شكل تدبير الدولة، بالمعنى الحديث، الذي حقق تراكما غنيا ومتشعبا منذ الثورة البورجوازية في أروبا، مع نهايات القرن 15 وبدايات القرن 16، والذي أفضى إلى ما يمكن توصيفه بميلاد »»نظام المدينة..شكل تدبير الدولة هذا، يعتبر مجالا لاجتهادات فكرية وسياسية واقتصادية بلا ضفاف... ومن أرقى ما بلغته البشرية، في هذا الباب، ذلك النموذج الديمقراطي، العالي القيمة والجودة والفعالية، لشكل إعداد التراب وتوزيع الثروات بين الأفراد والمناطق والجهات أي ذلك الشكل المتقدم للاهتمام بالإنسان، عبر ما توفره له، أشكال التدبير العمومية من خدمات.. وعلى هذا المستوى، يتبدى المعنى الأسمى الكوني، لحقوق الإنسان.. أي مدى تحقق تلك الحقوق في معناها الشمولي سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا ولغويا... إن من البوابات الكبرى، التي ولجت عبرها الدول الحديثة باب التقدم، وباب الانتصار للقيم الكونية للحقوق وللديمقراطية، باب التدبير الجهوي للمجال وإعداد التراب، المحقق للعدالة المجتمعية عبر التوزيع العادل للثروات وعبر إشراك كل شرائح المجتمع، في الشأن التدبيري العام.. وحين بدأ التفكير على مستوى الدولة بالمغرب في مشروع للجهوية، فإن ذلك شكل ?وحده- انتصارا سياسيا تاريخيا في صيرورة تحديث المجال العمومي المغربي.. وهو التفكير، الذي لابد من تسجيل، أنه انطلق أقله منذ أكثر من عشرين سنة... لكنه لم يتحول إلى فعل ملموس، برؤية سياسية تنموية ذات ملامح واضحة ومتكاملة، سوى منذ سنتين 2010)، حين تم إنشاء اللجنة الاستشارية للجهوية من قبل ملك البلاد، محمد السادس بصفته الدستورية كرئيس غير منتخب للدولة. وهي الخطوة التي تترجم عميقا تحولا في الرؤية السياسية التدبيرية للدولة المغربية، لا يمكن للمرء أن يتردد في وصفها، بأنها قرار ثوري تاريخي، من تلك القرارات السياسية، الأشبه بالخطو الهائل، الجبار في التاريخ.. ولربما سيشكل هذا المشروع، مشروع حكم، يمتد على مدى القرن 21 كله، تكون نتيجته، خلق شكل جديد للدولة المغربية غير مسبوق، منذ تأسست الدولة ?عندنا- قبل أكثر من 15 قرنا ويزيد. لقد منحنا كتاب علمي قيم، للخبير المغربي، الدكتور امحمد الزرولي، صدر مؤخرا تحت عنوان »السلطات الجهوية، الدول الوطنية واتحاد المغرب العربي«، عن دار النشر المعارف الجديدة بالرباط، وبدعم من مؤسسة »هانس سيدل« الألمانية، في 455 صفحة من القطع الكبير ،باللغة الفرنسية، الفرصة لنعيد قراءة أهمية هذا الخيار السياسي التنموي للجهوية تأسيسا على التحليل العلمي الملموس للواقع الملموس، أي انطلاقا من ضفة الاختصاص كون الدكتور الزرولي خبيرا مغاربيا في مجال الجهوية ،وعلى هذا الأساس، اختير عضوا في المجلس الاستشاري الجهوي من قبل جلالة الملك محمد السادس، والذي يترأسه الأستاذ عمر عزيمان. وهو اختيار تم أيضا اعتبارا لأن هذا الباحث المغربي المرموق، يعتبر من القلائل من الجامعيين والباحثين المغاربة المتخصصين في الاقتصاد الجهوي والترابي، والتخطيط الاستراتيجي للتنمية وفي التنمية البشرية، مثلما أنه عرف بإشرافه على ورشات علمية وأبحاث متخصصة في مجال الحكامة والانتقال الديمقراطي وتحديث الدولة في العالم العربي. وتأتي أهمية كتابه الجديد-هو الذي تكون أصلا ضمن فريق طلبة الباحث الاقتصادي المغربي الراحل عزيز بلال- من كونه يقارب موضوعة «»الجهوية»« في بعدها المغاربي. وتتساوق نتائج دراسته القيمة والعلمية مع الحراك العربي لشرائح واسعة من الدول القطرية العربية. وهو الحراك الذي يعكس في العمق أزمة مركبة للتنمية وفداحات هائلة في مجالي التنمية البشرية وفي التوزيع العادل للثروات، أي في الشكل المتخلق غير العلمي، وغير الديمقراطي لإعداد التراب وهندسة ملامح حكامة مخصبة للعدالة الاجتماعية بين الأفراد والجهات. لقد انطلق الدكتور امحمد الزرولي من معطى أن العالم المتقدم اليوم، يعيد تشكيل العلاقات والمصالح فيما بينه، من خلال اتحادات اقتصادية متكاملة ومنتظمة، كي يقف عند أربعة أبواب كبرى، تترجم منهجيته العلمية وهمه المعرفي لمقاربة موضوعة «الجهوية». وهي: 1 مفاهيم اللامركزية واللاتمركز ودلالاتها في ما يرتبط بالتنمية والحكامة الديمقراطية. 