تبدو الكتابة عن القبور وأنين الموتى بمقابر مراكش، ورسم خريطة لعالمهم الهامد, وسط حشد الحياة الزاخم والمتواتر من حولهم, مقاربة شاقة وعصية عند الإمساك بها,مثل جمرات نار بركانية فالذات الكاتبة وهي تحاول ذلك, تجد نفسها تنطلق من نفس الألم. ألم الحياة, إذ كلما أمعنت الغوص في الجدل القائم بين معيش الحياة, ومعيش الموت, كلما كان الألم أكبر عنادا وقسوة، وأقوى بروزا وأشد وطأة من وقع الزمان الهامد . إنها تجربة فردية ملتهبة في ذاكرة جماعة تمحو الكلام, والمشاركة في لهيبها يظل نسبيا ومعزولا مهما تجرأنا على كشف أموره . ” بريس مراكش”دخلت عالم الأموات ودنيا المقابر في أكثر من مقبرة بمراكش، بما في ذلك مقبرة المسيحيين و”ميعارة”الطائفة اليهودية المراكشية. لماذا نجد مقابرنا بمختلف المدن المغربية من فاس إلى بوجدور، ومن وجدة إلى السمارة مرورا بالرباط ووزان ومراكش وأكادير دون أسوار, وقبورها أحيانا منبوشة, تغمرها المستنقعات وتغزوها الحشائش البرية اليابسة أبوابها مفتوحة, لكل أشكال الشعوذة والدجل, ووجهة مفضلة للنفايات الصلبة والسائلة، ومرتعا للكلاب والسكارى والشماكرية من كل الأعمار؟ تلك آفة نحاول الإجابة عنها من خلال هذا الاستطلاع في جولة متأنية قمنا بها أنا والزميل المصور محمد سماع في مقابر مراكش . إذن!! ضعوا أحزمة السلامة سندخل للمقبرة الأولى . يا بسم الله ! مقابرنا في مراكش تختلف عن المقابر، ووضع موتانا مخجل جدا، وهم محفوفون بتراكمات الأتربة في مقبرة باب أغمات ومقبرة باب الخميس، إضافة إلى ذلك فالقبور تنبش في مقبرة باب دكالة، والشواهد تحطم ليعاد بيعها، أزمة تستمر في غياب حراس دائمين وأسوار تحميها من العبث وسلوك الانحراف على غرار مقبرة “الإمام السهيلي” هل سمعتم يوما بتنظيم وقفة احتجاجية ضد تردي مقابر المسلمين؟ أو أنين الموتى الواجب سماعه من الضمائر اليقظة . المقبرة في مراكش أصبحت مكانا مفتوحا على جميع الاحتمالات، لم يكن هناك شيء عادي في مقبرة باب الخميس زوال هذه الجمعة القائظ, كل ما هناك خارج عن المألوف, انتهاك صارخ لحرمة موتى المسلمين، رغم اختلاف مراتبهم في الحياة الدنيا, إذ الطبقية في صورتها البورجوازية الراقية تتجسد هنا في القبور أيضا, قبور بالبالكون في موقع استراتيجي يطل على “واد إيسيل”, فيما الأخرى تزاحمت في مساحات مهملة, في المدخل الموالي لجهة طريق “عين إيطي” بالقرب من واجهة محطة البنزين المجاورة, تطالع الزائر رائحة تزكم الأنوف كعربون استهتار أبدي بالحياة وبالموت في نفس الوقت. رائحة حمولات نتنة تزكم الأنوف, ولأن المكان مفتوح على كل الاحتمالات و يمكن ولوجه من كل الجهات, فقد شرعت فلول المترحمين من الفقهاء الصغار والقراء المأجورين من أصحاب الجلابيب البيضاء الرقيقة المنسدلة دون ذوق، والمستخدمين الموسميين من رجال الرش وتجريف القبور في الإنصراف , بعد صباح طويل من الاسترزاق عبر تلاوة آيات من الذكر الحكيم، سورة الفاتحة وأيات من سورة ياسين ، بعد أن نالوا قليلا أو كثيرا من النقود ،حسب الأريحية والسوق. ومنطق “عين على اللي رايح وعين على لي جاي”. قال زميلي المصور محمد سماع ، وهو يخبأ آلة التصوير إحتراما لقدسية المكان....”