رئيس الحكومة: 8.5 مليون ليلة مبيت للمغاربة في الفنادق المصنفة سنة 2024    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء متباين    السياحة الداخلية تسجل 8.5 مليون ليلة مبيت في الفنادق المصنفة خلال 2024    أمواج عاتية تصل إلى 6.5 أمتار على السواحل الأطلسية بين طنجة وطرفاية الخميس المقبل    توقعات بعودة التساقطات الثلجية إلى مرتفعات الحسيمة    بعد غرق قارب.. إيقاف الملاحة البحرية بميناء العرائش    رحو يدعو إلى عقلنة استغلال المعطيات الشخصية في "السجل الاجتماعي"    بوريطة يتباحث مع الأمين العام لمنظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة    مئات الآلاف من النازحين يعودون إلى شمال غزة في مشهد إنساني مؤثر    ابتدائية إيمنتانوت تتابع أفراد شبكة تهريب دولي للمخدرات يقودها رئيس جماعة سابق    الجامعة الوطنية للصحة بالمضيق-الفنيدق تصعّد ضد تردي الوضع الصحي    ناس الغيوان تلهب حماس الجمهور في حفل استثنائي في ستراسبورغ    طهاة فرنسيون مرموقون: المطبخ المغربي يحتل مكانة متميزة في مسابقة "بوكوس دور"    بما فيها "الاستبعاد المدرسي".. "الصحة" و"التعليم" تطلقان تدابير جديدة في المدارس لمواجهة انتشار الأمراض المعدية    الرباط على موعد مع الإثارة : قرعة كأس أمم إفريقيا 2025 تشعل الأجواء!    بعد النتائج السلبية.. رئيس الرجاء عادل هالا يعلن استقالته من منصبه    المغرب يفاجئ الكاف بإضافة ثلاثة ملاعب لاستضافة كأس أمم إفريقيا 2025    مسرح البدوي يخلد الذكرى الثالثة لرحيل عميد المسرح المغربي الأستاذ عبدالقادر البدوي.    الدفاع الجديدي يطالب بصرامة تحكيمية ترتقي بالمنتوج الكروي    هروب جماعي من سجن في الكونغو    مصرع خمسة عمال جراء انفجار بأحد الانفاق بتارودانت    مشاهير مغاربة يتصدرون الترشيحات النهائية ل "العراق أواردز"    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    كأس إفريقيا للأمم…تصنيف المنتخبات في القرعة    المعارضة تطالب باستدعاء التهراوي    المنتخب المغربي لكرة القدم لأقل من 17 سنة ينهزم وديا أمام غينيا بيساو    "الكاف" يعقد اجتماع بالرباط لمناقشة عدة نقاط أبرزها "كان المغرب 2025"    متى تأخر المسلمون، وتقدم غيرهم؟    المال من ريبة إلى أخرى عند بول ريكور    أمطار وزخات رعدية متوقعة في عدة مناطق بالمغرب مع طقس متقلب اليوم    لأول مرة في تاريخه.. المغرب يدخل عصر إنتاج الغاز الطبيعي المسال    البواري: إحصاء القطيع خطوة أولى لمواجهة أزمة الماشية وتحديد الخصاص    مؤثر إسباني: شغف المغاربة بكرة القدم الإسبانية يجعلني أشعر وكأنني واحد منهم    الولايات المتحدة تعلن تمديد وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل حتى 18 فبراير    ماذا يقع في وزارة النقل؟.. هل يواجه الوزير قيوح عناد "العفاريت والتماسيح"؟    