في الطريق المؤدية إلى دوار بوخالد بمنطقة ازراردة بإقليم تازة ، توجد مقبرة قديمة لم تلق أي اهتمام منذ عقود من طرف القائمين على الشأن المحلي بهذه المنطقة المنكوبة في منتخبيها ، المقبرة التي تحولت مع مرور الوقت إلى مطرح لرمي الأزبال في ظل غياب أي حاويات للأزبال . هذا الوضع رسخ لدى الساكنة ، على قلتها ، هذه الممارسة الشاذة التي لاتليق بحضارة أمة ضاربة في أعماق التاريخ بأدبها وشعورها القوي تجاه الذات والمجتمع والحياة ، لقد باتت الممارسة عرفا ثم مكسبا اجتماعيا كان لابد من وجود فئة تناهضه . فكان أن نظم شباب جمعية الأوراش المغربية للشباب فرع الزراردة ، ورشا بيئيا صباح يوم الأحد 8 أبريل 2012 تمثل في تنقية وجمع الأزبال التي تراكمت قرب المقبرة . الشباب المتطوع الذي بدا طيلة يوم بأكمله على أتم الاستعداد ، شكل مجموعات هنا وهناك ، وشرع الجميع في تنقية الفضاء مما علق به من الأزبال والنفايات، قبل أن تزرع أياديهم الطرية بعض شجيرات الزيتون والزهور ،الشباب الممتلئ حيوية ، أصر على تسييج المساحة المنظفة حول المقبرة. ليختم هذه المبادرة التطوعية النبيلة بكتابة كلمة «الزراردة» على أرضية قرب الطريق بحرف « تيفيناغ »، الشيء الذي أعطى بعدا إبداعيا لهذا الورش البيئي، وللفضاء معنى وهدفا . وبحسب أحد أعضاء الجمعية هذه الفتية، فإن هذا الورش يأتي استكمالا لأوراش سبقته في مجالات متعددة على أمل أن تتطور مثل هذه المبادرات وتشمل مجموع قرية الزراردة في أفق ترسيخ روح التطوع والاهتمام بالبيئة وزرع الاهتمام بالثقافة المحلية بكل أبعادها الاجتماعية والحضارية . فكان لابد من طرح السؤال التالي : لماذا وضع موتانا مخجل جدا ؟ لماذا قبورنا تنبش؟ وشواهدها تحطم ؟ كيف نستسيغ غياب حراس دائمين للمقابر ؟ لماذا لا ترمم وترتفع أسوار المقابر حتى تحميها من العبث ومن سلوك الانحراف؟ لماذا لا تتفتق عبقرية المسؤولين وغيرهم في أفق التعبئة والحشد لهيكلة هذا المجال وإحلاله المكانة التي تليق ؟ هل سمعتم يوما بتنظيم وقفة احتجاجية ضد تردي مقابر المسلمين؟ تبدو الكتابة عن أوضاع القبور والمقابر الإسلامية على نحو عام واستجلاء «أنين» الموتى و«أوجاعهم» بمقابر فاس، على نحو خاص، وكذا رسم خريطة لعالمهم الهامد، وسط حشد الحياة الزاخم والمتواتر من حولهم ، مقاربة شاقة وعصية على الإمساك ، فالذات الكاتبة وهي تحاول ذلك، تجد نفسها تنطلق من نفس الألم ، ألم الحياة ، إذ كلما أمعنت الغوص في الجدل القائم بين معيش الحياة، ومعيش الموت ، كلما كان الألم أكبر عنادا، وأقوى بروزا .