2 تجربة اللامركزية الترابية ببلاد المغرب العربي، ملمح تاريخي للمسارات القطرية. 3 السلطات الجهوية، الدول الوطنية واتحاد المغرب العربي، دينامية الجهوية عبر الآلية القطرية الوطنية المحلية والآلية المغاربية. 4 السلطات الجهوية والدينامية الجديدة للتعاون شمال/ جنوب وجنوب/ جنوب في الفضاء الأورو متوسطي، في زمن الانتقالات الديمقراطية بالوطن العربي. وهي الأبواب الأربعة، التي تجعل القارىء يغوص في تفاصيل التفاصيل، بالوثائق والأرقام والنصوص القانونية والمخططات الاقتصادية المقارنة، والتجارب المحلية لكل دول المغرب العربي، ولأوربا وافريقيا وباقي دول العالم العربي، مثلما يتوقف القارىء عند تمحيص للمفاهيم، دقيق، خاصة مفهوم التنمية ومفهوم إعداد التراب ومفهوم الحكامة الاقتصادية والحكامة الديمقراطية، من حيث هي مفاهيم مفاتيح لإدراك السبل السالكة لتحقيق الانتقال التاريخي المحلوم به في بلداننا العربية والمغاربية صوب التقدم.. ولعل، من أغنى أبواب الكتاب الذي قرأته بمتعة معرفية خاصة، وبغنى معلومات ، هو الباب المتعلق بتجربة اللامركزية في البلدان المغاربية، حيث تمت تراكم تفصيلي، تاريخي، علمي واقتصادي، لواقع فكرة اللامركزية والجهوية في كل من المغرب والجزائروتونس وموريتانيا. وهي - في حدود علمي- أول دراسة علمية موثقة ودقيقة من نوعها، حول فكرة اللامركزية والجهوية ببلداننا المغاربية. وهي ليست ?فقط- دراسة موثقة ومدققة، ولكن أيضا،هي غنية بالمقارنة وبالخلاصات العلمية الرصينة، مما يعلي من قيمة صاحبها، وتؤكد أنه فعلا خبير، عالي الدربة في مجاله. وهذا الباب، يستحق وحده أن يؤخذ ككتاب مستقل ضمن مجموع كتابه القيم هذا حول الجهوية. إن السؤال الذي ظل يكبر، مع توالي قراءة هذا البحث العلمي القيم، هو: هل يقرأ أصحاب القرار السياسي في بلداننا المغاربية، مثل هذه الكتب القيمة، أم لا؟ بمعنى، هل لهم نفس مستوى الرؤية السياسية الواضحة، المتأسسة على نتائج البحث العلمي؟ الجواب، للأسف سلبي، بدليل أن هم أغلب أولئك القادة، مرتبط بالآني واللحظي، وليس له ألق الرؤية الاستراتيجية، لأنه، حين نقرأ تفاصيل التفاصيل، في هذا الكتاب، ندرك حجم الجريمة السياسية والتنموية والتاريخية، التي ترتكب في حق المشترك المغاربي، وهي حقنا جميعاً كمغاربيين، حتى وإن كانت الحقيقة المفرحة أكثر، متحققة في ضفتنا المغربية، التي تمت رؤية استراتيجية لإعادة بنينة الدولة في أفق تشاركي، جهوي، منتصر للتنمية المحلية، ومعزز للوحدة الوطنية، ومحفز لسوق الإنتاج المغربية على كافة المستويات، سواء التنموية الاقتصادية أو السياسية أو اللغوية أو الاجتماعية وفي القلب منها البيئية، وأيضاً الشق المرتبط بالطاقات المتجددة، مما يعكس بالملموس أن ثمة وعياً ناظماً لخرائط المستقبل، وأن الدولة المغربية لا يمكنها أن تظل مكتوفة الأيدي، تنتظر نضج الوعي السياسي مغاربياً بحتمية التعاون التكتلي التكاملي، التعاوني بالشكل الذي يخدم المصالح المشتركة وينظمها ويجعلها تكاملية، ضمن عالم تتسع فيه التكتلات وتنتظم وتحتمي بذاتها أمام تَغَوّلِ منطق السوق. هنا، يطرح الدكتور الزرولي المعنى الجديد للدولة الديمقراطية، التي هي دولة تشاركية، منصفة للمجال وللإنسان، ناظمة للعلاقات والمصالح بين الجهات وبين الثروات. ومن هنا يصبح مثلا، المشكل المفتعل لقضية صحرائنا الجنوبيةالغربية، من خلال مشروع الجهوية الموسعة (عبر صيغة متقدمة للحكم الذاتي)، جواباً حقوقياً وديمقراطياً للخيار الديمقراطي للدولة المغربية الذي