ريدوان يهدي المنتخب المغربي أغنية جديدة بعنوان "مغربي مغربي"    نقابة التعليم العالي تدين توقيف أستاذين بجامعة محمد الخامس وتدعو إلى سحب القرار    الكرملين ينتظر إشارات من واشنطن لاجتماع محتمل بين بوتين وترامب    إضراب واعتصام أمام الادارة العامة للتكوين المهني لهذا السبب    وعود ترامب الثلاثة التي تهم المغرب    وفد عسكري مغربي يزور مؤسسات تاريخية عسكرية في إسبانيا لتعزيز التعاون    انخفاض أسعار الذهب مع ارتفاع الدولار    الصين: قدرة تخزين الطاقة الجديدة تتجاوز 70 مليون كيلووات    تراجع أسعار النفط بعد دعوة الرئيس ترامب أوبك إلى خفض الأسعار    تايلاند تصرف دعما لكبار السن بقيمة 890 مليون دولار لإنعاش الاقتصاد    بدء عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزة    طلبة الطب والصيدلة يطالبون بتسريع تنزيل اتفاق التسوية    انتشال جثث 5 عمال بإقليم تارودانت    برودة القدمين المستمرة تدق ناقوس الخطر    شكاية سيدة وابنتها حول النصب والاحتيال والابتزاز ضد رئيس جماعة على طاولة وكيل الملك بابتدائية سيدي بنور    ندوة ترثي المؤرخة لطيفة الكندوز    حريق جزئي في بناية 'دار النيابة' التاريخية بطنجة بسبب تماس كهربائي    جمعوية: الكلاب المتخلى عنها الأخطر على المواطنين مقارنة بالضالة    شبكة صحية تنتقد الفشل في التصدي ل"بوحمرون" وتدعو لإعلان حالة طوارئ صحية    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الباحث محمد المصباحي ل «الاتحاد الاشتراكي» : الربيع العربي حدث تاريخي فائق الأهمية

عاش العالم العربي خلال سنة 2011 ما أصبح يسمى بالربيع العربي، وهو ثورات متعددة الطبائع والالوان والوسائل، سقطت أنظمة وأخرى آيلة للسقوط. لكن المهم هو أنه زلزال حصل ولم ينته بعد. ما تقييمك لهذا الربيع؟
لن أقوم الآن بتقييم «الربيع العربي» كحدث عربي-كوني استطاع بأساليبه ما بعد الحداثية أن يهزم أبطش الأجهزة القمعية لأنظمة عاتية في كل من المغرب والمشرق وأن يسقطها صريعة تتلوى؛ فقد قمت بذلك سابقا، وإنما سأكتفي في هذه اللحظة بتقييم جزئي للنتائج التي تمخض عنها الحدث العظيم طالما أن تفاعلاته وارتداداته ما زالت تفاجئنا، مما يجعل الحكم عليها حكما جامعا مانعا أمرا في غاية المجازفة. في هذا الصدد لن أذهب إلى ما ذهب إليه أحد كبار الشعراء العراقيين منذ البدايات الأولى لانبثاق «الربيع العربي» بالقول إن أمره لا يعدو أن يكون فقاعة كبيرة أحدثت دويا كبيرا دون أن يكون من ورائها طائل. فأنا على يقين بأن «الربيع العربي» أحدث تغييرات كبيرة على مستوى الوعي والواقع. ويكفينا دليلا على هذا أنه غيّر صورتنا عن أنفسنا وصورة الغير عنا؛ فبعد أن كنا نخجل من أنفسنا، وبعد أن كان الآخر يعتبرنا من أراذل الشعوب، صرنا نعتز بأنفسنا، وأضحت شعارات شبابنا في الساحات والشوارع العربية رمزا لشباب العالم بأسره.
