عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    "منتخب U17" يتعادل مع الجزائر    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"        حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    المغرب التطواني يفوز على مضيفه اتحاد طنجة (2-1)    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    الوزير بنسعيد يترأس بتطوان لقاء تواصليا مع منتخبي الأصالة والمعاصرة    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء        التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الباحث محمد المصباحي ل «الاتحاد الاشتراكي» : الربيع العربي حدث تاريخي فائق الأهمية

عاش العالم العربي خلال سنة 2011 ما أصبح يسمى بالربيع العربي، وهو ثورات متعددة الطبائع والالوان والوسائل، سقطت أنظمة وأخرى آيلة للسقوط. لكن المهم هو أنه زلزال حصل ولم ينته بعد. ما تقييمك لهذا الربيع؟
لن أقوم الآن بتقييم «الربيع العربي» كحدث عربي-كوني استطاع بأساليبه ما بعد الحداثية أن يهزم أبطش الأجهزة القمعية لأنظمة عاتية في كل من المغرب والمشرق وأن يسقطها صريعة تتلوى؛ فقد قمت بذلك سابقا، وإنما سأكتفي في هذه اللحظة بتقييم جزئي للنتائج التي تمخض عنها الحدث العظيم طالما أن تفاعلاته وارتداداته ما زالت تفاجئنا، مما يجعل الحكم عليها حكما جامعا مانعا أمرا في غاية المجازفة. في هذا الصدد لن أذهب إلى ما ذهب إليه أحد كبار الشعراء العراقيين منذ البدايات الأولى لانبثاق «الربيع العربي» بالقول إن أمره لا يعدو أن يكون فقاعة كبيرة أحدثت دويا كبيرا دون أن يكون من ورائها طائل. فأنا على يقين بأن «الربيع العربي» أحدث تغييرات كبيرة على مستوى الوعي والواقع. ويكفينا دليلا على هذا أنه غيّر صورتنا عن أنفسنا وصورة الغير عنا؛ فبعد أن كنا نخجل من أنفسنا، وبعد أن كان الآخر يعتبرنا من أراذل الشعوب، صرنا نعتز بأنفسنا، وأضحت شعارات شبابنا في الساحات والشوارع العربية رمزا لشباب العالم بأسره.
ومع ذلك لا أستطيع أن أخفي أنني كنت كغيري أعقد آمالا عظاما على هذا «الربيع العربي»، آمال القطع مع ثقافة سياسية رديئة كان الهدف الأقصى منها قهر الشعب وإبقائه رهن الاعتقال الجماعي، آمال تدشين ثقافة سياسية جديدة تعكس نبض الشعب بعيدا عن أي وصاية إيديولوجية أو حِجر دينيي أو تسخير سياسي. ولكنني أصبت بشيء من خيبة الأمل والإحباط بل وحتى من الذهول جراء عدم انعكاس المطالب النوعية للساحة الثائرة على صناديق الاقتراع. فمن كان يحمل ما يشبه المشروع التاريخي المستقبلي نكاد لا نجد لهم أثرا بين ممثلي الشعب في المؤسسات المنتخبة؛ ومن كان يحمل أثقال تصورات تنتمي إلى جاهلية الحداثة هم الذين فازوا في الانتخابات. هكذا يكون «الربيع العربي» قد عبّد الطريق للرجوع إلى الانحباس في أقفاص الأنساق الإيديولوجية والسياسية الجاهزة التي رفضها ضمنا أو صراحة. لا ننكر أن الفائزين قطفوا ثمار هذه الثورات باستعارة لغة الحداثة والتنوير في محاربة الاستبداد والفساد وفي الدعوة إلى العدالة والديمقراطية بل وإلى الحرية والمساواة. لكن هل يدرك هؤلاء القوم فعلا حقيقة معاني هذه الأسماء والشعارات الإنسانية، والحال أن تصور بعضهم للشريعة لا يتجاوز سقف «إيمان العجائز»؟ لم تجد هتافات الشباب في الساحات والشوارع بضرورة تجديد النخبة السياسية بكيفية جذرية صدى يذكر لدى الكتلة الناخبة في البلدان الثلاثة (تونس ومصر والمغرب). بل بالعكس من ذلك صوتت على أكثر النخب عتاقة وتقليدية إلى درجة يمكن اعتبارها، بجهة ما، جزءًا موضوعيا من الأنظمة السابقة. ليس معنى هذا أنني لا أحترم الاختيار الديمقراطي للناخبين، أو أنني ألومهم على ذلك، فلعل الجماهير بحسّها التاريخي أمكر من استدلالات المثقفين، وإنما معناه أنني كنت، كغيري، أستعجل التاريخ كي يكون وفيا مع نفسه فيطابق إيقاع الشارع مع إيقاع الآلية الديمقراطية ويتم القطع مع ثقافة الماضي السياسية. هل الأمر فعلا يتعلق بمشهد مسرحي درامي: أن تخرج من جوف ثورات الربيع العربي الطرية «ثورات مضادة» متحجبةً مهمتها ضرب مكتسبات وتضحيات الشبيبة العربية في صفر، أم أن مكر التاريخ أوكل للإسلام السياسي أن يقوم بنفسه بتحديث الجماهير العربية تحديثا جذريا؟
