كما النهر الذي يجري / محكيات 1998 ذ 2005 مجموعة نصوص قصيرة ( 101) نشرها باولو كويلهو ما بين 1998 و2005، وهو يفتح لنا من خلالها أبواب عوالمه ككاتب؛ إنها مقطوعات قصيرة جدا من الحياة اليومية ومن نصوص حكاها له آخرون، وأعطاها هو بُعد حكايات فلسفية أو بيداغوجية بالغة الأهمية لمن يرغبون في العيش في تناغم مع العالم المحيط بهم. ونحن نقترح ترجمة لبعض هذه النصوص، اعتمادا على الترجمة الفرنسية التي أجزتها فوانسواز مارشان سوفاغنارغ، ضمن منشورات فلاماريون، باريس، 2006. لا أتوفر على كتب كثيرة في الحقيقة: قبل بضع سنوات، قمت ببعض الاختيارات في الحياة، تقودني فكرة البحث عن الحد الأقصى من الجودة بأقل ما يمكن من الأشياء. لا أعني أنني اخترت حياة رهبانية ? بل بالعكس، حين نكون غير مُجبرين على امتلاك عدد لا ينتهي من الأشياء، تكون لدينا حرية واسعة. إن بعض أصدقائي (وصديقاتي ) يشكون أنهم يضيعون أوقات كثيرة من حياتهم في محاولة اختيار ما سيرتدونه لأنهم يتوفرون على ملابس كثيرة. و بما أن صواني يتلخص في ? أسود قاعدي ?، فإنني لست في حاجة لمواجهة هذا المشكل. مع ذلك، فأنا لا أريد الحديث هنا عن الموضة، بل عن الكتب. ولكي نعود إلى الأساسي، قررت الاحتفاظ بأربعمائة كتاب في مكتبتي، بعضها لأسباب عاطفية، وبعضها الآخر لأنني أُعيد قراءته دائما. اتخذت هذا القرار لأسباب مختلفة، أحدها التعاسة التي نشعر بها حين نرى كيف تتعرض مكتبات، تمت مراكمتها بعناية على مدى حياة، للبيع بناء على الوزن دون أدنى احترام. و هناك سبب آخر: لماذا الاحتفاظ بكل هذه المجلدات بالبيت؟ لكي أُظهر لأصدقائي بأنني مثقف؟ لتزيين الجدران؟ إن الكتب التي اقتنيتها ستكون مفيدة للغاية إذا كانت في مكتبات عمومية أكثر منها إذا ظلت ببيتي. في السابق، كان بإمكاني القول: إني أحتاجها لأنني سأراجعها. لكن اليوم، وحين تكون معلومة ضرورية بالنسبة لي، فإنني أشغل الحاسوب، فيظهر أمامي كل ما أحتاجه. اليوم، يوجد الأنترنيت، أكبر المكتبات في الكون. أُواصل، طبعا، اقتناء كتب ? لا وجود لوسيلة إلكترونية يمكنها تعويض الكتب. لكن، بمجرد أن أُُنهي قراءة كتاب، أسمح له بالسفر، أُعطيه لشخص آخر، أو أُودعه بمكتبة عمومية. ليست نيتي أن أنقذ غابات أو أن أكون سخيا: أعتقد فقط أن للكتاب مسارا خاصا ولا يمكن الحكم عليه بأن يظل جامدا على رف. بما أنني كاتب وأعيش من حقوق التأليف، فربما أكون بصدد تقديم مرافعة ضد قضيتي الخاصة ? كلما اقتنى الناس كتبا، كلما اكتسبت مالا أكثر في النهاية. إلا أن ذلك سيكون ظلما للقارئ، لا سيما في البلدان حيث لا يأخذ قسم كبير من البرامج الحكومية لمقتنيات المكتبات بعين الاعتبار المعيار الجوهري لاختيار جدي: متعة القراءة وجودة النص. لنسمح لكتبنا بالسفر، فبذلك ستلمسها أياد أخرى وتتمتع بها أعين أخرى. وأنا أكتب هذا النص، أتذكر بشكل غامض قصيدة لخورخي لويس بورخيس تتحدث عن كتب لن يُعاد فتحها أبدا. أين أنا الآن؟ في مدينة صغيرة بالبيرينيه، في فرنسا، أجلس بمقهى مستفيدا من الهواء المكيف، لأن درجة الحرارة لا تطاق خارج المقهى. تشاء الصدفة أن تكون لدي الأعمال الكاملة لبورخيس بالبيت، على بعد بضع كيلومترات من المكان حيث أكتب ? إنه كاتب أقرأه باستمرار. لكن، لماذا لا أجرب؟ أعبُر الشارع. أسير خمس دقائق حتى أصل مقهى آخر، مجهزا بحواسيب ( من نوع المؤسسات التي تحمل اسم مقهى الأنترنيت الجذاب والمتناقض. أحيي صاحب المقهى، أطلب ماء معدنيا مثلجا، أفتح صفحة مُحرك للبحث وأُصفف بعض الكلمات من البيت الوحيد الذي أتذكره واسم الكاتب. بعد أقل من دقيقتين، أرى القصيدة كلها أمامي: هناك بيت لشاعر لن أتذكره أبدا هناك مرآة رأتني آخر مرة هناك باب أُغلق إلى الأبد. من بين كتب مكتبتي واحد لن أفتحه أبدا. لدي الانطباع، في الحقيقة، أن عددا كبيرا من الكتب التي منحتها، ما كنت سأفتحها أبدا ? تنشر دائما كتب جديدة، مهمة، وأنا أهوى القراءة. إني أعتبر توفر الناس على مكتبات أمرا رائعا؛ إن الاتصال الأول للأطفال بالكتب يولد، عموما، من فضولهم لبعض الكتب المجلدة التي بها شخصيات وحروف. إلا أني أجد من الرائع أيضا الالتقاء، خلال حفل توقيعات، بقراء لديهم نسخ مستهلكة جدا أُعيرت عشرات المرات، ما يعني أن الكتاب سافر كما كان ذهن مؤلفه يسافر وهو يكتبه. . إلى سيدة هي السيدات كلهن بعد مرور أسبوع واحد على انتهاء معرض الكتاب بفرانكفورت، تلقيت مكالمة هاتفية من ناشر أعمالي في النرويج: يود منظمو الحفل الموسيقي الذي سينظم على شرف الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، الإيرانية شيرين عبادي، أن أكتب نصا بالمناسبة. إنه شرف لا يمكنني رفضه، لأن شيرين عبادي أسطورة: امرأة طولها متر ونصف المتر، إلا أن قامتها تكفي لجعل صوتها، وهي تدافع عن حقوق الإنسان، يُسمع في كل جهات العالم. وهي، في الوقت نفسه، مسؤولية أتخوف منها بعض الشيء ? سيبث الحدث في مائة وعشرة من البلدان، وليست لدي سوى دقيقتين للحديث عن شخص كرس حياته كلها للناس كلهم. أتمشى وسط الغابة قرب المطحنة التي أُقيم بها حين أكون بأوروبا؛ فكرت مرات عديدة أن أتصل هاتفيا لأقول إنني غيرملهم، إلا أن الأكثر أهمية في الحياة هو التحديات التي نواجهها، ثم قبلت الدعوة في النهاية. سافرت إلى أوصلو يوم 9 دجنبر، وفي اليوم التالي ? يوم جميل مشمس -، كنت داخل القاعة حيث سيتم تسليم الجائزة. كانت نوافذ البلدية الواسعة تسمح بمشاهدة الميناء حيث كنت جالسا، قبل واحد وعشرين سنة، في نفس الفترة تقريبا، أنا وزوجتي نشاهد البحر المتجمد، نأكل الجمبري الذي وصل لحظتها على متن مراكب الصيد. أفكر في المسار الطويل الذي قادني