ومع ذلك لا أستطيع أن أخفي أنني كنت كغيري أعقد آمالا عظاما على هذا «الربيع العربي»، آمال القطع مع ثقافة سياسية رديئة كان الهدف الأقصى منها قهر الشعب وإبقائه رهن الاعتقال الجماعي، آمال تدشين ثقافة سياسية جديدة تعكس نبض الشعب بعيدا عن أي وصاية إيديولوجية أو حِجر دينيي أو تسخير سياسي. ولكنني أصبت بشيء من خيبة الأمل والإحباط بل وحتى من الذهول جراء عدم انعكاس المطالب النوعية للساحة الثائرة على صناديق الاقتراع. فمن كان يحمل ما يشبه المشروع التاريخي المستقبلي نكاد لا نجد لهم أثرا بين ممثلي الشعب في المؤسسات المنتخبة؛ ومن كان يحمل أثقال تصورات تنتمي إلى جاهلية الحداثة هم الذين فازوا في الانتخابات. هكذا يكون «الربيع العربي» قد عبّد الطريق للرجوع إلى الانحباس في أقفاص الأنساق الإيديولوجية والسياسية الجاهزة التي رفضها ضمنا أو صراحة. لا ننكر أن الفائزين قطفوا ثمار هذه الثورات باستعارة لغة الحداثة والتنوير في محاربة الاستبداد والفساد وفي الدعوة إلى العدالة والديمقراطية بل وإلى الحرية والمساواة. لكن هل يدرك هؤلاء القوم فعلا حقيقة معاني هذه الأسماء والشعارات الإنسانية، والحال أن تصور بعضهم للشريعة لا يتجاوز سقف «إيمان العجائز»؟ لم تجد هتافات الشباب في الساحات والشوارع بضرورة تجديد النخبة السياسية بكيفية جذرية صدى يذكر لدى الكتلة الناخبة في البلدان الثلاثة (تونس ومصر والمغرب). بل بالعكس من ذلك صوتت على أكثر النخب عتاقة وتقليدية إلى درجة يمكن اعتبارها، بجهة ما، جزءًا موضوعيا من الأنظمة السابقة. ليس معنى هذا أنني لا أحترم الاختيار الديمقراطي للناخبين، أو أنني ألومهم على ذلك، فلعل الجماهير بحسّها التاريخي أمكر من استدلالات المثقفين، وإنما معناه أنني كنت، كغيري، أستعجل التاريخ كي يكون وفيا مع نفسه فيطابق إيقاع الشارع مع إيقاع الآلية الديمقراطية ويتم القطع مع ثقافة الماضي السياسية. هل الأمر فعلا يتعلق بمشهد مسرحي درامي: أن تخرج من جوف ثورات الربيع العربي الطرية «ثورات مضادة» متحجبةً مهمتها ضرب مكتسبات وتضحيات الشبيبة العربية في صفر، أم أن مكر التاريخ أوكل للإسلام السياسي أن يقوم بنفسه بتحديث الجماهير العربية تحديثا جذريا؟
ومع ذلك، أي بالرغم مما قد يُعتبر نتيجة سلبية على صعيد الهيكلة الديمقراطية، فإن «الربيع العربي» يبقى حدثا تاريخيا فذّاً وفائق الأهمية بالنسبة لوعينا وتاريخنا، وستكون له بالتأكيد نتائج هائلة في المستقبل، إيمانا منا بأن التاريخ لا يمكن أن يرجع إلى الوراء.
قد يفسر البعض سخرية القدر هذه بغياب البعد الفكري في حركة 20 فبراير، قياسا على زمن الثورة الفرنسية التي كان أطّرها فكر التنوير، وزمن الثورات الاجتماعية في أوروبا الشرقية والصين التي رعاها الفكر الاشتراكي. لكن من يقول هذا الكلام لا يقيم وزنا للفرق بين زمن الملاحم الكبرى وزمن العدد والصورة الذي لا قادة فيه ولا زعماء ولا مفكرين كبار، وإنما جماهير متساوية تتفاعل مباشرة وبتلقائية، متواصلة بسرعة الضوء على المستوى الوطني والقومي والأممي في فضاءات افتراضية غير ثابتة للإنترنت والفضائيات الإخبارية والهواتف النقالة. وهذا ما يفسر أنه لم يكن من الضروري توفر شباب هذه الحركة على فلسفة للتغيير لكي يقوموا بثورتهم ويحدثون التغيير. فالمهم بالنسبة لهم هو الحدث لا النظرية التي تفسر الحدث.
