اختيار الشريك بالنسبة للبنت مثل الولد، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية، إلى حرية التنقل {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} النساء:100]، إلى غير ذلك من مستويات الحرية. حد الردة وحرية الاعتقاد النقاش حول مفهوم الردة في هذا الزمان هو حديث عقيم؛ فنحن اليوم أمة معتدى على حرمتها ووجودها، ومعتدى عليها في حقها أن تنتمي بحرية إلى دينها، ونحن نتكلم في مقتضيات السيادة العليا. فاليوم النقاش الذي يجب أن يكون هو حكم من يرتد عن دين أمريكا، فأمريكا اليوم تقتل من يرتد عن دينها ولا يمنح الولاء لها، فالذي يجب أن يثارهو من يملك حق الردة عن دين أمريكا فتعدمه؟ فكيف والحال هذه أن نتحدث عن مسلمين تعساء، يجب عليهم أن يدافعوا عن الحرية ليبقوا أحرارا في اعتقادهم؟! وأظن أن الحديث عن حرية الردة هو مثل الحديث عن دار الحرب ودار السلم، أو أن نعرض على أوروبا الآن الجزية أو الحرب، وغيرها من القضايا التي كان طبيعيا الحديث عنها في وقت مجتمع السيادة العليا على العالم، أما الآن ونحن في مجتمع الاستضعاف، فأعتبر أن مثل هذه النقاشات مضرة الآن، وإن كان هناك بعض الفقهاء الذين عمقوا النظر في الأمر وانتهوا إلى مفهوم منفتح لمفهوم الردة مثل يوسف القرضاوي وسليم العوا وأحمد الريسوني، ومفاده أن الحكم على المرتد بالقتل بسبب عدوانه على المسلمين لا بسبب كفره، وحروب الردة إنما كانت نتيجة الاعتداء على سيادة الدولة وعصيان أوامرها. هل الأخلاق قيد على الحرية؟ كلمة قيد ليست بالضرورة سلبية إلا إذا كنا نستبطن مفهوما فوضويا للحرية، فمن ينطلق من الفلسفة الفوضوية للحرية مثل الفلسفة الباكونية أو الأنارشية مثلا، يرى أن كلمة قيد أساسا كلمة سلبية. أما إذا تبنينا مفهوما منضبطا وملتزما ومسئولا للحرية، فإن السؤال ليس: هل القيد جيد أو سلبي؟ ولكن: أي نوع من القيد هو الجيد؟ وأي نوع من القيد هو الرديء؟ فالأمر يتعلق بتصورنا للقيد، فلتتصور على سبيل المثال التقريبي ماء متدفقا في الأرض، إذا قيدته من جنباته أعطاك نهرا متدفقا، ومضى من الجبل إلى السهل إلى البحر، فهو نهرا دفاقا مباركا، ولنفترض أن النهر تكلم وكان فوضوي الفكر، وطالب بإزالة الحدين الأيمن والأيسر، وقتها سيصبح مستنقعات تشيع منها الملاريا وأنواع البعوض والدمار، ولضاع الماء وضاع الخير الذي ينتج عن الماء، ولتحول إلى شر على الأراضي الفلاحية والمنشآت والبشر والحيوانات. وبالتالي هل نتصور القيد بتصور النهر بجنباته أم كسد مانع؟ وحتى السد قد يصبح ضروريا في بعض الأوقات لتجميع الماء ليكون بحيرة للسقي والشرب وتوليد الكهرباء. فإذا كانت الأخلاق تضع قيودا خلاقة على الحرية من أجل ألا تكون الحرية مدمرة للذات، فإننا لن نقف عند لفظة القيد ولا نأبه لها. وهو ما نفسره أيضا بوقوفنا أمام الإشارة الحمراء في طريق المرور، فأنت عندما تقف عند الإشارة الحمراء، ليس لأن هناك عقلية تقييدية قاهرة ومتسلطة تريد إجبارك على فرملة سيارتك لحظة انطلاقتك المنتشية بسرعة الاندفاع بسيارة مكشوفة وشعر متطاير وجو