لم أستطع أن أعبر عتبة الغرفة، فأنا خائفة أن يدخل خيط الدم الذي يتبعني منذ انتفاضة الشعب السوري إلى اليوم. فحيث ما أسير وفي أي مكان أدخل إليه يلحظ الناس بفزع أن خط دم ترسمه قدماي ويتبقى ليترك »آثاره على الأرض والأشياء والجدران. قبل عام تقريبا كان القتل ينتسب إلى الجريمة، ومنذ سقوط أوائل الشهداء في سورية أصبح القتل ينتسب إلى (بسط الأمن وتحقيق الطمأنينة). وأتساءل وأنا سجينة غرفة في أحد مشافي باريس أعالج فيها من السرطان، لماذا هذه الشهوة الفادحة إلى الدم؟ لماذا يسقط كل يوم خيرة شبابنا ونسائنا وأطفالنا بينما السيدة السلطة حريصة على تخليص البلاد من (مؤامرة عالمية) على سورية، بينما الإعلام الرسمي يصر على مكافحة الإرهاب وبسط الأمن والطمأنينة). وكل يوم عن يوم يتسع خيط الدم حتى تحول الى كرة نازفة في بياض هذه الفرقة فأغرق الشراشف والستائر وثيابي، وها هو يكاد يصل وجهي الحائر منذ أشهر حيث يخفي أسئلة مؤرقة. ألهذا الحد أوصل النظام المجتمع إلى أزمة وجود تمس حريته المسلوبة وكرامته المهدورة؟ ألهذا الحد أصبح التعايش بين الناس ذوي المآرب المختلفة صعبا؟ إن التفاصيل اليومية التي يحكيها خط الدم مروعة، ومخيفة، وها هو العالم، العالم كله هذه المرة ينقسم الى مؤيد ومعارض للقتل السوري. إن أربعين عاما من عمر امرأة شردها هذا النظام تبدو طويلة، وهي زمن بعيد لأولئك الشباب الذين يملأون شوارع المدن السورية وبشكل خاص مدينتي أدلب التي يبدو موقعها الذي كان ذات يوم رأس جسر حضاري يصل سورية بالغرب الذي احتميت به من ظلم النظام صامتصامتة.. خائفة.. باحثة عن وثيقة سفر أو أوراق ثبوتية تنسبني الى مسقط رأسي (أدلب) التي تقف اليوم كما لم تقف منذ المعارك ضد الفرنسيين بقيادة المناضل ابرهيم هنانو كما كانوا يتحدثون عنها في التاريخ، وكما يردد أبي. ماذا جعل هذا العالم يستفيق فجأة على أن ما يحدث في سورية هو ظلم وديكتاتورية، خلال أربعين عاما كنا نناضل من أجل توقيع مثقف أو سياسي على بيان يخص السجناء السوريين، لكنهم هؤلاء مثقفو الغرب وسياسيوه كانوا يمتنعون عن التوقيع ولو كان مثل هذا التوقيع سيطلق سراح مريض مشرف على الموت كما كان حال الدكتور يوسف زعين الي نجحنا في إخراجه بعد حملة دولية في حين بقي رفاقه من قادة حزب البعث أمثال: صلاح حديد، ونورالدين الأتاسي، ومصطفى رستم، وسواهم، وسواهم يعانون داخل الجدران الباردة لسجن المزة السي الذكر، وبعد ثلاثين عاما أطلق سراح رئيس الدولة السابق نورالدين الاتاسي بعد أن تأكدت السلطات من نهايته. ليموت في المستشفى الامريكي في باريس، في حين الاخطر صلاح حديد المناضل الاخلاقي بدل ان يطلق سراحه حقن بإبرة قاتلة. مئات من المناضلين الذين خضعوا للتعذيب في اقبية السجون منذ تسلم حافظ الاسد السلطة بعثيون سابقون، شيوعيون، تقدميون رجعيون، كل التسميات مرت من تحت يد الجلاد، كل من رفض ظلمة الديكتاتورية والحكم العسكري حرا ومات في السجون، وكان العالم بأكمله يغطي على الجريمة