كيف تنظر، بصفتك كاتبا ومفكرا، إلى المجتمعات العربية وهي تخوض ثورتها؟
ما يلفت الانتباه في ثورات الجماهير الشعبية العربية أن رهانها لم يكن الإصلاح الذي يصب في تحسين كفاءة الأنظمة الموجودة، بل كان رهانها التغيير، فأصدرت حكما على الأنظمة المتداعية بأن صلاحيتها قد انتهت (over)، وعليها أن ترحل (dégage). أكثر من ذلك، لم تشأ هذه الثورات أن تتصور للثورة فعلا واحدا هو إسقاط رأس النظام، بل تصورتها ذات أفعال متعددة غايتها إرساء قواعد جديدة (دساتير) للعبة السياسية تنبثق عنها بنيات سياسية حقيقية قادرة على تكريس الديمقراطية بملحقاتها من حرية وعدالة وإنصاف... فبرهنت الشعوب العربية بذلك على أنها شعوب حية ومتحضرة وقادرة على رفع تحدي الحداثة في وجه الأنظمة المستبدة التي كانت تتوهم أنها خالدة إلى الأبد.
هل تعتقد أن لتطور الذهنية العربية خلال نصف قرن كامل دورا في التثوير والاحتجاج؟
برهن «الربيع العربي»، وبشكل متفاوت من بلد إلى آخر، على نضج تاريخي كان، بلا شك، ثمرة مخاضات وتراكمات سلسلةمن الاحتجاجات والانتفاضات والانقلابات. غير أن الذهنية العربية الآن تكاد توجد في تقابل تام مع الذهنية العربية التي سادت منذ عصر النهضة. آية ذلك أن من قاد ثورات الربيع العربي الذي نحن فيه هم شباب غير محزّب وغير منقّب ماهر في استخدام أحدث الوسائل المعرفية والتواصلية لتطوير مناهج تفكيره وتعبيره وتبليغه وتعبئته الخروج إلى الشارع. وليس صحيحا أن حركات الربيع العربي بوسائلها التقنية المتطورة شكّلت، من غير أن تدري، نوعا من “الوحدة الوطنية"، أو من “الكتلة التاريخية" العابرة للأوطان من المحيط إلى الخليج، والمخترقة لكل الشرائح الاجتماعية والهيئات السياسية والمنابر الإيديولوجية. فهذه الثورات الربيعية أبعد ما يكون عن هذين الإطارين الفكريين العتيقين اللذين يحتاجان لأحزاب وإيديولوجيات واجتماعات مرهقة. وما يبدو أنه كتلة أو وحدة وطنية هو عبارة عن لقاء عابر في فضاء الحاسوب أو في ساحة المظاهرة الاحتجاجية.
لا مراء في أن مثل هذه الثورات بهذا الحجم لا تأتي من عدم، بل لابد لها من خلفية، من تراكم وتفاعل كثير من العوامل. وبالفعل، نعتقد أن “الربيع العربي" استبطن في “لاشعوره" تراكمات أحلام الثورات الوطنية في الاستقلال والسيادة والكرامة، وإحباطات الانقلابات التي حملت معها وعدا تاريخيا طوباويا للعدالة والحرية، الذي انقلب إلى كابوس مرعب يجثم على صدر الشعوب على شكل أنظمة قمعية تتحكم فيها أسرة الرئيس وبطانته الفاسدة بشكل مطلق. استوعبت حركات “الربيع العربي" دروس هذه الأحلام والإحباطات، فقررت الابتعاد كليا عن البرامج الطويلة العريضة المغلّفة بالمساحيق الإيديولوجية أو المزينة بالاستعارات والوعود اللاهوتية، مفضِّلة أن تطرح عوض ذلك شعارات مباشرة وبسيطة وفعالة تصل مباشرة إلى القلوب وتحرك توا الجوارح بتلقائية وعنفوان لا يضاهى.