من ذلك الميناء إلى هذه القاعة، إلا أن ذكرياتي قطعتها الأبواق التي كانت تُدوي مُعلنة دخول الملكة والأسرة الملكية. سلمت اللجنة المنظمة الجائزة، ألقت شيرين عبادي خطابا ملتهبا يُدين اللجوء إلى الرعب كمبرر لخلق دولة بوليسية في العالم. خلال الليل، خلال الحفل المنظم على شرف المتوجة، أعلنت زيتاجوتس عن نصي. ضغطت، لحظتها، على حاسوبي المحمول، رن هاتف في المطحنة القديمة ( تم إعداد كل شيء سلفا )، فكانت زوجتي هنا معي تسمع صوت ميكاييل دوغلاس وهو يُلقي كلمتي. ها هو النص الذي كتبته ? والذي أعتقد أنه ينطبق على كل الذين قاوموا من أجل عالم أفضل: يقول الشاعر الرومي: ? الحياة تشبه ملكا يبعث شخصا إلى أحد البلدان للقيام بمهمة محددة. يسافر الشخص إلى ذلك البلد ويقوم بأشياء كثيرة ? لكن، إذا لم يقم بما طُلب منه القيام به، فإنه كما لو أنه لم يقم بأي شيء على الإطلاق ?. لأجل السيدة التي فهمت مهمتها لأجل السيدة التي رأت الطريق أمامها، وفهمت أن سباقها سيكون صعبا جدا. لأجل السيدة التي لم تسع إلى التبخيس من تلك الصعوبات: بالعكس، أدانتها وعملت لجعلها بادية. لأجل السيدة التي جعلت أولئك الذين يعيشون وحدهم أقل عزلة، السيدة التي غذت أولئك الذين كانوا جياعا وعطشى للعدالة، السيدة التي عملت لكي يحس المضطهِد أنه يتألم كما المضطهَد. لأجل السيدة التي تترك أبوابها مفتوحة، يديها تعملان، رجليها تتحركان. لأجل السيدة التي تجسد أبيات شاعر فارسي آخر، حافظ، حين يقول: ? حتى سبعة آلاف سنة من الفرح، لا يمكنها تبرير سبعة أيام من القمع ?. لأجل السيدة التي هي هنا الليلة: لتكن كل واحد منا ليتضاعف نموذجها لتظل أمامها أيام كثيرة صعبة، لكي تتمكن من إتمام عملها. بذلك لن تجد الأجيال القادمة معنى الظلم إلا في القواميس، وليس أبدا في حياة البشر. ليكن سباقها بطيئا، لأن إيقاعها هو إيقاع التغيير. والتغيير، التغيير الحقيقي، يكون إنجازه دائما طويلا جدا. جنازتي حضر صحافي ? مايل أو سانداي ? إلى الفندق يحمل معه سؤالا بسيطا: كيف ستمر جنازتي إذا توفيت اليوم؟ ترافقني، في الحقيقة، فكرة الموت دائما، منذ أخذت طريق القديس يعقوب سنة 1986. حتى ذلك الوقت، كانت ترعبني فكرة أن كل شيء يمكنه أن ينتهي ذات يوم، إلا أنني قمت في إحدى مراحل الحج، بتمرين يرتكز على أن يجرب الإنسان الإحساس بأنه دُفن حيا. كان التمرين جادا إلى درجة أنه أفقدني الخوف كلية، وأنني أخذت أنظر إلى الموت باعتباره رفيق سفر عزيز، يجلس دائما إلى جانبي ويقول: ? سأُصيبك وأنت لا تعرف متى، لا تكف إذن عن العيش بأقصى شدة ممكنة ?. بذلك، لم أعد أؤجل أبدا ما يمكنني القيام به اليوم إلى الغد ? يتضمن ذلك الفرح إكراهات عملي، طلب الغفران كلما أحسست أنني آذيت شخصا ما، تأمل اللحظة الحاضرة كما لو كانت الأخيرة، أتذكر أنني شممت