إنها تجربة فردية ملتهبة في ذاكرة جماعة تنحو الكلام ، والمشاركة في لهيبها يظل نسبيا ومعزولا مهما تجرأ . المقبرة مكان مفتوح على جميع الاحتمالات لم يكن هناك شيء عادٍ في مقبرة المرينيين زوال هذه الجمعة القائظ، كل ما هناك خارج عن المألوف ، انتهاك صارخ لحرمة موتى المسلمين ، رغم اختلاف مراتبهم في الحياة الدنيا، إذ الطبقية في أبشع صورها ، حيث ترقد البورجوازية الراقية عالية محاطة بالقرنفل والبخار المضمخ بالعطر المتجدد كلما اشتدت رياح الشرقي ، هنا في دنيا الآخرة تتجسد البورجوازية في القبور أيضا، قبور بالبالكون في موقع استراتيجي يطل على فاس العامرة ، فيما الأخرى تزاحمت في مساحات مهملة ، كما كاريان الحجوي أو حافة مولاي ادريس . في المدخل الموالي لجهة ظهر الخميس ، بالقرب من الفندق السياحي الكبير ، تطالع الزائر رائحة تزكم الأنوف ، كعربون استهتار أبدي بالحياة وبالموت . رائحة حمولات نتنة تزكم الأنوف ، ولأن المكان مفتوح على كل الاحتمالات ، و يمكن ولوجه من كل الجهات، فقد شرعت فلول المترحمين من الفقهاء المأجورين من أصحاب الجلابيب البيضاء الرقيقة المنسدلة دون ذوق، والموسميين من رجال الرش وتجريف القبور، في الانصراف ، بعد صباح طويل من الاسترزاق عبر تلاوة آيات من الذكر الحكيم حسب الأريحية والسوق. ومنطق « عين على هذي وعين على لي جاي ». كانت أصوات «حفظة القرآن» الناشزة ، تتجاور حينا ، وتتفاوت حينا آخر ، ينقلها الأثير صدى متموجا يستعصي على المتابعة ، و يعبث بالخيال لكنه يستطيع شق الروح دون دماء . وما أن اقتربت من نساء مترحمات حتى تباطأ سيرهن ، وبين الحين والآخر، تتوقف أثخنهن بكسل أمام شاهد قبر. متمتمة ، وكأنما تنعيه ، ثم يغادرن المكان الواحدة تلو الأخرى في ارتخاء وعبثية ! الكلاب الضالة لا تشذ عن العادة ، فحيث ما راح أصحاب البيت المترحمون ، أو الدجالون ، تلقي روثها، ثم تشد رحالها وهي تلهث بحثا عن فضلات وبقايا جيف ،وكما يتحسس المرء أطرافه، يمكن أن يعاين بقايا ليلة ماجنة عربيدة ، يعلم الله ضحاياها في أقبية الكوميساريات أو أجنحة المستشفيات، قنينات البيرة المكسرة ، أو الملفوفة في وعاء بلاستيكي تندلق بسخاء هنا وهناك، تكشف بالملموس أن الفقر لا يشكل عائقا يطال هذه السلعة الرائجة، كما يثبت أن الهزيع الأخير من ليلة البارحة لم يكن هادئا ، كما تقول افتتاحيات الصحف الرسمية . فأمام العين تنزلق المقبرة على امتداد البصر منخفضات ومرتفعات تقتطع من مساحة المدينة العلمية الحيز الأكبر، تضاريس إسمنتية معقدة التشكيل وخارج الهندسة. فضاء يترامى يمتد بلا رحمة وبلا سقف وبلا أمل . قال العلامة ابن الحاج في كتابه «المدخل » : اتفق العلماء على أن الموضع الذي يدفن فيه المسلم وقف عليه مادام منه شيء موجود فيه حتى يفنى ، فإذا فني حينئذ يدفن فيه، فإن بقي شيء من عظامه فالحرمة باقية لجميعه». والقبر حبس لا يمشي عليه ولا ينبش مادام به. لكن ابن الحاج لم تستطب له الحياة حتى يرى ويسمع ما نراه وما نسمعه ،فهناك على مرمى البصر بجوار قبر ، بقايا هيكل عظمي لبغل نافق ، على بعد أمتار من المكان ، بغل آخر يخطو متهالك القوى ، يتأفف، مياه مستنقع آسن علق من التساقطات الغزيرة التي عمت فاس على غير العادة خلال فبراير المنصرم، لست أدري اية مناعة يمتلكها هذا الشيخ الستيني الذي ينحني ويملأ كفيه ويصلي قبل ان يتجرع طعم البالهارسيا بامتياز ؟ رغم أن القبور في الجزء الأكبر منها هنا بالمرينيين، كما في مقبرة سهب الورد ، أعلى تلال باب فتوح، تبدو متواضعة البناء، وغير متجانسة وفاقدة لكل ذوق جميل و مهملة بالكامل ، حيث تحتل مساحة كبيرة جدا من ربوة المرينيين ذات التاريخ التليد ، إلا أن لون الفضاء الضارب في الحمرة يشي بتاريخ غامض لفكرة محددة عن الموت . ويرسم منحى إشكاليا في تدبيرها وفلسفتها عبر التاريخ عند المسلمين ، مشهد مختل وملتبس يحيل على زمن سحيق . وبينما كان شيخ مسن يتوضأ الوضوء الأكبر على رأس قبر متلاش ، ينقذف شاب عشريني بجسد يافع مندفعا بكل حيوية فوق قبرين في حركة مثيرة ، قاصدا عمله كصانع «متعلم « بأحد مصانع الأحزمة التقليدية ، مختصرا طريقه التي لم تكن سوى قبور متلاشية ، بعضها شق وسطه، والآخر انهارت منطقة الرأس، وخلفه رهط من النساء متباطئات في مشيتهن ، في طريقهن إلى المرقطان لتسويق ما أبدعته أناملهن من تكفيف وتوشية أطراف مقابل مبلغ زهيد لايسمن ولا يغني من جوع ، وبين هذا وذاك ، تقوم جماعة من النساء بتجفيف مساحات كبيرة من الصوف المنذور على شكل نتف تحت أشعة الشمس، مهنة تسترزق منها الأرامل وهوامش النساء القادمات من الضواحي. كنت بدوري أحدق في ما قد تفعله سيدة تلتحف إزارا أبيض ، وقد جلست القرفصاء فوق قبر، وهي تتثاءب كما يتثاءب الشاب المراهق المتيم على سريره، وقد تجمع حولها ثلاثة صبية متقاربي الأعمار، يبدو للوهلة الأولى بؤسهم ظاهرا للعيان ، وفيما انبرى أحدهم يقضم حلوى كوجاك، هم الثاني على عجل منتفضا ، فقد امتلأت مثانته حيث باغتته «بولة» على ما يبدو ، لذلك، وضع بيدوزة ماء يسترزق بها المترحمين صباح كل جمعة جانبا ، وفي لحظة طفق يتبول ، أما الوجهة التي سقاها ، لم تكن سوى قبر يقرأ على الشاهد منه : هذا قبر المرحوم سيدي العربي... !! لقد كانت الزيارة مرسومة ومخطط لها منذ مدة ، رغم أنها تبقى محفوفة غامضة قبل حين ، وفي الغالب غير مريحة الآن ، لكنها ليست بالدرجة التي يمكن الخوف من الوقوع في لذتها والتباسها الغامض. لذلك كان رد فعلي المبدئي وأنا أحضر كاميرا رقمية للتصوير هو الشعور بالاحتقار كإنسان، وطرحت السؤال التالي: لماذا نتبول ونتغوط على قبورنا؟ بل لماذا دخلت هذا المكان دون إذن مسبق من جهة ما؟ هل ما أقوم به يعتبر فعلا محمودا في نظر الشرع الذي لا أفقه في اختلافاته شيئا؟ الأموات يتأذون كما يتأذى الأحياء ولكن.... حملت أسئلتي إلى فاس وبالضبط إلى مجلسها العلمي، الذي لم يتردد لحظة في التأكيد على أن «الشريعة الإسلامية أوجبت احترام أجساد الموتى في قبورهم كما لو أنهم أحياء حتى لو بقي منها عظم يراه البصر». وبناء على ذلك، لا يجوز الكشف عن المقبور ولا النظر إليه ولا المشي على قبره ولا الجلوس فوقه، ولا الاتكاء عليه، ولا كسر عظم منه، ولا دفن ميت معه بلا حاجز، بالأحرى التغوط فوقه أو التبول عليه. إذ كل عمل من هذه الأعمال يعتبر، في نظر فقه النوازل، «انتهاكا لحرمته ومساسا بكرامته ، يتأذى منه الأموات كما يتأذى الأحياء». وعلى الرغم من أن مختلف النقول الفقهية تستند إلى عدة أحاديث منها ما أخرجه أبي هريرة، والمروي عن عمر بن حزو، وأبوداود وابن ماجة في سننهما ، والإمام احمد..، فقد استنبط الفقهاء من الأحاديث المذكورة القواعد الأربع ، وطبقوها على كل ما يندرج في عمومها حول قداسة الميت في دفنه، فإن المرء يكاد يجزم أن ذلك في واد ، وما تلتقطه العين المجردة هنا والآن في واد آخر. ها هو منطوق فقه النوازل يقر بصريح العبارة :أنه لا تستعمل المقبرة إلا لدفن أموات المسلمين ، فإن واقع الحال يكذب ذلك، بقايا هياكل عظمية لدواب ، بغال متقاعدة مريضة تخلى عنها مالكوها بعد سنوات عمل شاق في الطالعات الكبرى والصغرى تتجول بين القبور بحرية ، كما أن كلابا وقططا وهواما ، ترابط هناك حتى النفوق، ناهيك عن ليالي الغرام و احتساء الخمر من قبل المنحرفين الوافدين من كل الجهات ، وإذا كانت الأخلاق والتربية الإسلامية والقيم الإنسانية ، عموما ، تمنع نبش القبور قديمة كانت أو حديثة . فالواقع يثبت عكس ذلك ، يمكن للصور التي تم التقاطها أن تكون خير دليل وشاهد على أقصى ما وصلت إليه يد العبث البشري بحرمة الميت. معاينة قبور تم حفر جماجمها لغاية في نفس يعقوب ، فيما ظل الجزء الأسفل من الهيكل مدفونا في التراب ، كما يمكن معاينة قبور حديثة النبش منهوبة العظام. وشاءت الصدفة ذات يوم ، أن صادفت طاقما من السياح الأجانب ، مجهزا بكاميرات تصوير عالية الجودة من الحجم الكبير كان الفريق منهمكا في إعداد شريط حول فاس ، لفائدة قناة عالمية ، وقد شرعوا باكرا في التقاط صور حديثة لفضاء المقبرة المطلة على بوجلود عبر باب محروق ، والمجاورة لضريح لسان الدين ابن الخطيب. ولا اخفي القارئ سرا ، أنني شعرت بالأسى مرتين، الأولى لقذارة المكان ، والثانية النقص الفادح في إشكالية التواصل خاصة باللغة الإنجليزية، حيث تلقفت أذني بعض مرادفاتها ، ومع ذلك تجاسرت بفرنسية واضحة، وسألت بضع أسئلة حول طبيعة العمل . كان الحوار غير متكافئ ، حيث تحدث أحدهم لغة هي خليط ما بين الإنجليزية والهولندية ، فهمت منه أن الأمر يتعلق بتصوير مرخص له من قبل الجهات المعنية، وذلك من غير الإدلاء بإذن مكتوب. كان المكان قذرا، موحشا ، على الجانب الآخر ،أجساد تتمدد في الخلاء، وأخرى تتهيأ للتسول ، على الضفاف بقايا فضلات آدمية حديثة النشوء، والشوك قد