تصعيد خطير.. تقارير عن توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    ترامب يؤكد التصدي للتحول الجنسي    حداد وطني بفرنسا تضامنا مع ضحايا إعصار "شيدو"    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    توقيف شخص بالبيضاء بشبهة ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير        تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تقادم أطروحة التقابل بين الغرب والباقي

خطاب التقابل بين الغرب والباقي، الذي طال واستطال صيره مثقفونا أجندة مفروضة في الحقل الأكاديمي، أجندة ذاتية الاعلان ,ما أن تفتح صحيفة أو مجلة أو كتابا بيستسلر (كثير المبيعات) أو تدير زر تلفاز أو مذياع باتجاه برنامج ثقافي حتى تعثر على صدى ذلك التقابل الانطولوجي الراكد، تسمع أو تقرأ كلاما نمطيا من نوع إنهم هناك يفكرون كذا وبالطريقة كذا ونحن نفكر كذا، إنهم هناك تغلبوا على صنف المشاكل كذا بسلوك المقاربة كذا ونحن لازلنا نقاربها بالطريقة كذا وهكذا ودواليك تتفرع مفردات خطاب التقابل، مجمدة مجال المقارنات المعيارية بما لا يعكس حقيقة تطور الواقع الراهن من حولنا.
في مجال العلاقة بين المفاهيم وهي في الأصل والمنطلق بناءات لغوية تستوحي حمولتها من توصيف مركز للواقع, وبين هذا الواقع المتحرك والمتحول ذاته، قد يحصل اضطراب كبير حينما تتخلف المفاهيم عن ركب الأحداث وتنأى أو تستقل بذاتها فتميل إلى الانعزال في عوالمها اللغوية المقفلة بعيدا عن التطورات الميدانية لمجريات هذا الواقع.
ويبدو أن هذا بالضبط هو ما يحصل لمفهوم تداولناه طويلا بدون انقطاع ودون حساب. مفهوم الغرب، الغرب بصيغة المفرد المتفوق، مفهوم تواتر بقوة في استعمالاتنا التداولية المتعددة, سواء في منطوقات اللغة الاستراتيجية أو ضمن مفردات اللغة الاقتصادية والسياسية، أو في باب المعالجات الفلسفية للقضايا والموضوعات أو في عموم السرديات الثقافية.
وهكذا، ففي عالمنا العربي أكثر من غيره من مناطق العالم، لازالت لغتنا ولغة النخب في المقدمة مسكونة بقوة بهذا التقابل بين الغرب وغيره، بيننا وبين الغرب، بين الغرب والباقي the west and the rest بتعبير الأكاديمي الأمريكي جوزيف ناي.
وهكذا كذلك، ومنذ ما يربو عن القرنين من الزمن منذ أن دخلت جيوش نابليون مصر وما أثارته وقتها من ردود فعل فكرية, استمر صداها لدى كتاب النهضة، وصولا إلى كتابات التراثيين العرب، ثم بعدهم المؤرخون والفلاسفة الكتاب العرب المحدثون، من طه حسين إلى أنور عبد المالك، ومن العروي إلى طرابيشي، ومن جورجي زيدان وأركون إلى المرحوم عابد الجابري منذ ما يربو على القرنين من الزمن, إذن وإلى حدود اليوم لازالت الغيرية، والتقابل والتمايز، ولازالت قاعدة أو قواعد المقارنة, كل هذه العمليات الذهنية لازالت تتحدد بالإحالة إلى الغرب وحده غرب مفرد، متفوق، مهيمن، متحكم لا فقط في الحاضر (فهذا مما يمكن التسليم به جزئيا) ولكن في صياغة المستقبل، المنظور وغير المنظور، غرب يرى ككيان مصفوف ومرتب في انسجام جغرافي اقتصادي مقابل باقي الأقوام والأجناس والأمكنة.