نحن إذن أمام ذهنية جديدة تتسم بالخفة والبساطة والتلقائية، بل وبالطرب والحبور، إلى درجة حملت الشاعر المذكور (سعدي يوسف) على صفها بالسطحية (وهو بالمناسبة وصف تقريظي بالنسبة لشاعر آخر مثل نيتشه). لكن هذه الذهنية الجديدة تتصف أيضا بروح البذل والغيرية والتضحية والمقاومة إلى آخر رمق. نحن أمام أخلاق جديدة تجُبّ ما قبلها، لأن مصادرها الثقافية مختلفة عن مصادر الأخلاق السابقة. “فالربيع العربي" كما قلنا هو وليد تقاطع بين عالم افتراضي (برزخي) جديد للمعرفة والمواصلات والتواصل الآني والمجاني وغير الخاضع لقهر ورقابة البنيات المعقدة والقادر على التعبئة الآنية بواسطة المعلومات الطرية، وبين مجتمع مدني بأخلاقه الجديدة القائمة على التضحية والإيثار والبذل والعطاء من دون انتظار جزاء أو شكر. إنها أخلاقية جديدة تجري في فضاء عمومي قوامه الحرية والتعدد والاعتراف بالآخر وتقصّي المعلومات أينما كانت وتداولها بكل حرية وأريحية مع أي كان. هذا الأفق الجديد خلق مواطَنَة جديدة بعيدة عن الأحكام المسبقة للأصوليات الدينية والعرقية والقومية والحداثية، مواطَنة لا تعرف التخاذل والانهزامية والتزلف والانبطاح، مواطَنة لا تهمها الحقيقة، وإنما تعنيها التعبئة! هذا الفضاء، بفضل تركيبه العنكبوتي المتشابك، وبفضل قدرته على تقصِّي الأخبار وتوزيعها بأريحية وسخاء، وكفاءته في إثارة الأسئلة الحرجة خارجا عن سياج المحرمات، وإتاحته الفرصة لتبادل الآراء بكل حرية، أعاد للكلمات معناها بأن ربطها بالفعل لا بالحقيقة. فكلمات مثل العدالة والديمقراطية والحرية والكرامة والمساواة والمواطنة لم تعد كلمات قصبية جوفاء، بل أصبحت ممتلئة بالدلالة الواقعية، بفضل الخروج إلى الشارع.
لكن المفارقة أن تستطيع الثورة الربيعية، أي الشبابية، الإطاحة بالعقل الأصولي بتجلياته الدينية والإثنية والثقافية والحزبية على مستوى الشارع، وأن تبقى عاجزة أمام غزوه لصناديق الاقتراع. لعل الوقت لم يحن بعد لذلك، ولكنه آت لا ريب فيه!
عاش العالم العربي خلال سنة 2011 ما أصبح يسمى بالربيع العربي، وهو ثورات متعددة الطبائع والالوان والوسائل، سقطت أنظمة وأخرى آيلة للسقوط. لكن المهم هو أنه زلزال حصل ولم ينته بعد. ما تقييمك لهذا الربيع؟
لن أقوم الآن بتقييم «الربيع العربي» كحدث عربي-كوني استطاع بأساليبه ما بعد الحداثية أن يهزم أبطش الأجهزة القمعية لأنظمة عاتية في كل من المغرب والمشرق وأن يسقطها صريعة تتلوى؛ فقد قمت بذلك سابقا، وإنما سأكتفي في هذه اللحظة بتقييم جزئي للنتائج التي تمخض عنها الحدث العظيم طالما أن تفاعلاته وارتداداته ما زالت تفاجئنا، مما يجعل الحكم عليها حكما جامعا مانعا أمرا في غاية المجازفة. في هذا الصدد لن أذهب إلى ما ذهب إليه أحد كبار الشعراء العراقيين منذ البدايات الأولى لانبثاق «الربيع العربي» بالقول إن أمره لا يعدو أن يكون فقاعة كبيرة أحدثت دويا كبيرا دون أن يكون من ورائها طائل. فأنا على يقين بأن «الربيع العربي» أحدث تغييرات كبيرة على مستوى الوعي والواقع. ويكفينا دليلا على هذا أنه غيّر صورتنا عن أنفسنا وصورة الغير عنا؛ فبعد أن كنا نخجل من أنفسنا، وبعد أن كان الآخر يعتبرنا من أراذل الشعوب، صرنا نعتز بأنفسنا، وأضحت شعارات شبابنا في الساحات والشوارع العربية رمزا لشباب العالم بأسره.