رومانسي، ولكن الإشارة الحمراء توقفك إنقاذا لك من الذين يأتون في الاتجاه المتقاطع، والذين لهم الحق في أولوية المرور، وهي تحميك أيضا من انطلاقتك الرعناء التي تنتج الصدام المفضي إلى الموت والمقبرة، وهي إنقاذ لهم أيضا، وهي تنظيم عادل لمبدأ ممارسة حرية المرور بالتناوب. فالمشكلة لا تكمن في القيد، وإنما تكمن في المعنى الذي نعطيه للقيد والفلسفة أو الرؤية التي تؤطر مسألة التقييد أو عدم التقييد. وحين نتأمل مجمل القوانين في هذا الصدد - سواء كانت بشرية أو إلهية- نجدها لا توضع من أجل تقييد مجال الحركة، ولكن لئلا تتحول الحرية إلى أنانية متمركزة على الذات، ملغية للآخر، وهي الحرية التي لا تؤمن بأن الآخر يمثل حدا طبيعيا لحركتك ونفوذك وحقك. الأخلاق بهذا المعنى هي التقييد النبيل للحرية؛ إذ يمكن أن يضع الإنسان نفسه في الجهة المقابلة كلما تحدث عن الحرية والانطلاق، لكي يرى كيف أنه سيطالب بالتوقف لكي تنطلق حريته هو وتتحقق ذاته ومصالحه. فالإسلام يضع ضوابط أخلاقية لتصرفات الإنسان، ومن أقواها الضوابط الجنسية، التي وضعها في وجه الفلتان الغريزي الذي هو شهوة كل الناس بتصريح القرآن الكريم بهذه الحقيقة الفطرية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران:14، وجاء التعبير بالنساء وليس بامرأة واحدة، ولكن هل يستطيع شخص من دعاة الإباحية والتفلت باسم الحرية الجنسية والحق في التصرف في الجسد أن يكذب على نفسه إلى ما لا نهاية في أن الاستجابة إلى شهوته ليست مؤذية وليست مضرة، بحجة الاختيار والحرية والاعتداء على المجتمع وعلى سلامة الأعراض والأنساب وتماسك الأسرة، وتهديد العالم بالسيدا وباقي الأمراض الجنسية؟! للحرية منطق داخلي يجب الاستجابة له، وهو المنطق الذي يجعل الحرية مسئولة ومنضبطة، ولكن الحديث يعود بنا إلى أهمية الإيمان بالوحي والتسليم بوجود الله عز وجل وجدوى الحاجة إلى التشريع من خارج الذات الإنسانية والعقل الإنساني وعدم تأليه الإنسان والعقل، تبعا للتجارب الإنسانية الحديثة التي أوصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من دمار. وفي هذا تحضرني شهادة روجي جارودي الذي يقول دائما إن الفرق بين المجتمع الكارثة والمجتمع الإنسان هو الإيمان أن الإنسان لا يقوم وحده، بل هو محتاج إلى الله لكي يشرع له الضوابط والحدود، ولكي يرسم له البوصلة التي توجهه نحو طاقة الخلق والإبداع، وتقيه الدمار والاندحار. حرية الأفراد والمسؤولية الاجتماعية الإسلام هو الدين الوحيد الذي وضع توليفة ناجحة بين الأشياء التي تبدو متناقضة في التوجهات المتطرفة ذات اليمين وذات الشمال؛ لأنه دين الوسط والوسطية، بالإضافة إلى معنى التوسط بين طرفين ذميمين، وهو القدرة على جمع إيجابيات الطرفين الذميمين وطرح سلبياتهما، وفي هذا الإطار فمفهوم الإلهية في الإسلام لا ينفي مفهوم الإنسانية، فحق الله في التشريع وواجب الخضوع له وطاعته لا يلغي انطلاق العقل الإنساني والوجدان الإنساني في مجالات الإبداع، وبذلك فالنقل كمرجعية عليا لا ينفي العقل كممارسة حية وحيوية. وكذلك الحرية لا