تحكمت هذه الرؤية في عالمنا العربي بأكثر وأبعد مدى مما تحكمت به في العوامل الثقافية والحضارية الأخرى، أحكمت سلطتها على العقول والمشاعر, سواء في المعالجات الوضعية، الوصفية والتقريرية والتحليلية أو على مستوى مختلف الأجناس التخييلية.
تحكمت هذه الرؤية في توجيه التفكير في الواقع الدولي المحيط بنا وفي صقل الحساسيات، سواء جهة المفكرين والمنتخبين الثقافيين أو جهة الممارسين للشأن العام الداخلي منه والديبولوماسي.
هذا التقابل، الحصري، بين الغرب المفرد، المتفوق وبين الباقي, منا ومن شعوب الأرض الأخرى، صار بمثابة الميزان الذي توزن به كل الأثقال، وتخضع له كل المقاييس والمقاسات، اكتسب هذا التقابل صبغة الديمومة، ولم يعد يعبأ البتة بتطورات الأشياء في الميدان، سواء جهة الشرق البعيد كالصين والهند وسنغافورة وماليزيا وأندونيسيا مثلا، أو جهة الغرب الجنوبي كالبرازيل مثلا.
وبينما كانت الوقائع تتغير بسرعة خلال العقدين الماضيين، والموازين والأثقال والمقاسات تميل بالملموس لصالح عوالم أخرى غيرعالم الغرب، وبينما كانت معدلات النمو السنوية في تلك العوالم الأخرى غير الغربية تحقق قفزات عملاقة، وفيما كانت الأفكار والرؤى تتطور بسرعة والثقة في النفس الجماعية لدى قطاعات واسعة من الرأي العام الآسيوي تتوطد، مما كان قد تفطن له هونتينغتون وهو المنافح عن مركزية الغرب، فيما كانت تلك التطورات في الوقائع وفي الأفكار تحدث, بقينا نحن وحدنا، بقي مثقفونا على وجه التحديد، يلوكون لغة التقابل بين غرب مفرد، متطور، معياري، في كل شيء وباقي الأمم، دون تمييز أو على الأصح دون القدرة على التمييز, مجترين صورا ومفاهيم بدا واضحا لكل من يريد رؤية التطورات على الأرض أن رياح الشرق الصيني تحيلها إلى كليشهات باهتة.
وفي عالمنا العربي وحده، أصبحت لغة التقابل تلك لدى المثقفين، في الزمن الحاضر وهو غير الزمن الذي وفر لها المنشأ والصدقية، أصلا تجاريا يدر الفوائد والأرباح ويصنع نجوما ثقافيين وخبراء من كل نوع في موضوع الهويات وتفصيلاتها وتقاطعاتها.
خطاب التقابل بين الغرب والباقي، الذي طال واستطال صيره مثقفونا أجندة مفروضة في الحقل الأكاديمي، أجندة ذاتية الاعلان ,ما أن تفتح صحيفة أو مجلة أو كتابا بيستسلر (كثير المبيعات) أو تدير زر تلفاز أو مذياع باتجاه برنامج ثقافي حتى تعثر على صدى ذلك التقابل الانطولوجي الراكد، تسمع أو تقرأ كلاما نمطيا من نوع إنهم هناك يفكرون كذا وبالطريقة كذا ونحن نفكر كذا، إنهم هناك تغلبوا على صنف المشاكل كذا بسلوك المقاربة كذا ونحن لازلنا نقاربها بالطريقة كذا وهكذا ودواليك تتفرع مفردات خطاب التقابل، مجمدة مجال المقارنات المعيارية بما لا يعكس حقيقة تطور الواقع الراهن من حولنا.
الغريب أن سلطة هذه المفردة اللغوية »»الغرب»« لم تمارس نفس التأثير على العقول والارادات لدى مثقفي شعوب أخرى كنا نتقاسم معها إلى عهد غير بعيد نفس خصائص التخلف والتبعية في أمريكا اللاتينية دون الحديث عن الأقطار الآسيوية حتى قبل الإقلاع الكبير الذي عرفته.