ومع ذلك لا أستطيع أن أخفي أنني كنت كغيري أعقد آمالا عظاما على هذا «الربيع العربي»، آمال القطع مع ثقافة سياسية رديئة كان الهدف الأقصى منها قهر الشعب وإبقائه رهن الاعتقال الجماعي، آمال تدشين ثقافة سياسية جديدة تعكس نبض الشعب بعيدا عن أي وصاية إيديولوجية أو حِجر دينيي أو تسخير سياسي. ولكنني أصبت بشيء من خيبة الأمل والإحباط بل وحتى من الذهول جراء عدم انعكاس المطالب النوعية للساحة الثائرة على صناديق الاقتراع. فمن كان يحمل ما يشبه المشروع التاريخي المستقبلي نكاد لا نجد لهم أثرا بين ممثلي الشعب في المؤسسات المنتخبة؛ ومن كان يحمل أثقال تصورات تنتمي إلى جاهلية الحداثة هم الذين فازوا في الانتخابات. هكذا يكون «الربيع العربي» قد عبّد الطريق للرجوع إلى الانحباس في أقفاص الأنساق الإيديولوجية والسياسية الجاهزة التي رفضها ضمنا أو صراحة. لا ننكر أن الفائزين قطفوا ثمار هذه الثورات باستعارة لغة الحداثة والتنوير في محاربة الاستبداد والفساد وفي الدعوة إلى العدالة والديمقراطية بل وإلى الحرية والمساواة. لكن هل يدرك هؤلاء القوم فعلا حقيقة معاني هذه الأسماء والشعارات الإنسانية، والحال أن تصور بعضهم للشريعة لا يتجاوز سقف «إيمان العجائز»؟ لم تجد هتافات الشباب في الساحات والشوارع بضرورة تجديد النخبة السياسية بكيفية جذرية صدى يذكر لدى الكتلة الناخبة في البلدان الثلاثة (تونس ومصر والمغرب). بل بالعكس من ذلك صوتت على أكثر النخب عتاقة وتقليدية إلى درجة يمكن اعتبارها، بجهة ما، جزءًا موضوعيا من الأنظمة السابقة. ليس معنى هذا أنني لا أحترم الاختيار الديمقراطي للناخبين، أو أنني ألومهم على ذلك، فلعل الجماهير بحسّها التاريخي أمكر من استدلالات المثقفين، وإنما معناه أنني كنت، كغيري، أستعجل التاريخ كي يكون وفيا مع نفسه فيطابق إيقاع الشارع مع إيقاع الآلية الديمقراطية ويتم القطع مع ثقافة الماضي السياسية. هل الأمر فعلا يتعلق بمشهد مسرحي درامي: أن تخرج من جوف ثورات الربيع العربي الطرية «ثورات مضادة» متحجبةً مهمتها ضرب مكتسبات وتضحيات الشبيبة العربية في صفر، أم أن مكر التاريخ أوكل للإسلام السياسي أن يقوم بنفسه بتحديث الجماهير العربية تحديثا جذريا؟
ومع ذلك، أي بالرغم مما قد يُعتبر نتيجة سلبية على صعيد الهيكلة الديمقراطية، فإن «الربيع العربي» يبقى حدثا تاريخيا فذّاً وفائق الأهمية بالنسبة لوعينا وتاريخنا، وستكون له بالتأكيد نتائج هائلة في المستقبل، إيمانا منا بأن التاريخ لا يمكن أن يرجع إلى الوراء.