ومع ذلك، أي بالرغم مما قد يُعتبر نتيجة سلبية على صعيد الهيكلة الديمقراطية، فإن «الربيع العربي» يبقى حدثا تاريخيا فذّاً وفائق الأهمية بالنسبة لوعينا وتاريخنا، وستكون له بالتأكيد نتائج هائلة في المستقبل، إيمانا منا بأن التاريخ لا يمكن أن يرجع إلى الوراء.
قد يفسر البعض سخرية القدر هذه بغياب البعد الفكري في حركة 20 فبراير، قياسا على زمن الثورة الفرنسية التي كان أطّرها فكر التنوير، وزمن الثورات الاجتماعية في أوروبا الشرقية والصين التي رعاها الفكر الاشتراكي. لكن من يقول هذا الكلام لا يقيم وزنا للفرق بين زمن الملاحم الكبرى وزمن العدد والصورة الذي لا قادة فيه ولا زعماء ولا مفكرين كبار، وإنما جماهير متساوية تتفاعل مباشرة وبتلقائية، متواصلة بسرعة الضوء على المستوى الوطني والقومي والأممي في فضاءات افتراضية غير ثابتة للإنترنت والفضائيات الإخبارية والهواتف النقالة. وهذا ما يفسر أنه لم يكن من الضروري توفر شباب هذه الحركة على فلسفة للتغيير لكي يقوموا بثورتهم ويحدثون التغيير. فالمهم بالنسبة لهم هو الحدث لا النظرية التي تفسر الحدث.
كيف تنظر، بصفتك كاتبا ومفكرا، إلى المجتمعات العربية وهي تخوض ثورتها؟
ما يلفت الانتباه في ثورات الجماهير الشعبية العربية أن رهانها لم يكن الإصلاح الذي يصب في تحسين كفاءة الأنظمة الموجودة، بل كان رهانها التغيير، فأصدرت حكما على الأنظمة المتداعية بأن صلاحيتها قد انتهت (over)، وعليها أن ترحل (dégage). أكثر من ذلك، لم تشأ هذه الثورات أن تتصور للثورة فعلا واحدا هو إسقاط رأس النظام، بل تصورتها ذات أفعال متعددة غايتها إرساء قواعد جديدة (دساتير) للعبة السياسية تنبثق عنها بنيات سياسية حقيقية قادرة على تكريس الديمقراطية بملحقاتها من حرية وعدالة وإنصاف... فبرهنت الشعوب العربية بذلك على أنها شعوب حية ومتحضرة وقادرة على رفع تحدي الحداثة في وجه الأنظمة المستبدة التي كانت تتوهم أنها خالدة إلى الأبد.
هل تعتقد أن لتطور الذهنية العربية خلال نصف قرن كامل دورا في التثوير والاحتجاج؟
برهن «الربيع العربي»، وبشكل متفاوت من بلد إلى آخر، على نضج تاريخي كان، بلا شك، ثمرة مخاضات وتراكمات سلسلةمن الاحتجاجات والانتفاضات والانقلابات. غير أن الذهنية العربية الآن تكاد توجد في تقابل تام مع الذهنية العربية التي سادت منذ عصر النهضة. آية ذلك أن من قاد ثورات الربيع العربي الذي نحن فيه هم شباب غير محزّب وغير منقّب ماهر في استخدام أحدث الوسائل المعرفية والتواصلية لتطوير مناهج تفكيره وتعبيره وتبليغه وتعبئته الخروج إلى الشارع. وليس صحيحا أن حركات الربيع العربي بوسائلها التقنية المتطورة شكّلت، من غير أن تدري، نوعا من “الوحدة الوطنية"، أو من “الكتلة التاريخية" العابرة للأوطان من المحيط إلى الخليج، والمخترقة لكل الشرائح الاجتماعية والهيئات السياسية والمنابر الإيديولوجية. فهذه الثورات الربيعية أبعد ما يكون عن هذين الإطارين الفكريين العتيقين اللذين يحتاجان لأحزاب وإيديولوجيات واجتماعات مرهقة. وما يبدو أنه كتلة أو وحدة وطنية هو عبارة عن لقاء عابر في فضاء الحاسوب أو في ساحة المظاهرة الاحتجاجية.