وقد كان يمكن التماس بعض الأعذار لهذا الاستلاب المركب، السياسي / الثقافي حينما كانت القناعة قائمة بأن الغرب سيبقى بؤرة القوة الاقتصادية الأولى دون منازع، ولأجل غير مسمى، وهي القناعة التي استمرت تمارس تأثيرها قبل أن يتبين بالملموس مع نهاية العقد الأخير من القرن العشرين. إن مركز الثقل، ومركز الانزياح يتحول باتجاه آسيا، وأن القرن الذي بدأنا عقده الثاني سيكون قرنا باسفيكيا بامتياز صيني.
لقد كان بالإمكان التماس بعض الأعذار لمثقفينا في هذ الاستلاب المركب، ضم المعطيات والتوازنات والملابسات السابقة، لكن أن يستمر هذا الاستلاب بعد ذلك الانزياح الكبير الذي تشهده معادلات القوة الاقتصادية الآن، فهذا دليل على تأخر تاريخي، حقيقي لدى مثقفينا.
وقد يقال مثلا أن «»الغرب»« المفرد المتفوق لا يرمز إلى الاقتصاد وحده، بل هو يرمز، إضافة للقوة الاقتصادية الى منظومة قيم، وعقل جمعي يختزن مراجع فكرية عقلانية، والقول صحيح شريطة الإقرار بأن الاقتصاد يبقي العلامة الأولى من اللاوعي الجماعي لمقفينا العرب على قوة الغرب، وفرادته ونموذجيته الكونية.
لنبق إذن ضمن أرضية الاقتصاد:
تقول المعطيات، أنه حينما كانت بلدان مجموعة التعاون الاقتصادي OCDE تتخبط في معدلات نمو لا تكاد تتجاوز 5 و1% ابتداء من تسعينيات القرن الماضي كانت الصين تحقق مستويات نمو برقمين (أي أكثر من 9%).
وحينما كانت الولايات المتحدة، والبلدان الأوربية تتخبط في مشاكل العجز والمديونية الداخلية بشكل غير مسبوق، وتضيق بها السبل من أجل الحفاظ على دولة الرعاية الاجتماعية، باحثة عن مخارج بالتقليص من سخاء الاختيارات الاجتماعية، كانت البرازيل تعمم البولصافاميليا (نوع من الدعم المالي المباشر لذوي الدخل المحدود) وتطور الخدمات الصحية. وكانت الصين تتمكن، خلال نفس الفترة من إخراج أزيد من 300 مليون نسمة من عوالم البادية إلى الحواضر الكبرى خالقة - بالعدد - أكبر طبقة وسطى في العالم (تعدادها اليوم 400 مليون نسمة.
هل نضيف أن آخر الإحصائيات (ذكرتها صحفية نيويورك تايمز مؤخرا تقول أنه في العقدين المقبلين (ليس أكثر) وفي مجال تعداد القوى الأربعة الأساسية كما ترتسم في الأفق، بلغة الأرقام وهي - الصين - الولايات المتحدة - اليابان الهند، لن تكون هناك دولة أوروبية واحدة ضمن لائحة الأربعة. ومعنى هذا أن أوربا، وهي مركز الغرب بالمعنى الإبتيمولوجي لن تكون ممثلة ضمن نادي الأربعة الكبار.
هل نضيف أن آخر توقعات صندوق النقد الدولي لشهر أبريل 2012 تبين أن نصف النمو الإجمالي العالمي (النصف نقول) سيأتي من الصين والبرازيل وروسيا والهند (الهند التي تنتج اليوم أجود العقول في مجال المعلوميات) - وأن نسبة مساهمة أوربا في هذا النمو ستكون سلبية. وأن ما يعرف بالأسواق الصاعدة هي اليوم المصدر الأساسي للتفاؤل في وجه التشاؤم المتصاعد من ثنايا الاقتصاديات المأزومة في القارة الأوربية (إذا استثنيا ألمانيا).