لا رجعة فيه، وأنه ليس قراراً غير مفكر فيه أو انفرادياً أو غير محدد العواقب، بل هو مندرج ضمن منظومة جديدة لإعادة بنينة الدولة المغربية جهوياً، وهنا ثورية المشروع ومعنى امتلاكه للألق التاريخي، وأنه في العمق، مشروع أمة ومشروع حكم، وأنه لربما، في معانيه السياسيةنوع آخر، جديد من «ثورة الملك والشعب» لا نظائر لها في كل التجارب الدولتية بدول الجنوب، وضمنها كل دولنا العربية والإسلامية، مع الإشارة هنا إلى أن قدر عدد من دولنا المغاربية، خاصة الجزائر، التي تنام على قنبلة حقيقية للانفصال بجنوبها الشرقي ،منطقة الهكار وبلاد الطوارق)، هو في سياسة جديدة للجهوية الموسعة، ذات الأفق التنموي للحكم الذاتي، قبل أن تجد نفسها أمام حركات تمرد مثل ما وقع في الشق الطوارقي الجار بالشمال المالي. يقول الدكتور الزرولي:»»إن تأمل النظم السياسية ببلداننا المغاربية، يظهر نوعا من التنافر والاختلاف بين المغرب، الذي هو ملكية دستورية، ديمقراطية، برلمانية واجتماعية (دستور 2011))، وباقي البلاد المغاربية التي هي نظم جمهورية، رئاسية أكثر منها برلمانية، مع نزوعات أثوقراطية لنظمها الرئاسية (نموذج تونس تحت بن علي)، والنخبة العسكرية للجنرالات (الجزائر وموريتانيا)، ثم النظام الديكتاتوري للقذافي بليبيا. لكن، رغم الاختلافات بينها (..) ودون التقليل من دور باقي الدول المغاربية، فإن الثنائي المغربي/الجزائري يعتبر حجر الزاوية المركزي في أي بناء مغاربي، وأنهما ملزمان بالتعايش وبالاتحاد مع باقي دور الجوار. في هذا الإطار، فإن إطلاق دينامية اتحاد المغرب العربي، التي تفرضها التحديات الاستراتيجية للبقاء، وإكراهات دعم وتعزيز الانتقالات الديمقراطية، والتنمية الشاملة والمتضامنة، يوجب إطلاق هذه الدينامية على أسس جديدة تيسر نظاما جديدا للجهوية المغاربية، كجزء من المنظومة التعاونية العربية، وكفاعل حاسم في الشراكة الأروعربية والمتوسطية. وكل الفاعلين العموميين والخاصين ملزمون بالمساهمة في هذا البناء التكاملي للفضاء المغاربي: دولا، قطاعا خاصا، قطاعات عمومية، جماعات جهوية ومحلية، منظمات المجتمع المدني، فاعلين اقتصاديين واجتماعيين. إن الانطلاق من مبدأ، أن الخيار الديمقراطي هو خيار استراتيجي ضامن لأسس التنمية الشاملة المندمجة، والدائمة على المديين المتوسط والبعيد، لهو المحدد لمكانة الدول المغاربية في الرقعة الدولية، أي أنه مرتبط بالدمقرطة وتحديد الدول، وبتعزيز السلط الجهوية و المحلية وببناء الاتحاد المغاربي، تأسيسا على مصالح ملموسة ومنطق الربح المشترك، وبذات المنطق مع باقي دول التكتلات المجاورة. إن دعم الانتقال الديمقراطي في تونس، ليبيا، ومصر، وتعزيز الإصلاحات السياسية في الجزائر وموريتانيا، وتثبيت الحكامة الديمقراطية في المغرب، ضمن روح الربيع العربي، سيفتح آفاقا جديدة واعدة، أمام اللامركزية والجهوية، وأيضا أمام الاندماج المغاربي، والشراكة الأورمتوسطية،بمعنى آخر، يؤكد لنا هنا الخبير المغربي، امحمد الزرولي، أن منطق الدولة الجديدة، يفرض محليا ومغاربيا، إعادة بنينة لأسلوب التدبير العمومي، عبر الآلية الديمقراطية، المنتصرة لمنطق الحكامة ولواجب التنمية البشرية، وللتوزيع العادل للثروات، والتكامل في تنظيم المصالح بين الجهات وبين الدول، مما سينقذ مستقبل شعوب المنطقة، وييسر لها الإندماج في دفتر التحملات الجديد للعلاقات الدولية، القائم على الخيار الديمقراطي داخليا وعلى التكتل ضمن اتحادات وأسواق مشتركة إٍقليميا وجهويا، وهذا هو تحدي المستقبل المغاربي في العمق، الذي لابد أن يفرز نخبه المؤمنة عميقا بحتمية هذا التغيير، وهذا لعمري مشروع العشرين سنة القادمة في كل شساعتنا المغاربية، لأن العالم والمتوسط وكل الشمال الإفريقي في أفق 2030 لن تسبح فيه بيسر سوى الدول الديمقراطية، المندمجة في اتحادات جهوية تكاملية..