قد يفسر البعض سخرية القدر هذه بغياب البعد الفكري في حركة 20 فبراير، قياسا على زمن الثورة الفرنسية التي كان أطّرها فكر التنوير، وزمن الثورات الاجتماعية في أوروبا الشرقية والصين التي رعاها الفكر الاشتراكي. لكن من يقول هذا الكلام لا يقيم وزنا للفرق بين زمن الملاحم الكبرى وزمن العدد والصورة الذي لا قادة فيه ولا زعماء ولا مفكرين كبار، وإنما جماهير متساوية تتفاعل مباشرة وبتلقائية، متواصلة بسرعة الضوء على المستوى الوطني والقومي والأممي في فضاءات افتراضية غير ثابتة للإنترنت والفضائيات الإخبارية والهواتف النقالة. وهذا ما يفسر أنه لم يكن من الضروري توفر شباب هذه الحركة على فلسفة للتغيير لكي يقوموا بثورتهم ويحدثون التغيير. فالمهم بالنسبة لهم هو الحدث لا النظرية التي تفسر الحدث.
كيف تنظر، بصفتك كاتبا ومفكرا، إلى المجتمعات العربية وهي تخوض ثورتها؟
ما يلفت الانتباه في ثورات الجماهير الشعبية العربية أن رهانها لم يكن الإصلاح الذي يصب في تحسين كفاءة الأنظمة الموجودة، بل كان رهانها التغيير، فأصدرت حكما على الأنظمة المتداعية بأن صلاحيتها قد انتهت (over)، وعليها أن ترحل (dégage). أكثر من ذلك، لم تشأ هذه الثورات أن تتصور للثورة فعلا واحدا هو إسقاط رأس النظام، بل تصورتها ذات أفعال متعددة غايتها إرساء قواعد جديدة (دساتير) للعبة السياسية تنبثق عنها بنيات سياسية حقيقية قادرة على تكريس الديمقراطية بملحقاتها من حرية وعدالة وإنصاف... فبرهنت الشعوب العربية بذلك على أنها شعوب حية ومتحضرة وقادرة على رفع تحدي الحداثة في وجه الأنظمة المستبدة التي كانت تتوهم أنها خالدة إلى الأبد.
هل تعتقد أن لتطور الذهنية العربية خلال نصف قرن كامل دورا في التثوير والاحتجاج؟
برهن «الربيع العربي»، وبشكل متفاوت من بلد إلى آخر، على نضج تاريخي كان، بلا شك، ثمرة مخاضات وتراكمات سلسلةمن الاحتجاجات والانتفاضات والانقلابات. غير أن الذهنية العربية الآن تكاد توجد في تقابل تام مع الذهنية العربية التي سادت منذ عصر النهضة. آية ذلك أن من قاد ثورات الربيع العربي الذي نحن فيه هم شباب غير محزّب وغير منقّب ماهر في استخدام أحدث الوسائل المعرفية والتواصلية لتطوير مناهج تفكيره وتعبيره وتبليغه وتعبئته الخروج إلى الشارع. وليس صحيحا أن حركات الربيع العربي بوسائلها التقنية المتطورة شكّلت، من غير أن تدري، نوعا من “الوحدة الوطنية"، أو من “الكتلة التاريخية" العابرة للأوطان من المحيط إلى الخليج، والمخترقة لكل الشرائح الاجتماعية والهيئات السياسية والمنابر الإيديولوجية. فهذه الثورات الربيعية أبعد ما يكون عن هذين الإطارين الفكريين العتيقين اللذين يحتاجان لأحزاب وإيديولوجيات واجتماعات مرهقة. وما يبدو أنه كتلة أو وحدة وطنية هو عبارة عن لقاء عابر في فضاء الحاسوب أو في ساحة المظاهرة الاحتجاجية.