لا مراء في أن مثل هذه الثورات بهذا الحجم لا تأتي من عدم، بل لابد لها من خلفية، من تراكم وتفاعل كثير من العوامل. وبالفعل، نعتقد أن “الربيع العربي" استبطن في “لاشعوره" تراكمات أحلام الثورات الوطنية في الاستقلال والسيادة والكرامة، وإحباطات الانقلابات التي حملت معها وعدا تاريخيا طوباويا للعدالة والحرية، الذي انقلب إلى كابوس مرعب يجثم على صدر الشعوب على شكل أنظمة قمعية تتحكم فيها أسرة الرئيس وبطانته الفاسدة بشكل مطلق. استوعبت حركات “الربيع العربي" دروس هذه الأحلام والإحباطات، فقررت الابتعاد كليا عن البرامج الطويلة العريضة المغلّفة بالمساحيق الإيديولوجية أو المزينة بالاستعارات والوعود اللاهوتية، مفضِّلة أن تطرح عوض ذلك شعارات مباشرة وبسيطة وفعالة تصل مباشرة إلى القلوب وتحرك توا الجوارح بتلقائية وعنفوان لا يضاهى.
نحن إذن أمام ذهنية جديدة تتسم بالخفة والبساطة والتلقائية، بل وبالطرب والحبور، إلى درجة حملت الشاعر المذكور (سعدي يوسف) على صفها بالسطحية (وهو بالمناسبة وصف تقريظي بالنسبة لشاعر آخر مثل نيتشه). لكن هذه الذهنية الجديدة تتصف أيضا بروح البذل والغيرية والتضحية والمقاومة إلى آخر رمق. نحن أمام أخلاق جديدة تجُبّ ما قبلها، لأن مصادرها الثقافية مختلفة عن مصادر الأخلاق السابقة. “فالربيع العربي" كما قلنا هو وليد تقاطع بين عالم افتراضي (برزخي) جديد للمعرفة والمواصلات والتواصل الآني والمجاني وغير الخاضع لقهر ورقابة البنيات المعقدة والقادر على التعبئة الآنية بواسطة المعلومات الطرية، وبين مجتمع مدني بأخلاقه الجديدة القائمة على التضحية والإيثار والبذل والعطاء من دون انتظار جزاء أو شكر. إنها أخلاقية جديدة تجري في فضاء عمومي قوامه الحرية والتعدد والاعتراف بالآخر وتقصّي المعلومات أينما كانت وتداولها بكل حرية وأريحية مع أي كان. هذا الأفق الجديد خلق مواطَنَة جديدة بعيدة عن الأحكام المسبقة للأصوليات الدينية والعرقية والقومية والحداثية، مواطَنة لا تعرف التخاذل والانهزامية والتزلف والانبطاح، مواطَنة لا تهمها الحقيقة، وإنما تعنيها التعبئة! هذا الفضاء، بفضل تركيبه العنكبوتي المتشابك، وبفضل قدرته على تقصِّي الأخبار وتوزيعها بأريحية وسخاء، وكفاءته في إثارة الأسئلة الحرجة خارجا عن سياج المحرمات، وإتاحته الفرصة لتبادل الآراء بكل حرية، أعاد للكلمات معناها بأن ربطها بالفعل لا بالحقيقة. فكلمات مثل العدالة والديمقراطية والحرية والكرامة والمساواة والمواطنة لم تعد كلمات قصبية جوفاء، بل أصبحت ممتلئة بالدلالة الواقعية، بفضل الخروج إلى الشارع.
