عبد الرحيم الخصار تنحو الرواية المغربية الجديدة إلى نوع من التخصص: أعمال حسن رياض مثلا تهتم بالتاريخ، تاريخ اليهود وتاريخ المدينة، وأعمال نور الدين وحيد تعنى بقضايا الطبقات المهمشة، وتندرج النصوص السردية لعبد العزيز الراشدي بشكل واضح ضمن ما يمكن تسميته بالأدب الصحراوي، وهو كان أسس لهذا التوجه في مجموعتيه القصصيتين، «زقاق الموتى» و»طفولة ضفدع»، ليعمقه بشكل أوضح في روايته الجديدة «بدو على الحافة» الفائزة أخيرا بإحدى جوائز الشارقة. يحافظ الراشدي على الوظيفة الكلاسيكية للعنوان، أي كونه مفتاحا أساسيا للنص أو أداة أولية تضيء مداخل الرواية، ف»بدو على الحافة» يحيل بالضرورة على نمط المروي عنه ووضعه الحرج. إننا أمام مجموعة محددة سلفا تعيش مشكلة أو مأزقا لم يحدد بعد، وتالياً يحمل العنوان في طياته وظيفة أخرى هي التشويق، مما يجعل القارئ يطرح السؤال المفترض: ما طبيعة الحافة؟ وما نوع المشكلة وحجمها؟ تتأتى الإجابة عبر تعقب الحكاية في تشعباتها وتفريعاتها العديدة. تقتحم الرواية عالما مختلفا في المتن الروائي المغربي، الذي لا يزال في عموميته جديدا، فهي رواية عن تخوم الصحراء، تتجاذبها عوالم البدو والمستقرين، حيث تنشط علاقات الود والخصام في نسق بعيد عن الكتابة الكلاسيكية التي تعتمد خطية السرد. رواية تشبه روايات أمريكا اللاتينية التي تركز على تلمس المسافة بين الواقع والحلم، وهي رواية تضجر من الواقع، لكنها تحكي بعض ملامحه من دون أن تسجله. هي عن رحلة الحياة، من خلال سرد تفاصيل حياة مجموعة من الغرباء جاؤوا يفتحون كنزا في الجنوب المغربي، لكنها أثناء ذلك تعرّج على تفاصيل حياة القرية التي تنتظم بين جنباتها الشعوذة والعلاقات القبلية. وعلى هامش ذلك كله يسكن باحث في مجال التاريخ برفقة زوجته الطبيبة التي حلت في القرية لتداوي أمراض العيون الشائعة، وتكتب الطبيبة روايتها ولا تنهيها لأن أمراضا نفسية وتهيؤات كثيرة تفترسها، فتغادر وتترك لحبيبها مهمة استكمال الرواية. وسواء كانت الفصول تتحدث عن المستقبل أو الماضي أو الحاضر، وسواء كان المحكي حلما أو حقيقة، فإن الرواية لا تترك ثغرة من دون أن تسدّها. أما شخوص رواية الطبيبة فهم شخوص رواية عبد العزيز الراشدي أنفسهم، كعلبة داخل علبة، وتسير الحياة بالباحث فلا يعرف هل شخوص رواية حبيبته حقيقية أم من وحي خيالها الجامح؟ يبدو أن الراشدي يعتمد على تلك التقنية الأثيرة لدى روائيي العالم والمستقاة من التراث الشرقي، «ألف ليلة وليلة» تحديدا، أقصد التقنية السردية التي يسميها فارغاس يوسا العلبة الصينية، حيث تتولد من الحكاية الرئيسية حكايات فرعية أخرى، ويتم دمج قصص ضمن قصص أخرى عبر نقلات الرواة. وسيبدو للقارئ أن الراشدي اشتغل كثيرا كي يوفق في التأسيس لعلبة صينية منسجمة العناصر، ذلك أن هذا النوع من التقنيات يصعب الاشتغال به حين يحضر شرط آخر هو التكثيف. فالحكي عند الراشدي مكثف وخصوصا أن الرواية لا تتجاوز السبعين صفحة، مما سيدعو الكاتب إلى اعتماد عنصر جديد يتمثل في الرشاقة والخفة عبر تحولات الراوي، وتالياً تحولات مستوى التبئير، والغاية من ذلك أن يبدو الانتقال من سلسلة سردية إلى أخرى مرنا،ً فلا تتعسر عملية القراءة ولا تنكسر متعة القارئ. تبدأ الرواية في الفصل الأول بحادثة سير وقعت لجماعة من الغرباء ويحضر في الفصل الموالي الحاكي وهو المحجوب، الذي يفسر الحادثة ولا يأبه له أحد، لنكتشف أنه ربما يكون على صواب في ما يحكي. ثمة راو مركزي هو السارد، غير أن هناك فصولا بضمير المتكلم يرويها بطل الرواية الذي يمارس كتابة الرواية داخل الرواية وترتفع في هذه الفصول حدة اللغة الشعرية. عموما، تنتصر الحكاية للمكان، وهو الجنوب والصحراء، حيث تسرد تفاصيل درعة الجنوبية، ويراهن الراشدي وهو ينصت إلى هذا الفضاء البكر، على التجريب الذي لا يرحل في اتجاه أقاص بعيدة، مستدعيا بذلك تراكمات الكتابة الواقعية السحرية التي تخلط الخيال بالواقع. يبدو أن الروائي كاتب عجول، إذا جازت هذه العبارة، ذلك أنه يعتمد البصر كحاسة أساسية للاشتغال، فهو يقصي الذاكرة من عمله، كأنه يريد أن ينقل الحدث بأسرع وقت ممكن وأن يحسم الحكاية هنا، حتى أننا نشعر أحيانا أن النهاية جاءت في وسط الحكاية. هذه الحماسة في الكتابة تغلفها مجموعة هائلة من أحلام رجل جنوبي، فالقادم من الصحراء هدفه الأساسي هو الحكي الذي يصير عند الراشدي هو البطل، بل البطل الوحيد في المكان الوحيد: الصحراء. ويستمد هذا النوع من العمل مشروعيته ليس من الانتماء الجغرافي للكاتب فحسب، بل من مرجعيته القرائية أيضا. يكشف الروائي والقاص المغربي عبد العزيز الراشدي عن مقدرة كبيرة في استنطاق ما يبدو صامتا في الأدب، عبر لغة تقترب كثيرا من الشعر من دون أن تبتعد عن المعالم الأساسية لعملية الحكي، بمزاج كاتب لا يملك، في العمق، سوى مزاجه.