مرة بإعطائه دورا في حفظ السلام في لبنان، وهو أسوأ دور عربي لعبته سورية خارج حدودها إن لم يكن أسوأ من مشاركتها في حرب الكويت وطورا بالتعامي والصمت اربعين عاما، شكلوا قدر جيلنا وحياته ومستقبله وحماته تماما كما شكل حكم فرانكو قدر جيل من الاسبان بعد الثورة المغدورة. وإذا كان المحيط فرض على اسبانيا بعد رحيل فرانكو الديمقراطية، فإن المحيط بعد وفاة حافظ الاسد الذي يتألف من مشيخات ودول تحكم بديكتاتورية الله او ديكتاتورية اخرى، بعضها سوريالي غير قابل للتصنيف كما حصل في ليبيا، هذا المحيط شكل لنا نظاما يشبه من حوله :حكم وراثي بامتياز ليس للرئيس أو العائلة فقط، بل لكل ما ققام عليه النظام خلال اربعين سنة من تخويف للمواطن واضطهاده وكتم حريته ونفيه داخل وطنه. نعم الشعب السوري، كان يعيش غريبا في وطنه غير مسموح له الا التسبيح باسم الدكتاتور من قبل جيل لم يعرف سواه حاكما. حين تم التوريث، وكان جيلنا نحن الذين كنا نسمى «معارضة» للنظام تفاؤلنا بالسيء الذي جاء أفضل من الاسوأ. ولكن كان العالم بأسره يدعم ذلك النظام، واعتبرت سورية اقطاعية لمجموعة من المتنفذين الذين حكموا قبضتهم على ثروتها، وفضائها، ومصيرابنائها ،كنت أتساءل مغالطة نفسي: ماذا لو اعتبر الولد من دروس التاريخ كما فعل الملك المغربي محمد السادس حيث قرر بعد وفاة أبيه ان يصالح المجتمع المغربي مع ذاته.. لكن الشهور مرت والسنوات ايضاوليس هناك نقطة ضوء في نهاية النفق.انصرف الابن الى تقليد الاب فكانت مهزلة التاريخ الذي يعيد نفسه. واليوم، وخط الدم الذي يصل ادلب بباريس حيث انا قد تحول الى نهر يتدفق يصبح السؤال مطروحا: كيف ستخرج سورية من هذا المأزق التاريخي؟ هل يكفي صمود ابنائها ونضالهم اليومي أم أن الصيحات التي تتعالى بضرورة تدخل أجنبي قابلة للتطبيق. إن على سورية ان تتحمل قدرها للوصول الى تغيير الصفحة او تمزيقها ولكن على الذين يريدون ا ن يأتي ذلك العالم الذي لا يحرك الا مصالحه كي يساعدنا كما ساعد (الامريكان العراقيين).) فهذا هو الخيار الاسوأ لانه في حالة كهذه يعرف المرء البداية ولكن النهاية لن تكون بيده، وجيوش الاحتلال في العراق ادت الى موت مليون عراقي وتصحير الارض بالاسلحة المحرمة دوليا، وهجرة خمسة مليون عراقي اخر. ان اكبر خطأ حصل هو تسليح المعارضة وابعادها عن الخط السلمي الذي كانت تنهجه مهما كانت مخاطره، والاسوأ سيكون الاستعانة بالاجنبي الذي نعرف بالتجربة الاسباب التي تدفعه لفعله. فالغرب الذي تنادي، له بعض اطراف المعارضة ليساعدها في خلع الدكتاتور ليس جمعية خيرية. بل لهذا الغرب اسباب، ارتفاع صوته اليوم كما كان لاسباب صمته الطويل خلال اربعين سنة وجهة نظر. ان التاريخ علمنا ان الشعوب التي تريد ان تصل الى حريتها عليها ان تدفع الثمن. وهذا ما حصل في اوربا الشرقية، وامريكا اللاتينية وبعض دول اسيا. علينا الاستفادة من دروس التاريخ، وتجارب الشعوب الأخرى. والظروف الموضوعية المواتية لتحقيق ما نريد. كاتبة سورية