ياه !! هاهي جنازة تدخل للمقبرة على وجه السرعة”، أصحابها مهللين ومتسارعين . بدأت عملية وضع الجثة في القبر،موازاة مع ارتفاع وتيرة أصوات حفظة القران الناشزة التي تتجاور حينا وتتفاوت حينا آخر, ينقلها الأثير صدى يعبث بالخيال ويشق الروح ، في الطرف الثاني من المقبرة، هناك بجانب أثار الخطارات المطمورة جلست نساء مترحمات على قبر مهيب، من الواضح أنه كان من أعيان القوم، عليه يافطة رخام، في حين كانت نساء أخريات يتباطئن في سيرهن نحو الباب الخلفي للمقبرة, وبين الحين والآخر تتوقف ضمنهم سيدة سمينة بكسل أمام أي شاهد قبر يسترعي انتباهها. متمتمة بحركات مسترسلة تفصح عنها شفتيها وكأنما تنعيه, ثم تغادرن المكان الواحدة تلو الأخرى في ارتخاء منسدل وعبثية مكشوفة. الكلاب الضالة بدورها لا تشد عن العادة, فحيث ما راح أصحاب البيت المترحمون أو الدجالون تلقي روثها وبولها، ثم تشد رحالها وهي تلهث بحثا عن فضلات وبقايا جيف. في المقبرة، وعلى حافة قبر موشى ب “الموزاييك”، وقفنا على بصمات بقايا ليلة ماجنة وعربيدة, يعلم الله كم هم ضحاياها في أقبية الكوميساريات أو مستعجلات المستشفيات, قنينات البيرة المكسرة و علبها القصديرية الملفوفة في وعاء بلاستيكي تندلق بسخاء هنا وهناك, تكشف بالملموس أن الفقر لا يشكل عائقا يطال هذه السلعة الرائجة, كما يثبت أن الهزيع الأخير من ليلة البارحة لم يكن هادئا أو مسالما، إنها مقبرة باب أغمات. تتمطط مقبرة باب اغمات العائدة إلى العصر السعدي أمام أعيننا على امتداد المدى الضبابي، في هذا الضحى البارد من شهر فبراير، تشكل منخفضات ومرتفعات تقتطع من مساحة المدينة الحمراء الحيز الأكبر, تضاريس إسمنتية تبدو في الأفق من جهة باب أحمر معقدة التشكيل، خارجة عن قوانين الهندسة. أذكر وأنا طفل صغير، عندما كنت أتردد على مسجد المواسين،إني سمعت العلامة عبد السلام المسفيوي جبران يرحمه الله، شيخ مشايخ المالكية في مراكش وفي المغرب العربي يقول: أن العلماء إتفقوا على أن الموضع الذي يدفن فيه المسلم وقف عليه مادام منه شيء موجود فيه حتى يفنى, فإذا فني حينئذ يدفن فيه, فإن بقي شيء من عظامه فالحرمة باقية لجميعه، والقبر حبس لا يمشي عليه ولا ينبش مادام به” هنا في جنبات مقبرة باب أغمات على مرمى البصر بجوار أحد القبور المتهدمة، وقفنا على بقايا هيكل عظمي لبغل نافق على بعد أمتار من المكان, بغل آخر يخطو متهالك القوى نتيجة ما يحمل عليه من صفائح إسمنتية تستعمل في بناء اللحد, يتأفف مياه مستنقع آسن علق من التساقطات الغزيرة التي عمت مراكش على غير العادة خلال فبراير المنصرم. ورغم أن القبور في الجزء الأكبر منها تبدو متواضعة البناء موحشة وغير متجانسة و مهملة بالكامل, حيث تحتل مساحة كبيرة جدا من البوابة التقليدية لروضة باب أغمات ذات التاريخ التليد, إلا أن ألوان وتنوعات ملصقات سينما الهلال، حيث الممثل”فان دام”يبدو نصف عاريا، ويحمل مسدسا ب”الأفيش”المعلق في الفضاء الضارب في الحمرة، تشي بتاريخ غامض لفكرة سريالية عن الموت . وبينما كان شيخ مسن يتوضأ الوضوء الأكبر على رأس قبر متلاش بالبوابة الأخرى المحادية لباب أحمر، ينقدف شاب في العشرينيات من عمره، كالسهم التتاري بجسد يافع مندفعا بكل حيوية فوق