لكن المفارقة أن تستطيع الثورة الربيعية، أي الشبابية، الإطاحة بالعقل الأصولي بتجلياته الدينية والإثنية والثقافية والحزبية على مستوى الشارع، وأن تبقى عاجزة أمام غزوه لصناديق الاقتراع. لعل الوقت لم يحن بعد لذلك، ولكنه آت لا ريب فيه!
عاش العالم العربي خلال سنة 2011 ما أصبح يسمى بالربيع العربي، وهو ثورات متعددة الطبائع والالوان والوسائل، سقطت أنظمة وأخرى آيلة للسقوط. لكن المهم هو أنه زلزال حصل ولم ينته بعد. ما تقييمك لهذا الربيع؟
لن أقوم الآن بتقييم «الربيع العربي» كحدث عربي-كوني استطاع بأساليبه ما بعد الحداثية أن يهزم أبطش الأجهزة القمعية لأنظمة عاتية في كل من المغرب والمشرق وأن يسقطها صريعة تتلوى؛ فقد قمت بذلك سابقا، وإنما سأكتفي في هذه اللحظة بتقييم جزئي للنتائج التي تمخض عنها الحدث العظيم طالما أن تفاعلاته وارتداداته ما زالت تفاجئنا، مما يجعل الحكم عليها حكما جامعا مانعا أمرا في غاية المجازفة. في هذا الصدد لن أذهب إلى ما ذهب إليه أحد كبار الشعراء العراقيين منذ البدايات الأولى لانبثاق «الربيع العربي» بالقول إن أمره لا يعدو أن يكون فقاعة كبيرة أحدثت دويا كبيرا دون أن يكون من ورائها طائل. فأنا على يقين بأن «الربيع العربي» أحدث تغييرات كبيرة على مستوى الوعي والواقع. ويكفينا دليلا على هذا أنه غيّر صورتنا عن أنفسنا وصورة الغير عنا؛ فبعد أن كنا نخجل من أنفسنا، وبعد أن كان الآخر يعتبرنا من أراذل الشعوب، صرنا نعتز بأنفسنا، وأضحت شعارات شبابنا في الساحات والشوارع العربية رمزا لشباب العالم بأسره.
ومع ذلك لا أستطيع أن أخفي أنني كنت كغيري أعقد آمالا عظاما على هذا «الربيع العربي»، آمال القطع مع ثقافة سياسية رديئة كان الهدف الأقصى منها قهر الشعب وإبقائه رهن الاعتقال الجماعي، آمال تدشين ثقافة سياسية جديدة تعكس نبض الشعب بعيدا عن أي وصاية إيديولوجية أو حِجر دينيي أو تسخير سياسي. ولكنني أصبت بشيء من خيبة الأمل والإحباط بل وحتى من الذهول جراء عدم انعكاس المطالب النوعية للساحة الثائرة على صناديق الاقتراع. فمن كان يحمل ما يشبه المشروع التاريخي المستقبلي نكاد لا نجد لهم أثرا بين ممثلي الشعب في المؤسسات المنتخبة؛ ومن كان يحمل أثقال تصورات تنتمي إلى جاهلية الحداثة هم الذين فازوا في الانتخابات. هكذا يكون «الربيع العربي» قد عبّد الطريق للرجوع إلى الانحباس في أقفاص الأنساق الإيديولوجية والسياسية الجاهزة التي رفضها ضمنا أو صراحة. لا ننكر أن الفائزين قطفوا ثمار هذه الثورات باستعارة لغة الحداثة والتنوير في محاربة الاستبداد والفساد وفي الدعوة إلى العدالة والديمقراطية بل وإلى الحرية والمساواة. لكن هل يدرك هؤلاء القوم فعلا حقيقة معاني هذه الأسماء والشعارات الإنسانية، والحال أن تصور بعضهم للشريعة لا يتجاوز سقف «إيمان العجائز»؟ لم تجد هتافات الشباب في الساحات والشوارع بضرورة تجديد النخبة السياسية بكيفية جذرية صدى يذكر لدى الكتلة الناخبة في البلدان الثلاثة (تونس ومصر والمغرب). بل بالعكس من ذلك صوتت على أكثر النخب عتاقة وتقليدية إلى درجة يمكن اعتبارها، بجهة ما، جزءًا موضوعيا من الأنظمة السابقة. ليس معنى هذا أنني لا أحترم الاختيار الديمقراطي للناخبين، أو أنني ألومهم على ذلك، فلعل الجماهير بحسّها التاريخي أمكر من استدلالات المثقفين، وإنما معناه أنني كنت، كغيري، أستعجل التاريخ كي يكون وفيا مع نفسه فيطابق إيقاع الشارع مع إيقاع الآلية الديمقراطية ويتم القطع مع ثقافة الماضي السياسية. هل الأمر فعلا يتعلق بمشهد مسرحي درامي: أن تخرج من جوف ثورات الربيع العربي الطرية «ثورات مضادة» متحجبةً مهمتها ضرب مكتسبات وتضحيات الشبيبة العربية في صفر، أم أن مكر التاريخ أوكل للإسلام السياسي أن يقوم بنفسه بتحديث الجماهير العربية تحديثا جذريا؟
ومع ذلك، أي بالرغم مما قد يُعتبر نتيجة سلبية على صعيد الهيكلة الديمقراطية، فإن «الربيع العربي» يبقى حدثا تاريخيا فذّاً وفائق الأهمية بالنسبة لوعينا وتاريخنا، وستكون له بالتأكيد نتائج هائلة في المستقبل، إيمانا منا بأن التاريخ لا يمكن أن يرجع إلى الوراء.