وهل نضيف، في إبراز مضامين الانزياح الكبير الذي أشرنا إليه، وذلك الحدث الذي مر هادئا رغم أنه كان أكبر حدث على الإطلاق خلال هذه السنة من حيث رمزيته ودلالاته السياسية، حدث التئام قمة ما يعرف اليوم في اللغة الإعلامية، لغة النشرات الاقتصادية بقمة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب افريقيا) وهي مجموعة تضم، بتعداد الأنفس خمسة و أربعين في المائة من سكان العالم وتزن اقتصاديا ما يفوق الثلث من الناتج الداخلي العالمي الخام، مجموعة اكتفت، في المرحلة الراهنة من التطور بإصدار بيان مقتضب تعبر فيه عن إرادة أعضائها من أن يكون لهم من الآن فصاعدا رأي إدارة شؤون الاقتصاد العالمي وكذا إعلان النية في تأسيس بنك دولي بعدما تبين ارتباط أداء ووظيفة البنك الحالي بثقل حضور الدول الرأسمالية الغنية الكبرى (الغرب إذن) في رسم السياسات والتوجهات. وقد كانت القمة إعلانا عن بروز وتشكل تركيبة جديدة على المستوى الجيواقتصادي.
وبتداعيات الصور، فقد ذكر مشهد الزعماء الخمس لمجموعة البريكس وهم يبتسمون أمام عدسات التلفزيون رافعين أيديهم متشابكة - ذكر المشهد، بنوع من رجع الصدى التاريخي، بزعماء العالم الحر على ظهر السفينة الشهيرة إبان إعلان الأطلنطي الذي صاغ توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كان كيشور ماهبوباني، مدير معهد السياسات العامة بسنغافورة، قد كتب قبل سنتين كتابا أثار نقاشات واسعة في كل الأوساط الاستراتيجية الغربية، والكتاب حمل عنوان من الدائرة الأسيوية: صعود آسيا وانتقال القوة .
ما هبوباني، الذي يعتبر اليوم واحدا من الوجوه الثقافية البارزة والمؤثرة بين خلال استجواب مطول مع معد البرنامج الثقافي لجامعة بركلي - سان فرانسيسكو، هاري كريسلي، بين الصعوبات التي تلاقيها العقول الغربية اليوم في تغيير الرؤية التي اعتادت أن ترى بها العالم، ومن تم تخلفها عن إدراك - ومع الإدراك الاعتراف، بالمتغيرات الحاسمة التي تطال وستطال أكثر في المستقبل المتطور، تركيبة القوى العالمية، وانتقال مركز الثقل إلى الدائرة الأسيوية عبر البوابتين الصينية والهندية - وقد دعا السيد كيشور ماهبوباني، الذي بدا قويا في طرح المعطيات الجديدة هادئا في استعراض تفاصيلها، دعا الانتلجسيا الغربية الى تغيير حاسم في طريقة رؤيتها للعام وقضاياه وممتلكاته وتوازناته عوض الانحباس في رؤية متقادمة بكل المقاييس. زروية تحيل إلى الماضي أكثر مما تحيل الى المستقبل. يذكر السيد ماهبوباني أن مجلة الإيكونومست البريطانية، وهي مجلة رصينة اعتبرت كتابه مجرد إذكاء لسجال مناهض للغرب، في وقت لم يعمل إلا على إثارة الانتباه الى المتغيرات الموضوعية.. واستيعابها م طرف صناع الرأي العام والمثقفين في الغرب ذاته والمراكز الحضارية الأخرى الصاعدة، معتبرا ردة فعل الإيكونوميست مؤشرا على تلكؤ العقل الغربي في قبول الحقائق الدولية الجديدة.