نسج وتفرع في مناطق عدة من الفضاء الذي تتجاور فيه أموات المسلمين لعصور خلت هي ما بين شهور إلى 100 سنة أو أكثر. بعض المقابر ما أن تمتلئ بقبور مهندسة بأبعاد تستعصي على الهندسة المدنية حتى تتحول إلى ملاذ آمن لممارسة الدجل بكل أنواعه ، كما تتحول إلى حجور للكلاب الضالة والقطط المشردة وزوايا للشمكارة والمشردين ، أما الأعشاب فقد نمت وترعرعت تعرشاتها الطفيلية بأحجام مخيفة باتت تحجب كل المقابر وتحول دون التعرف عليها، أما سورها فيصير مع الإهمال بلا ملامح حيث يتم طلاؤها مرة كل 10 سنوات . مقابر المسلمين ومقابر الآخرين تتيح الأسفار فرصا كثيرة للسائح كي يتعرف على أماكن حيوية من بلاد أوروبا الديموقراطية، كما تسنح الفرص أيضا بزيارة أماكن مقدسة من بينها القبور فكيف يهتم الغربيون بموتاهم؟ كلنا يعرف أن الموت ظاهرة تطال جميع الكائنات بمن في ذلك البشر. والثابت هو أن كيفية تشييع الموتى ودفنهم تختلف باختلاف حضارة الشعوب وثقافتها. المقابر التي يمكن مشاهدتها سواء من خلال السينما أو الأفلام أو البرامج التوثيقية في بلاد أوروبا أو غيرها، من الماء الهيه، تبدو جميلة جدا في الغالب ، نقية، مخضرة، منظمة و تحف بها باقات الورود من كل الجوانب. الخزف والمرمر النفيس يؤطر حواشي كل قبر فيها. صور و أسماء الموتى مزركشة و منقوشة بخطوط رائعة في الجمال. عندما تدخل الكاميرا إحدى المقابر المسيحية يحس المتفرج بالهدوء قد عم كل أرجاء المكان، بما في ذلك نفسه، بل يخترق المقدس بسرعة خيال المتلقي إلى ملكوت الروح ، ومن حيث لا يدري يشرع في الإحساس بالفلسفة ، والسؤال الأبدي. قبور النصارى في الدول المستعمرة أيضا لا تشذ عن هذه القاعدة. أما إذا كان المشاهد عربيا، فإن ذاكرته ستشرع للتو في طرح أسئلته المعتادة من أجل فهم دوافع الاهتمام المبالغ فيه من طرف المسيحيين بمقابرهم ك«كفار لن يلجوا الجنة» ، أما مقابر اليهود فهي محاطة برعاية خاصة وتجدد باستمرار، وتصير زيارتها نزهة للزائر، والصورة توضح حجم الاهتمام والرعاية مثال المقبرة اليهودية بمدينة فاس وصفرو الصويرة..وغيرها من المدن المغربية العتيقة، وبينما تعم مقابر المسلمين الفوضى بكل أشكالها. سيجد السائل الجواب الجائز أبدا «نحن أصحاب الآخرة وهم أصحاب الدنيا». وكأنما قدرنا أن نرذل في الأرض لنسعد في السماء ، لكن الحقيقة الدينية كما وردت في الإسلام والسنة تعاكس هذا المنطق ، ولا ندري من أي أرض وفي أي كتاب متح هؤلاء؟ فلماذا لا نكرم موتانا بالشكل الذي يليق بهم حياة وفق ما تدبجه ثقافتنا وتراثنا الإسلامي؟ لماذا نجد مقابرنا دون أسوار، وقبورها منبوشة، مطموسة، رثة، تغمرها المستنقعات الآسنة، وتنمو بجنباتها الاعشاب الطفيلية الضارة وأبوابها مفتوحة على الدوام لكل أشكال الشعوذة والدجل ، ووجهة مفضلة لملفوظات صلبة وسائلة للكلاب والسكارى والشماكرية من كل الأعمار؟ أوليس احترام الأحياء أحياء من احترام الأموات أمواتا؟ أسئلة متعددة تصب جميعها في منحى ضرورة تكريم الموتى ودفنهم بطرق فنية و روحية، خاصة في مدينة لها تاريخ عريق في الثقافة الإسلامية كمدينة فاس ، منحى يتخذ من الفكر الإسلامي نموذجا يقتدى في الربط بالفعل وبالقوة بين احترام الأحياء أحياء ، و الأموات أمواتا، لأن هؤلاء الأحياء من يقوم بعملية الدفن ، بل هم المرشحون للموت في يوم من الأيام . والواقع أن الاهتمام بالمقابر عند أولاد سيدنا عيسى سلوك ثقافي وأخلاقي يختلف كليا عما هو عليه الأمر عندنا، لأن المواطن الذي لا يبالي بقبور أهله وعشيرته عندهم يعد شاذا ومنبوذا و يطاله العقاب الاجتماعي و التأنيب من طرف ساكنة البلدة أو القرية أو الحي الذي يقطنه. هكذا كتب الصحافي محمد نبيل أثناء زيارته لمقبرة ألمانية.وهو أقوى مؤشر على تحضر الشعوب وتطورها . كما يعتبر طرق دفن وتكريم شعب لموتاه تيرموميترا لقياس درجة تقدمه. لذلك لا أتردد لحظة واحدة في القول إن الجزء الأكبر من مقابرنا اخترقها التصدع ، وأسوارها آيلة للسقوط ، قبور موتانا مهترئة متآكلة منبوشة مداسة ومطموسة معالمها، إن المواطنين في هذا البلد لا ينعمون بالطمأنينة والرفاهية ، وهم أحياء ، فكيف وهم أموات ؟ وإن احترام حقوق الإنسان ليس له معنى في ظل وجود أحياء يتغوطون فوق موتاهم. لذلك تظل مقابرنا شهادة حية على واقع ابن الوطن أكان حيا أم ميتا. نعرف أن حياته مازالت تئن تحت وطأة الجهل والفقر والأمية ! عندما غادرت مقبرة باب فتوح، كان لدي انطباع قوي يشجع على القول إن وضع قبورنا مخجل جدا ، مثل ما هو الحال عليه من ردم وطمس وتجريف ونبش وتحطيم ومسخ وتشويه ، والذي لا علاقة له بما يرويه مأثورنا في هذا المجال من تعظيم الميت وتكريمه! هل سمعتم يوما عن حملة لاقتلاع الأعشاب الضارة أو رشها بالمبيدات؟ هل سمعتم عن ميزانية المجالس البلدية تخصص عشرات الملايين لترميم المقابر وصيانة حرماتها أو طلاء القبور لتنسجم مع محيطها؟ هل سمعتم أن السلطات المعنية حددت يوما وطنيا احتفاء بالقبر أو ما شابه ذلك؟... في علمي المتواضع ، انتهاك حرمة المقابر الإسلامية ليس بجريمة يعاقب عليها القانون، و كما ليس صعبا ولوجها من طرف أي كان ، فليس من الصعب أيضا المساعدة على تدنيسها سواء بأشكال بالانحراف المعلومة من خمر.. الخ ، أو باسم الدين نفسه ، من غير أن يكون المدنس المتطرف موضع اتهام من طرف أحد، حتى أن المرء لا يكاد يسمع يوما حكما صدر في حق أحد نبش قبرا أو طمس شاهده، حتى لو كان للميت إشعاع تجاوز النطاق المحلي والوطني ! فإلى عهد قريب كان ولا يزال شماكرية بوجلود يتبولون على ضريح لسان الدين بن الخطيب أمام باب المحروق وسائحيها من الأجانب قبل أن تتنبه السلطات إلى ذلك لتضع شباكا حديديا ودرجا صاعدا!