يواصل الروائي عبد العزيز الراشدي كتاباته السردية، لكنه هذه المرة يخرج عن طريق الرواية باتجاه أدب الرحلة، حيث ينقل بلغة أدبية تلك التجارب التي عاشها في العديد من المدن سواء التي سافر إليها للمشاركة في إقامات و مهرجانات أدبية، أو التي عاش فيها قسطا من حياته طالبا أو موظفا، لذلك نجد في عمله الجديد»يوميات سندباد الصحراء» الصادر قبل أيام عن منشورات «الثقافة الجنوبية» بالمغرب محكيات عديدة تتجاور فيها المدن المغربية كالجديدة و مراكش مع مدن عربية كالقاهرة و بيروت و دمشق و المنامة مع مدن أخرى من أوربا كباريس و جنيف. عبد العزيز الراشدي هو السندباد القادم من الصحراء بهدوئه و شساعة نظرته لا يهتم في هذا الكتاب بوصف جغرافيا المكان و تقديم معلومات سياحية للقارئ، إذ يبدو له أن لأدب الرحلة في اللحظة الراهنة مهامَّ أخرى، لذلك فالكتاب ليس دليلا سياحيا ولا وثيقة تحمل المعرفة، إنه نص أدبي طويل، تصلح أجزاء عديدة منه أن تكون فصولا في رواية. يركز الراشدي على شيء أساسي يبدو أنه هو منطلق الكتابة لديه، إنه يكتب فقط عن تلك الأشياء التي ترمقها عين الروائي، و تترك أثرا ما في داخله، قد يغض طرف السرد عن أحداث تبدو للآخرين كبيرة، و ينساق و راء الحديث عن أمور صغيرة جدا، لكنها مؤثرة. هناك نوع من التفاعل المستمر بين ذات الكاتب و ما يحيط بها من الخارج، إنه مثلا يتأمل في «خريف باريس» وجوه ركّاب القطار ثم يعود ليسائل نفسه، فكل ما يراه في الخارج يجده مبررا لطرح أسئلة على الداخل؟ هذا ما يفعله الكاتب مرارا، و بالضبط حين يكون وحيدا. و ثمة تفاعل آخر يحققه الراشدي بين ثقافته المحلية وثقافة الآخر، ففي سويسرا حين ترسم شيري إشارة الصليب و هي تحدثه عن إيمانها بوجود الأشباح يحدثها هو عن «عيشة قنديشة» أسطورة الثقافة الشعبية بالمغرب، الجنية التي تتربص بالرجال في الطرقات المظلمة، و لأنه سارد بالأساس و ابن ثقافة شفاهية شاسعة فإن الآخر غالبا ما يتلقى محكياته هذه بذهول و شغف: «تفغر فاها»، هكذا يصف جليسته الايرلندية شيري. تشبه نصوص الراشدي من حيث البناء تلك العلبة الصينية التي تحدث عنها فارغاس يوسا، فثمة حكايات صغيرة داخل الحكاية الكبيرة، إذ نجده يفتح داخل السرد من حين لآخر قوسا باتجاه قصص فرعية، كحكاية الشاب المغربي الذي تغار عليه زوجته العجوز السويسرية من البوسنيات في الحانة، و تنصحه بالشرب في المنزل مادامت الثلاجة ممتلئة، الشاب الذي ينتظر أن يصبح غنيا ليعود إلى المغرب و يستقر فيها، لكن أوربا كما يقول الكاتب لم تعد جنة. يكتب عزيز نصا قصيرا عن أربع مدن من الشام و الخليج، بينما يخص بيروت بنصين، هذه المدينة تحضر في «يوميات سندباد الصحراء» مثل معزوفة موسيقية، هذا ما تكشفه اللغة التي كتب بها الراشدي عن أسفاره إلى هذه المدينة، لغة حالمة و مرهفة بدءً من العنوان «هواء بيروت» وصولا إلى تلك التوصيفات التي تنسحب على عدد من الأحداث و المشاهد، و أحيانا تتماس هذه اللغة مع الشعر: «هل انتظرنا طويلا؟ هل كان بإمكان الريح أن تهبنا هشاشتها ويهبنا البرد الخفيف ستاره؟ هل ركبنا صخرة صغيرة أو قصبة مثل طفل محارب يركب ساقيه؟ هل اكتشفنا الحائط متأخرَيْن؟». لا يراهن الراشدي على ما يقع من أحداث، فهو ليس بصدد كتابة رواية، إنه مشغول فحسب بما يشاهده، لذلك يبدو أن ما يقدمه الكِتاب هو في جوهره قراءة لما تراه العين، عين الكاتب، و ما تلتقطه حواسه من صور و موسيقى و صوت ورائحة، لذلك فلغته هي لغة من ينظر و يتأمل و يفكر. و ليست بالضرورة لغة من يريد أن يحكي، و لهذا السبب نجده مثلا يفرد مساحة للحديث عن الموسيقى في لبنان، و لعقد مقارنة بين مفردات الحب في بيروت و الدارالبيضاء. أما مدن المغرب فهي حاضرة عبر أربعة نصوص، الأول عن «مازاكان» الساحلية مدينة الحب و المعرفة، و الثاني عن صيف مراكش، و الثالث عن أغادير مدينة الإقامة و العمل، و الرابع و الأخير في الكتاب عن الجنوب مسقط الرأس و القلب، حيث يعود السندباد بعد تعدد الأسفار و الجولات إلى صحرائه، إلى الواحات و الكثبان، و الحياة التي تسير بهدوء و ببطء مثل نساء الجنوب. غالبا ما ينطلق عبد العزيز الراشدي من حدث عابر يتخذه ذريعة لتمرير خطابات تحمل في ظاهرها السخرية و الانتقاد و تخفي في باطنها الكثير من القلق خصوصا حين يتعلق الأمر بمقارنة بين الوضع الاجتماعي و الثقافي لبلدين يفصلهما المتوسط: المغرب و اسبانيا، و هذا المقتطف كفيل بأن يقول أشياء كثيرة: «كنتُ أجول في كزا بلانكا، أبحث عن مؤسسة قريبة من معهد اسباني، فذكرتُ لصاحب الطاكسي اسم المعهد منقوصا لأدله على المكان. ذكّرني السائق باسم المعهد كاملا و بكل سلاسة: خوان خمينيث رامون. هل تعرفه ؟ قلت له . أجابني: -كاتب واقيلا. قلت له إن خوان خمينيث رامون كاتب إسباني شهير ولهذا كرّمه وطنه وأطلق اسمه على المعهد. ثم سألته: -هل تعرف الكاتب المغربي محمد زفزاف؟ قال لي لا أعرفه. سألتُه : -من تعرف من الكُتاب المغاربة؟ أجابني :- أبو العلاء المعري !»