والحقيقة التي نود التركيز عليها هنا، أن التأخر أو العجز عن إدراك الحقائق الدولية الجديدة لا ينسحب علي العقل الغربي أو الانتلجسيا الغربية وحدها, كما لاحظ ماهبوباني، ولكنه ينسحب كذلك على العقل الغربي منظورا إليه من زاوية ما يصوغه المثقفون العرب من تصورات حول التقابل الحاصل بين الغرب وباقي الكيانات، تقابل طال واستطال وتكلس، وفقد القائلون به أية نباهة لرؤية الواقع الدولي كما يتشكل أو كما تشكله مراكز القوة الجيدة في الشرق البعيد اليوم.
خلال استجواب بثته قناة البي بي سي قبل سنة، في إطار برنامج هارد
توك الشهير، أذكر أن الصحفي ستيفن شاكور سأل الرئيس التركي غول، عما إذا كانت تركيا ستقبل، بعد عشر سنوات مثلا، بشروط الاتحاد الأوربي للانضمام الى الاتحاد، حيث كان رد الرئيس التركي، بتلقائية «و من قال لك أن الاتحاد الأوربي ستكون له بعد عشر سنوات جاذبية بالنسبة لنا؟ هل تنسى أن مراكز دولية كبرى هي الآن في طور التشكيل؟ وكان الجواب في الحقيقة مؤشرا قويا على استيعاب حقائق العصر القادم بما يتجاوز صيغة التقابل المعياري بين الغرب والباقي، وهي الصيغة التي لازالت مسيطرة على العقل الثقافي العربي.
لنترك جانبا مسألة التقابل بين الغرب والباقي كما عاشها القدامى من مثقفي النهضة العرب. لقد فرض التقابل نفسه عليهم بقوة الاشياء كلها. ولنبث في اطار هذا التقابل بين الغرب وباقي الاجناس والاقوام كما استقر في اذهان مثقفينا المحدثين خلال مرحلة الحرب الباردة والى حدود بداية التسعينات من القرن الماضي تاريخ نهايتها. فخلال هذه المرحلة التي تقارب الخمسين سنة، والتي عرفت في مجال التقابل بين الغرب والباقي، مارس عاملان رئيسيان اثرهما البالغ في توليد ذلك التقابل في المخيال الثقافي العربي.
العامل الاول: تقاطع فيه الجيو استراتيجي والجيو اقتصادي بالجيو ثقافي ويتعلق بالتطابق التام الذي كان قائما وقتها على مستوى الغرب ومركزه الاول الولايات المتحدة الامريكية, بين المكون العسكري والمكون الاقتصادي (القوة الاقتصادية) والمكون الثقافي مقاسا، بجاذبية المنتوجات الثقافية الغربية في الاسواق العالمية. فلقد خلق ذلك التطابق بين المكونات الثلاثة, ذلك التقابل المعياري بين غرب مفرد موحد، حيوي، متفوق، وبين الباقي، باقي الأمم والاجناس، لأنه لا أحد ضمن ذلك الباقي كان يجمع في بوتقة واحدة مستويات القوة الثلاثة، المشار اليها دفعة واحدة.
العامل الثاني، الذي مارس تأثيرا عرضيا هذه المرة - في توليد هذا التطابق المطلق بين الغرب والباقي كان ذا حمولة ثقافية صرفة، يتعلق الامر بأدبيات الاستشراق, سواء في صورته الغربية التقليدية، او حتى لدى
نقاده التقدميين من امثال ادوارد سعيد. فلقد ولد هذا الصنف من الخطاب عن الانا والآخر، حتى وهو يسعى الى تفكيك هذا الخطاب ذاته وفضح مضمراته الايديولوجية, نوعا من غيرية تقابلية لم تكن في الاصل - على الاقل عند ادوارد سعيد ونقاد الاستشراق، هدفا مقصودا او مرغوبا فيه.