لا مراء في أن مثل هذه الثورات بهذا الحجم لا تأتي من عدم، بل لابد لها من خلفية، من تراكم وتفاعل كثير من العوامل. وبالفعل، نعتقد أن “الربيع العربي" استبطن في “لاشعوره" تراكمات أحلام الثورات الوطنية في الاستقلال والسيادة والكرامة، وإحباطات الانقلابات التي حملت معها وعدا تاريخيا طوباويا للعدالة والحرية، الذي انقلب إلى كابوس مرعب يجثم على صدر الشعوب على شكل أنظمة قمعية تتحكم فيها أسرة الرئيس وبطانته الفاسدة بشكل مطلق. استوعبت حركات “الربيع العربي" دروس هذه الأحلام والإحباطات، فقررت الابتعاد كليا عن البرامج الطويلة العريضة المغلّفة بالمساحيق الإيديولوجية أو المزينة بالاستعارات والوعود اللاهوتية، مفضِّلة أن تطرح عوض ذلك شعارات مباشرة وبسيطة وفعالة تصل مباشرة إلى القلوب وتحرك توا الجوارح بتلقائية وعنفوان لا يضاهى.
نحن إذن أمام ذهنية جديدة تتسم بالخفة والبساطة والتلقائية، بل وبالطرب والحبور، إلى درجة حملت الشاعر المذكور (سعدي يوسف) على صفها بالسطحية (وهو بالمناسبة وصف تقريظي بالنسبة لشاعر آخر مثل نيتشه). لكن هذه الذهنية الجديدة تتصف أيضا بروح البذل والغيرية والتضحية والمقاومة إلى آخر رمق. نحن أمام أخلاق جديدة تجُبّ ما قبلها، لأن مصادرها الثقافية مختلفة عن مصادر الأخلاق السابقة. “فالربيع العربي" كما قلنا هو وليد تقاطع بين عالم افتراضي (برزخي) جديد للمعرفة والمواصلات والتواصل الآني والمجاني وغير الخاضع لقهر ورقابة البنيات المعقدة والقادر على التعبئة الآنية بواسطة المعلومات الطرية، وبين مجتمع مدني بأخلاقه الجديدة القائمة على التضحية والإيثار والبذل والعطاء من دون انتظار جزاء أو شكر. إنها أخلاقية جديدة تجري في فضاء عمومي قوامه الحرية والتعدد والاعتراف بالآخر وتقصّي المعلومات أينما كانت وتداولها بكل حرية وأريحية مع أي كان. هذا الأفق الجديد خلق مواطَنَة جديدة بعيدة عن الأحكام المسبقة للأصوليات الدينية والعرقية والقومية والحداثية، مواطَنة لا تعرف التخاذل والانهزامية والتزلف والانبطاح، مواطَنة لا تهمها الحقيقة، وإنما تعنيها التعبئة! هذا الفضاء، بفضل تركيبه العنكبوتي المتشابك، وبفضل قدرته على تقصِّي الأخبار وتوزيعها بأريحية وسخاء، وكفاءته في إثارة الأسئلة الحرجة خارجا عن سياج المحرمات، وإتاحته الفرصة لتبادل الآراء بكل حرية، أعاد للكلمات معناها بأن ربطها بالفعل لا بالحقيقة. فكلمات مثل العدالة والديمقراطية والحرية والكرامة والمساواة والمواطنة لم تعد كلمات قصبية جوفاء، بل أصبحت ممتلئة بالدلالة الواقعية، بفضل الخروج إلى الشارع.
لكن المفارقة أن تستطيع الثورة الربيعية، أي الشبابية، الإطاحة بالعقل الأصولي بتجلياته الدينية والإثنية والثقافية والحزبية على مستوى الشارع، وأن تبقى عاجزة أمام غزوه لصناديق الاقتراع. لعل الوقت لم يحن بعد لذلك، ولكنه آت لا ريب فيه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.