مرات عديدة عطر الموت. خلال يوم ناء من سنة 1974، فوق ردم فلامنغو ( بريو دي جانيرو )، حين عرقلت سيارة أخرى طريق سيارة الأجرة التي كنت أمتطيها، وأخرج مجموعة من أشباه العسكريين أسلحتهم ثم وضعوا غطاء على رأسي، رغم طمأنتهم لي بأنه لن يصيبني مكروه، كنت متيقنا أنني سأكون مفقودا إضافيا في لائحة النظام العسكري. أو حين تهت، سنة 1989، خلال عملية تسلق جبل في البيرينيه: رأيت المناظر دون ثلج ودون نبات، اعتقدت أنني لن أجد القوة المطلوبة للعودة، واستنتجت أنهم لن يعثروا على جسدي إلا خلال الربيع القادم. في النهاية، وبعد ساعات من التيه، اكتشفت ممرا ضيقا قادني إلى قرية ضائعة. ألح صحافي ? مايل أو سانداي ?: لكن، كيف ستمر جنازتي؟ طيب، بناء على الوصية التي حررتها، لن تكون هناك جنازة: قررت أن يتم حرقي وأن تنثر زوجتي رمادي في مكان يُدعى الكبرييرو بإسبانيا. حيث وجدت سيفي، مخطوطاتي التي لم أنشرها ، لا يمكن أن تُنشر( يُرعبني عدد ال ? أعمال بعد الوفاة ? أو ? حقائب النصوص ? التي يقرر ورثة فنانين، عديمو الذمة، نشرها لكسب بعض المال: إذا كان أصحابها لم يفعلوا ذلك، وهم على قيد الحياة، فلماذا لا تُحترم تلك الحميمية؟ ). السيف الذي عثرت عليه في طريق القديس يعقوب، سيُلقى به في البحر ويعود من حيث أتى. أما أموالي وحقوق التأليف، التي سيتواصل جنيها طيلة الخمسين سنة القادمة، فستخصص كلها للمؤسسة التي خلقتها. ? وشاهدة قبرك؟ ?، ألح الصحافي. إذا كنتُ سأُحرق وبما أن الرياح ستنقل رمادي، فلن تكون لي، بالتأكيد، تلك الصخرة الذائعة الصيت التي تحمل تدوينا. لكن، إذا كان لابد أن أختار جملة، فسأطلب أن يُنحت على شاهدة القبر: ? مات بينما كان حيا ?. قد يبدو ذلك تفسيرا معكوسا، إلا أني أعرف أن العديد من الناس الذين كفوا عن العيش، رغم أنهم يُواصلون العمل، يأكلون ويزاولون أنشطتهم الاجتماعية المعتادة. إنهم يعلمون ذلك، كما لو كانوا أناسا آليين، دون أن يفهموا اللحظة السحرية التي يحملها كل يوم في ذاته، دون أن يتوقفوا عن التفكير في معجزة الحياة، دون أن يفهموا أن الدقيقة التالية ربما تكون دقيقتهم الأخيرة فوق سطح هذا الكوكب. استأذنني الصحافي وانصرف، جلست أمام الحاسوب وقررت كتابة هذا النص. أعرف أنه لا أحد يحب التفكير في هذا الموضوع، إلا أنه واجب تجاه قرائي: جعلهم يفكرون في الأشياء المهمة في الوجود. وقد يكون الموت أكثرها أهمية: إننا نمضي في اتجاهه، لا ندري أبدا متى سيُصيبنا و من واجبنا، إذن، أن نشكره على كل لحظة، أن نشكره أيضا لأنه يجعلنا نفكر في كل موقف نتخذه أو لا نتخذه. انطلاقا من ذلك، علينا أن نُقلع على كل ما يجعل منا ? أمواتا أحياء ?، وان نُراهن بكل شيء، أن نُخاطر بكل شيء، لأجل الأمور التي شغلنا إنجازها دائما. شئنا أم أبينا، فملاك الموت في انتظارنا.