المعطيات المرتبطة بالعامل الاول جرى تجاوزها سنوات قليلة بعد نهاية الحرب الباردة، بعد ما لم يعد التطابق تاما ولا مفروغا منه بين القوة الاستراتيجية العسكرية والقوة الاقتصادية، اولا بظهور ما صار يعرف بالقوى المدنية الاقليمية (ماليزيا سنغافورة، البرازيل، جنوب افريقيا) من جهة، وبداية انتقال مركز الثقل الاقتصادي باتجاه الصين ودائرتها الخلفية في اسيا من جهة ثانية.
هذا بالنسبة للمعطيات المرتبطة بالعامل الاول، اما بالنسبة للمعطيات المرتبطة بالعامل الثقافي، فتجدر الاشارة الىِ أنه وحتى قبل نهاية الحرب الباردة، وفي الولايات المتحدة، مركز الغرب الاول، وفي جامعاتها العريقة كبركلي وستانفورد، وضمن اقسام وشعب الدراسات المقارنة وما يعرف بالدراسات الثقافية, فإن موجة فكرية عارمة كانت قد ظهرت وتبلورت بعنفوان وضع اصحابها على عاتقهم، ابراز تاريخية ونسبية اللوغوس الغربي، وكان ذلك ايذانا ببروز نوع معرفي يمكن ان ندعوه ب »»الاستغراب» في اعقاب «الاستشراق» الذي تؤكد كل التطورات الثقافية انكسار ظله وتضاؤل تأثيره داخل مختلف الاوساط المهتمة بالدراسات الثقافية المقارنة.
وبالطبع، فإن مسلسل العولمة، بما أحدثه من خلخلة عند الجذور لبعض المفاهيم، كمفهم المركز والهامش، كان له تأثير مباشر وسريع في انهاء هيمنة المتن الاستشراقي- لغة وخطابا ومنهجية - تجاوز منطلقاته ومنطلقات الروافد المعرفية، والتخصصية التي انبنت على أرضيته.
وبينما انشغل مثقفونا العرب بأطروحات ما بعد الحداثة، في سياق موجة بدت كتقليعة لباس خارجة من اروقة موضة شهير، كان عدد من المثقفين المخضرمين،من اصول افريقية واسيوية، في كبريات الجامعات ومراكز البحث الامريكية والبريطاينة يعدون لتخصص معرفي اخر اصبح يعرف بدراسات ما بعد المرحلة الاستعمارية, وقد كان من ابرز هؤلاء الباحث علي مزوري (من اصل كيني) جامعة نيويورك ومدير معهد الدراسات الثقافية الدولية بها،و هومي بهابها من اصل هندي جامعة هارفارد مغلف كتاب الامة والحكي عن الذات. المفكران والباحثان في ثنايا الثقافة المقارنة، عكفا معا، كل من جانبه، على نقد المفاهيم التي تسربت إلى اللغة الثقافية الاكاديمية المتداولة، الموصوفة من طرف منتجيها ب»المحترمة» واثر هذه اللغة على توليد المعيارية النمطية المؤدية خلسة، جهة مثقفي الشعوب الاخرى الى تكريس الدونية.
لقد كان هذا النقد، وما واكبه من مراجعات، في صلب الاهتمامات والمشاريع البحثية لمازروي وبهابها على امتداد ثلاثة عقود مضت، وقد اثمر ذلك النقد الارضية الاولى التي سينطلق منها تجاوز المعيارية النمطية الغربية،و بداية هدم الفجوة القائمة بين الزمان والمكان، بتعبير بهابها، وبناء الثقة في الذات كشرط ضروري لإنجاح عملية الحوار مع الاخر، بوضعيته ضمن تاريخيته النسبية.
والمؤكد ان تصاعد هذا النقد للنمطية اليسارية، المتخفية في لغة عالمة، محايدة ظاهريا، تراهن وترافق، بشكل متلاحق مع تصاعد القوة الصينية، والصحوة الهندية والاسيوية اجمالا، بحيث كانت مؤشرات هذه القوة المتنامية تعطي في كل محطة ومنعطف دفعة جديدة وحافزا جديدا للتخلص من بقايا استلاب لم يعد له مسوغ او عذر في الزمن الراهن.