قبرين في حركة مثيرة, قاصدا عمله كمتعلم بأحد ورشات صناعة الأحزمة التقليدية في بوسكري, مختصرا طريقه عبر روضة باب أغمات في مسلك مؤسس على قبور متلاشية بعضها شق وسطه, والآخر انهارت منطقة الرأس منه, إستغربت كثيرا من هذا الطريق المختصر فوق رؤوس الموتى في حين تجلس جماعة من النساء المتسولات في انتظار صدقة من مبلغ زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع . أخبرنا ” برقوق” الذي يبيع أشرطة قرآنية، على عربة متجولة، وبمكبر صوت جهوري بالشارع العام على إمتدادات أزقة عرصة المسفيوي ودرب ضبشي وصولا إلى ساحة جامع الفنا، وأسواق باب دكالة وأعواد الأرك والعطور الشرقية المزورة ، أن بالأمس كانت هنا معركة حامية الوطيس بين “الشمكارة” وقراء القرآن حول اقتسام صدقة تركها رجل ثري، جاء للترحم على ذويه، في يد قارئ، حيث إعتبر الشمكارة أن الصدقة تشملهم بناء على منطوق الثري، الذي أمر بإقتسام المبلغ على الجميع ، ليطرح بذلك إشكالا “قانونيا” هل الجميع هم القراء فقط، أم القراء و”الشمكارة”. في الواقع، بائع الأشرطة المعني، قال لنا أن “الشمكارة ” ديمقراطيون ، وأن لهم حق أيضا في الصدقة، لأن القراء لم يقرؤا ولو حرفا على ذوي الرجل الثري . في حين أكد لنا ” قارئ” كان يسترق السمع، أثناء حديثنا مع “برقوق” أن الصدقة لاتجوز في هؤلاء الشمكارة، فهم أكثر من الكفار، إنهم أبناء الشياطين، وصهاينة . كلما يشترونه بالنقود هو “السيليسيون” و”الديليون” وكل ما هو على وزن ” فعليون “. إستغربنا سماع وأنا، كثيرا من كون “الشمكارة” صهاينة، وضحكنا في قرارة أنفسنا، وانصرفنا . أما بوجمعة العامل بشكل دائم في المقبرة، والذي يضع أمامه “بيدوزة” ماء يسترزق بها من المترحمين الزوار والزائرات صباح كل جمعة، فقد باغتته “بولة” على ما يبدو أثناء تواجدنا، وبدا يبحث عن ذكره عبر فتحة مستعصية من سرواله المبرقع وفي لحظة طفق يتبول, أما الوجهة التي سقاها لم تكن سوى قبر يقرا على الشاهد منه : هذا قبر المرحوم..... . توفي في 15 شعبان..... تساءلنا بمرارة كيف يقع هذا؟ وهل نهتم بموتانا؟ سألني المصور الزميل محمد سماع :”هل ما نقوم به يا القنور يعتبر فعلا مقبولا في نظر الشرع الذي لا أفقه في اختلافاته وعنعناته شيئا؟ فكل ما أعرف في هذا الباب هو أن الأموات في مراكش يتأذون كما يتأذى الأحياء.... حملت أسئلتي عن واقع موتى مراكش إلى بعض أعضاء مجلسها العلمي, الذي لم يتردد لحظة في التأكيد على أن “الشريعة الإسلامية أوجبت احترام أجساد الموتى في قبورهم كما لو أنهم أحياء حتى لو بقي منها عظم يراه البصر” وبناء على ذلك, لا يجوز الكشف عن المقبور ولا النظر إليه ولا المشي عليه ولا الجلوس فوقه, ولا الإتكاء عليه, ولا كسر عظم منه ولا دفن ميت معه بلا حاجز”، بالأحرى التغوط فوقه أو التبول عليه. عجبنا من جرأة البعض، على رموز التاريخ . “يا سيدي، بدون تاريخ أو جغرافيا، لنقل على حرمات المقابر”. فإلى عهد قريب كان شماكرية جامع الفنا، – وحتى ممن يدعي العقل وحسن البصيرة – يتبولون على ضريح السلطان يوسف بن تاشفين، مؤسس المدينة، أمام مرأى المواطنات والمواطنين من مرتادي محطة الطوبيسات والسياح الأجانب من مختلف الجنسيات, قبل أن