قد يفسر البعض سخرية القدر هذه بغياب البعد الفكري في حركة 20 فبراير، قياسا على زمن الثورة الفرنسية التي كان أطّرها فكر التنوير، وزمن الثورات الاجتماعية في أوروبا الشرقية والصين التي رعاها الفكر الاشتراكي. لكن من يقول هذا الكلام لا يقيم وزنا للفرق بين زمن الملاحم الكبرى وزمن العدد والصورة الذي لا قادة فيه ولا زعماء ولا مفكرين كبار، وإنما جماهير متساوية تتفاعل مباشرة وبتلقائية، متواصلة بسرعة الضوء على المستوى الوطني والقومي والأممي في فضاءات افتراضية غير ثابتة للإنترنت والفضائيات الإخبارية والهواتف النقالة. وهذا ما يفسر أنه لم يكن من الضروري توفر شباب هذه الحركة على فلسفة للتغيير لكي يقوموا بثورتهم ويحدثون التغيير. فالمهم بالنسبة لهم هو الحدث لا النظرية التي تفسر الحدث.
كيف تنظر، بصفتك كاتبا ومفكرا، إلى المجتمعات العربية وهي تخوض ثورتها؟
ما يلفت الانتباه في ثورات الجماهير الشعبية العربية أن رهانها لم يكن الإصلاح الذي يصب في تحسين كفاءة الأنظمة الموجودة، بل كان رهانها التغيير، فأصدرت حكما على الأنظمة المتداعية بأن صلاحيتها قد انتهت (over)، وعليها أن ترحل (dégage). أكثر من ذلك، لم تشأ هذه الثورات أن تتصور للثورة فعلا واحدا هو إسقاط رأس النظام، بل تصورتها ذات أفعال متعددة غايتها إرساء قواعد جديدة (دساتير) للعبة السياسية تنبثق عنها بنيات سياسية حقيقية قادرة على تكريس الديمقراطية بملحقاتها من حرية وعدالة وإنصاف... فبرهنت الشعوب العربية بذلك على أنها شعوب حية ومتحضرة وقادرة على رفع تحدي الحداثة في وجه الأنظمة المستبدة التي كانت تتوهم أنها خالدة إلى الأبد.
هل تعتقد أن لتطور الذهنية العربية خلال نصف قرن كامل دورا في التثوير والاحتجاج؟
برهن «الربيع العربي»، وبشكل متفاوت من بلد إلى آخر، على نضج تاريخي كان، بلا شك، ثمرة مخاضات وتراكمات سلسلةمن الاحتجاجات والانتفاضات والانقلابات. غير أن الذهنية العربية الآن تكاد توجد في تقابل تام مع الذهنية العربية التي سادت منذ عصر النهضة. آية ذلك أن من قاد ثورات الربيع العربي الذي نحن فيه هم شباب غير محزّب وغير منقّب ماهر في استخدام أحدث الوسائل المعرفية والتواصلية لتطوير مناهج تفكيره وتعبيره وتبليغه وتعبئته الخروج إلى الشارع. وليس صحيحا أن حركات الربيع العربي بوسائلها التقنية المتطورة شكّلت، من غير أن تدري، نوعا من “الوحدة الوطنية"، أو من “الكتلة التاريخية" العابرة للأوطان من المحيط إلى الخليج، والمخترقة لكل الشرائح الاجتماعية والهيئات السياسية والمنابر الإيديولوجية. فهذه الثورات الربيعية أبعد ما يكون عن هذين الإطارين الفكريين العتيقين اللذين يحتاجان لأحزاب وإيديولوجيات واجتماعات مرهقة. وما يبدو أنه كتلة أو وحدة وطنية هو عبارة عن لقاء عابر في فضاء الحاسوب أو في ساحة المظاهرة الاحتجاجية.