وهكذا، فإننا نلاحظ، انه خلال العقود الثلاثة الماضية، لم يعد بوسع الباحث في ثنايا الثقافات المقارنة، ان يعثر على مفردات النقد الجذري المؤسس لرؤية جديدة للعالم المستقبلي - لم يعد بوسعه العثور على هذا في سوق الانتاج الثقافي العربي بكل مكوناته التقريرية والتخييلية, لم يعد بوسعه القبض على مفردات النقد الجذري عند مثقفينا العرب الذين بقوا مشدودين ومتأرجحين بين ثالوث الاستلاب الحداثوي والاصوليات المتحجرة، وفكر النهضة القديم، الذي لبس لبوسا جديدة.
وحدهم المثقفون الاسيويون، والمثقفون المخضرمون الافارقة،و بعض مثقفي امريكا اللاتينية عبروا الى ضفاف نقد من طراز يضع ويؤسس لبنات ثقة في الذات باتت يستنهضها التفوق الاسيوي المرتسم في الافق.
- كيف ولماذا, خلافا للاخرين الذي كانوا يتقاسمون معنا نفس الخصائص البنيوية, انسد افق الرؤية امام مثقفينا العرب، فاستمر لديه رسم الغيرية على قاعدة التقابل بين الغرب والباقي؟
لماذا لا يتمكن مثقفونا العرب، المتحدثون باسم الحاضر والراهنية من تمثل الغرب الحاضر الراهن في حجمه الحقيقي، وتستمر الرؤية المأمثلة لهذا الحجم بالرغم من تطورات الواقع من حولنا،وهو يشير الى أن ذلك الحجم تراجع قياسا الى الماضي، وسيتراجع حتما في المستقبل بشهادة العديد من اقتصاديي واستراتيجيي أهل الدار الغربية ذاتها؟
نيال فيركسون نموذجا
لماذا لا يتمكن مثقفون العرب، المشغولون باستمرار بأسئلة النهضة والنهوض من رؤية مناطق الحيوية، وهي موجودة اليوم في اسيا, مستمرين في التعلق بلغة توصيف في موضوع التقابل والغيرية عفى عنها الزمن.
لماذا تعثر فهم مثقفينا لجدلية القوة و الحيوية - بتعبير جوزيف شوميتير- والحال ان الحيوية اليوم وجدت لنفسها امكنة وفضاءات اخرى، بنفس القدر الذي تغيرت فيه مضامين القوة قياسا الى العهد الاستراتيجي السابق؟
ماهي الاثار استراتيجيا وسياسيا، المترتبة عن هذا الاخفاق في التخلص من النظرة التقابلية القديمة لواقع العالم وقضاياه؟
اسئلة متشعبة لا يسع المجال هنا بالطبع لتلمس عناصر الاجابة عما تطرحه من اشكالات، ولكن إثارتها اضحت ضرورة من ضرورات احلال التطابق في وعينا العام بين الزمان والمكان، بين الواقع والصيرورة. بين المفكر فيه عقليا والقائم خارج وعينا عمليا.
وليس الدافع الى طرح هذه الاسئلة العودة الساذجة - بنوع من التسخين البعدي لاطروحة أفول الغرب كما بسطها شينكلر في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي, ولكن الدافع الى طرحها هو الاشارة التنبيهية - على شاكلة اشارات المرور - الى انه ما لم نتمكن من احلال مبدأ النسبية في النظرة الى الغرب، كقوة اقتصادية مادية وكيان حضاري ثقافي، وما لم نتخلص من النظرة التقابلية القديمة ونستنتج ببصرنا وتفكيرنا شيئا ما باتجاه الشرق الصاعد - فإننا سنستمر في اجترار موضوعات واشكاليات قديمة، مشدودين الى فكر ولغة وتوصيفات وردود افعال خارج الزمان والمكان. و هو ما سيعني، بالنسبة لمثقفينا العرب تأخرا تاريخيا مزدوجا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.