تتنبه السلطات إلى ذلك لتضع الإسفلت ودرجا صاعدا للحيلولة المؤقتة دون تلاشي ضريح بطل الزلاقة. لقد مكنتنا الصور التي التقطناها في “مراكش بريس” لمقبرة باب دكالة المنسية والمعروفة بمقبرة سيدي بنور، والتي تقع مباشرة وراء عمارات الأحباس، في حي الحارة أن نكون فكرة كخير دليل وشاهد على أقصى ما وصلت إليه يد العبث البشري بحرمة الميت. معاينة القبور التي تم حفر جماجمها لغاية في نفس يعقوب, فيما ظل الجزء الأسفل من الهيكل مدفونا في التراب، كما يمكن معاينة قبور حديثة النبش منهوبة العظام. تساءل زميلي المصور محمد سماع حول قبور النصارى التي تبدو جميلة جدا في الغالب، بالمقبرة المسيحية القريبة من “بولمهارز”، نقية ومخضرة, منظمة و تحفها باقات الورود من كل الجوانب. الخزف والمرمر النفيس يؤطر حواشي كل قبر فيها. صور وأسماء الموتى مزركشة ومنقوشة بخطوط رائعة في الجمال. عندما يدخل الزائر هذه المقبرة المسيحية يحس بالهدوء قد عم كل أرجاء المكان, بما في ذلك نفسه, بل يخترق المقدس بسرعة خيال المتلقي إلى ملكوت الروح, ومن حيث لا يدري يشرع في المقارنة, وطرح أسئلته المعتادة من أجل فهم دوافع الإهتمام المبالغ فيه من طرف المسيحيين بمقابرهم ككفار لن يلجوا الجنة، بينما تعم مقابر المسلمين الفوضى بكل أشكالها. وقطعا ستجد الجواب الجائز أبدا نحن أصحاب الآخرة وهم أصحاب الدنيا. فلماذا لا نكرم موتانا بالشكل الذي يليق بهم ووفق ما تدبجه ثقافتنا الحضارية وتراثنا الإسلامي؟ لماذا نجد مقابرنا دون أسوار وقبورها منبوشة ومطموسة, رثة تغمرها المستنقعات الآسنة, وأبوابها مفتوحة لكل أشكال الشعوذة والدجل ووجهة مفضلة للقمامات الصلبة والسائلة، للكلاب والسكارى والشمكارة من كل الأعمار؟ أسئلة متعددة تصب جميعها في منحى ضرورة تكريم الموتى ودفنهم بطرق فنية وروحية خاصة في مدينة لها تاريخ عريق في الثقافة الإسلامية كمدينة مراكش, منحى يتخذ من الفكر الإسلامي نموذجا يقتدى به في الربط بالفعل وبالقوة بين احترام الأحياء أحياء, والأموات أمواتا, لأن هؤلاء الأحياء ممن يقومون بعملية الدفن،مرشحون للموت في يوم من الأيام. والواقع أن الإهتمام بالمقابر”عند أولاد سيدنا عيسى” سلوك ثقافي وأخلاقي لا يختلف كليا عن ما هو عليه الأمر عند أولاد سيدنا موسى من المراكشيين اليهود، لمسناه عندما زارت “مراكش بريس” الميعارة، مقبرة اليهود ويرجع السبب في ذلك إلى كون المواطن الذي لا يبالي بقبور أهله وعشيرته عند الطائفة اليهودية, يعد شاذا ومنبوذا ويطاله العقاب الإجتماعي والتأنيب من طرف ساكنة “الدشر” أو القرية أو “الملاح” الذي يقطنه. قال الشاب الذي صافحته أنا والزميل سماع في مقبرة دوار العسكر القديم رفقة عشيقته المتحجبة مبتسما: “بغينا التيقار،ذاك الشي علاش حنا هنا ف الروضة” وامتص نفسا عميقا من سيجارته وأردف : ” اشكون انتوما الخوا” من خلال الإجابة أعلمناه بأننا ننشد قبر قريب من أهالينا، ولم نطلعه بأننا بصدد انجاز استطلاع حول واقع المقابر الإسلامية المتردي في مراكش، وكفى . في هذه الأثناء لم يتردد الشاب في فتح سدادة قنينة ملفوفة بورق سميك وشرع يرتشف ما بها من قهوة، في حين غادرنا المكان، والشمس تلامس أفق المغيب . محمد القنور