لا مراء في أن مثل هذه الثورات بهذا الحجم لا تأتي من عدم، بل لابد لها من خلفية، من تراكم وتفاعل كثير من العوامل. وبالفعل، نعتقد أن “الربيع العربي" استبطن في “لاشعوره" تراكمات أحلام الثورات الوطنية في الاستقلال والسيادة والكرامة، وإحباطات الانقلابات التي حملت معها وعدا تاريخيا طوباويا للعدالة والحرية، الذي انقلب إلى كابوس مرعب يجثم على صدر الشعوب على شكل أنظمة قمعية تتحكم فيها أسرة الرئيس وبطانته الفاسدة بشكل مطلق. استوعبت حركات “الربيع العربي" دروس هذه الأحلام والإحباطات، فقررت الابتعاد كليا عن البرامج الطويلة العريضة المغلّفة بالمساحيق الإيديولوجية أو المزينة بالاستعارات والوعود اللاهوتية، مفضِّلة أن تطرح عوض ذلك شعارات مباشرة وبسيطة وفعالة تصل مباشرة إلى القلوب وتحرك توا الجوارح بتلقائية وعنفوان لا يضاهى.
نحن إذن أمام ذهنية جديدة تتسم بالخفة والبساطة والتلقائية، بل وبالطرب والحبور، إلى درجة حملت الشاعر المذكور (سعدي يوسف) على صفها بالسطحية (وهو بالمناسبة وصف تقريظي بالنسبة لشاعر آخر مثل نيتشه). لكن هذه الذهنية الجديدة تتصف أيضا بروح البذل والغيرية والتضحية والمقاومة إلى آخر رمق. نحن أمام أخلاق جديدة تجُبّ ما قبلها، لأن مصادرها الثقافية مختلفة عن مصادر الأخلاق السابقة. “فالربيع العربي" كما قلنا هو وليد تقاطع بين عالم افتراضي (برزخي) جديد للمعرفة والمواصلات والتواصل الآني والمجاني وغير الخاضع لقهر ورقابة البنيات المعقدة والقادر على التعبئة الآنية بواسطة المعلومات الطرية، وبين مجتمع مدني بأخلاقه الجديدة القائمة على التضحية والإيثار والبذل والعطاء من دون انتظار جزاء أو شكر. إنها أخلاقية جديدة تجري في فضاء عمومي قوامه الحرية والتعدد والاعتراف بالآخر وتقصّي المعلومات أينما كانت وتداولها بكل حرية وأريحية مع أي كان. هذا الأفق الجديد خلق مواطَنَة جديدة بعيدة عن الأحكام المسبقة للأصوليات الدينية والعرقية والقومية والحداثية، مواطَنة لا تعرف التخاذل والانهزامية والتزلف والانبطاح، مواطَنة لا تهمها الحقيقة، وإنما تعنيها التعبئة! هذا الفضاء، بفضل تركيبه العنكبوتي المتشابك، وبفضل قدرته على تقصِّي الأخبار وتوزيعها بأريحية وسخاء، وكفاءته في إثارة الأسئلة الحرجة خارجا عن سياج المحرمات، وإتاحته الفرصة لتبادل الآراء بكل حرية، أعاد للكلمات معناها بأن ربطها بالفعل لا بالحقيقة. فكلمات مثل العدالة والديمقراطية والحرية والكرامة والمساواة والمواطنة لم تعد كلمات قصبية جوفاء، بل أصبحت ممتلئة بالدلالة الواقعية، بفضل الخروج إلى الشارع.
لكن المفارقة أن تستطيع الثورة الربيعية، أي الشبابية، الإطاحة بالعقل الأصولي بتجلياته الدينية والإثنية والثقافية والحزبية على مستوى الشارع، وأن تبقى عاجزة أمام غزوه لصناديق الاقتراع. لعل الوقت لم يحن بعد لذلك، ولكنه آت لا ريب فيه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.