تتناقض مع المسئولية الاجتماعية، وبالتالي يستطيع الإنسان ممارسة حريته في إطار الالتزام الاجتماعي. ولنوضح القول بمثال الجنس الذي يتكئ عليه دعاة الإباحية للتعبير عن الحرية، فالإنسان يمارس حريته الجنسية على مستوى اختيار الشريكة وعلى مستوى الوضع التعاقدي وعلى مستوى اختيار الوقت الذي يريد الاستمتاع فيه، لكنه من جهة أخرى يلتزم أن يكون هذا الاستمتاع في إطار الضوابط الشرعية وبعقد شرعي، والتزام بالمسئولية المترتبة على هذا الاستمتاع من ولد ونفقة وانضباط اجتماعي وخضوع لمؤسسة الدولة الإسلامية التي تمثل فيها العدالة الرقيب على سلوكيات الأفراد والمؤطر لفض خلافاتهم. ويقاس على هذا المثال حقوق التملك والاستثمار وحب المال وحرية التعبير وحرية الاختلاف والتنقل، وكل ذلك يؤطر بالالتزام الاجتماعي النابع من العقيدة الإسلامية، والمبني على مفهوم التكافل والتراحم والمنفعة المتبادلة والتعايش: الناس عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعيالهكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. بين النظرية والتطبيق حين ننتقل من المفهوم إلى التطبيق ندخل بالضرورة في تشابكات معقدة حقيقة؛ لأن التطبيق يتناول ما هو يومي وتنزيلي وجزئي، وكما يقول المثل الأجنبي الشيطان يكمن في التفاصيل، فعادة ما يتفق الناس في معاملة تجارية أو ثقافية أو سياسية أو دبلوماسية على مبدأ ما، ويضمر كل واحد منهم أن يغش وينتكس وينكص على عقبيه في التفاصيل. هنا نحتاج إلى حسن النية، وإلى حسن الفهم، وإلى حسن المصابرة وليس إلى الصبرفقط. فالأول هو حسن النية الذي يفرض ألا نضمر شرا بالحرية أو سوءا بها، وأن نسعى كسلطة مستبدة، سواء كان الواحد منا أبا أو مديرا أو رئيسا أو حاكما دكتاتوريا، أو أي صاحب سلطة عليا، أن نتربص بالحرية ونرفع شعارا مخادعا بها، ثم نأتي إلى ضرورة تقييدها منطقيا ونبدأ من خلالها في اغتيال الحرية، فالأعمال بالنيات، ولذا يجب أن نؤمن بأن الذي يقيد الحرية هو رب الحرية الذي خلقها، وهو الذي خلق الإنسان الذي بدونها لا يعيش، وبالتالي يجب أن نكون أوفياء للمنطق الإلهي في تقييد الحرية؛ حيث الحرية مبجلة وموقرة وهذا هو الأصل، أما تقييدها فهو الاستثناء لما لا يقلبها فتصبح تدميرا للذات واعتداء على الآخر. والثاني هو حسن الفهم وهو أن فهمك لطبيعة التشريعات السماوية وعدم إضافة القيود التي جاءت بها التقاليد والتأويلات الضيقة للنصوص والتمسك بالفقه المغلق وبثقافة عصر الانحطاط ومواريث الشعوب الأخرى، يجعلك قويا بأن تكون سلفيا بالمفهوم الثوري للسلفية، أي أن ترتبط بالنص وبجوهره التحريري للإنسان، وتنطلق في رحابة النص وتلتزم الفقه الرحب، وأن تتمرد كما يتمرد البركان على كل ما حوله، دون أن تقحم على النص باسمه ما ليس منه، وهي التقاليد التي جاء القرآن الكريم ليضعها عنا: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الأعراف. كثير من الناس يتوفر عندهم العنصر الأول وهو حسن النية أي الإيمان بالحرية، لكنهم يعتقدون بكل حسن نية أن القيود التي يضيفونها من عندهم ومن عقليتهم وتقاليدهم هي قيود من صميم الدين. مثل حرية المرأة وحركتها داخل المجتمع المسلم؛ إذ نجد أن المسلمين أضافوا لها قيودا في لباسها وحركتها وفي علاقتها بالرجل، ظنا منهم أنها من الدين، وإنما هي من عصر الانحطاط وما دخل على المسلمين من ثقافة الروم والفرس والهنود وغيرهم. وانتهينا رغم الإيمان بالحرية إلى نقيض ممارستها في حق المرأة وفي حق أنفسنا أيضا؛ لأن العلاقة المقيدة بين الرجل والمرأة ليست مقيدة للمرأة فقط بل هي تقييد أيضا للرجل، وعدوان على الأسرة والمجتمع. وبالتالي فنحن نحتاج إلى ثورة حقيقية على سلطان الاستبداد في النفوس إيمانا بالحرية. هكذا يكون الشرط الثاني ثورة حقيقية على مستوى الفهم، وفاء للنص والتصاقا بحدوده بدون زيادة. وسيدنا عمر رضي الله عنه كان وفيا للنص، فعندما شرب رجل الخمر، وهو أمر مستهجن في مجتمع نظيف مثل مجتمع الصحابة، فعزره الوالي ثم سود وجهه بالفحم، وبلغ الأمر عمر، فدعا رضي الله عنه الرجل والوالي، وأعطى للرجل السكير الحق في أن يسود وجه الوالي بالفحم؛ لأن الوالي زاد من عنده عقوبة إضافية، رغم أن التعزير مسألة اجتهادية ويمكن للوالي التغيير فيها، لكن سيدنا عمر رأى أن هذا التزيد سوف يؤدي إلى اعتداء وظلم. و الثالث: هو المصابرة على الحرية، ومعناه أن نرابط في وجه التفاصيل اليومية التي يكمن فيها الشيطان لكي لا تتسرب علينا في لحظة من اللحظات، فنبدأ في التقييد والدخول في منطق سد الذرائع والأحوطية والتحوط الزائد، ويحصل بذلك تراكم بطيء لا ينتبه إليه، مثل زاوية الانحراف التي تكون صغيرة ثم ما تفتأ أن تتسع، وبنظرة على القرون نجد أنفسنا قد ابتعدنا عن منطلقنا في الحرية. وعلينا أن نجدد التوبة بالمعنى الفكري ونعيد في كل يوم الالتصاق بالنص ونفض الغبار عنه، ونتهم عقولنا وقلوبنا وفهمنا ونظرنا للأمور، ونذكر قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}الأعراف، فقد ننظر ولا نبصر، لكي لا يكبر خط الانحراف، وننتهي إلى نقيض الحرية باسم الحرية. وأذكر هنا بالمناسبة رواية الأديب البريطاني الشهير جورج أورويل، وقد كان شيوعيا ثم ثار على الشيوعية، وألف روايته: مزرعة الحيوانات التي تحولت إلى رسوم متحركة للكبار، حيث تحدث فيها عن مسار الشيوعية من الثورة إلى الديكتاتورية. وفي لحظة من اللحظات عندما انقلبت الخنازير على الثورة التي قادها الحمير والدجاج والمستضعفون وامتلكوهم، جاءوا إلى أول شعار سطر بالدم إثر الثورة على الرجل السكير صاحب الضيعة، وكتبوا: كل الحيوانات متساوية، وبعد انقلاب الخنازير على الثورة من الداخل (في إشارة إلى النظام الروسي والصيني)، جاءوا وأضافوا تحت الشعار السابق عبارة: ولكن بعض الحيوانات أكثر تساويا من غيرها. فدائما المشكلة في لكن والاستدراك والاستثناء، أي فيما بعد المبدأ العام، فعلينا إذن أن نحرص على هذه الثلاثية: الإخلاص (حسن النية)، والبصيرة (حسن الفهم)، والمصابرة (المرابطة على خط التفاصيل لكي لا ينتقض علينا مبدؤنا)؛ لأن الشيطان يفسد على الإنسان عمله في وسطه، وقد لا يستطيع ذلك في بدايته.