قبضة العين: أعمال حسن نديم كلها بمثابة لغز محير للغاية، فهي شاهدة عليه أعني حركاته وسكناته، في كل وقت يتهيأ فيه من زاوية نظره الخاصة لرصد فكرة أو تتبع حالة. وهو بالمقابل شاهد عليها منذ الولادة فالنشوء فالارتقاء إلى أسمى طابق في العين، ثم انفلاتها على حين غرة من قبضة الأخيرة، كما تنفلت من عقال قديم .لكن في أي اتجاه، غير الغياب والخفاء والعدم وصعوبة المصير... !!؟؟ . أثر بعد عين : عبر هذا الأسلوب الفاتن من بيداغوجية التتبع والمصاحبة ببالغ الرعاية والاهتمام الذي ينهجه الجانبان تجاه بعضهما البعض والذي ينم عن غيرة متبادلة لا حدود لها، يكتسي المنجز التصويري «لحسن نديم» أبعادا مفرطة في المناورة والمناورة المضادة فيما يشبه تبادلا لإطلاق الحب بالتناوب في التسديد وإصابة المعنى بين صياد وطريدة، في موسم قنص يحل في أكثر من مناسبة وفصل : ونحن في غرفة نوم ،أو قاعة سينما مظلمة كثر من مناسبة وفصلا ، أو حافة حفرة أو قمة كونتوار، هنا المهم ليس من اصطاد من ؟ من أوقع من؟ومن هنا بالمناسبة تحتمل العاقل وغير العاقل على حد سواء. المهم أن يسقط كل واحد على حدته في شراك الآخر وكفى المؤمنين شر القتال ، وأن لايسقط على حجر، وأن يتعلق الجميع بنفس الوازع العاطفي الذي يخفف من وطأة الشعور بأننا سنصير بعد حين مجرد أثر بعد عين ،هو أثر علاقة ورابط وقرابة ينتهي بها المطاف عادة إلى مثواها الأخير بمجرد إعلان عدسة الكاميرا ضوء النهاية، على ملأمل تهييء مراسيم دفن جديد بنظرة مجددة لم يسبق تبنيها من قبل وترفض الانصياع للمنوال . الافتتان والكآبة عينها: صور حسن تجسد مكامن هذا العطب وضروب الإخفاق في علاقات لا تكاد تعبر عن حضورها، حتى تؤول إلى مستقر لها طي الغياب، فهو مثلا ينادي على الأمكنة بأسمائها وصفاتها لا لشيء إلا لترى بأم عينها عن كثب درجة افتتانه بها التي تصل إلى حدود الكآبة عينها : مراكش ... حاضرة ... نعم حاضرة، بادية للعيان، في شخص فضاء «جامع الفناء»المدهش، لكن أصواته لم تعد شفهية ولا تراثا ثقافيا ولا إنسانيا بالقدر المتعارف عليه دوليا في سالف العهد والعصور، بعد أن اجتاحت قطعان الفوضى والارتباك حيز سمعته مزيحة عن وجهه وشاح البساطة والعفوية والفرجة ومختلف التلاوين الثقافية الغنية عن التعريف، وهو اليوم وأظن غدا مجرد شهوات بطن لا أقل ولا أكثر، مجرورة على عربات بأحصنة بشرية تدوس بحوافر رياضية برهة تلو برهة محاسن مدينة من الطراز الرفيع، ناهيك عن تسلل موجات ألوان وأحزاب وأمزجة وبطائق أخرى لانتماءات وهويات مختلفة المشارب معترك الساحة على حساب طقس كبير من النزاهة والصفاء كان يسود الأرجاء طولا وعرضا بلا منازع وبلونين فقط هما الأبيض والأسود لونها الأول، عيدها الأول، طعمها الأول، الذي انسحب عن بكرة أبويه مكرها لا بطلا إلى ركن منعزل طالبا السلامة والعافية لا غير. فيرناندو بيسوا عينه حضر افتتاح المعرض .... !!!!! لكن ما معنى الانفتاح على أماكن أخرى ؟ وما جدواه؟ إن لم يكن القصد رغبة ملحة في الانفتاح العارم على الذات من كل جوانبها الحية . وبما أن حسن نديم متأكد وزيادة من نجاعة هذا المدخل الإستتيقي الذي يفضي مباشرة إلى صلب مقاصده الفنية، فلا يفوت عينه أن تستحضر ما لذ وطاب من أمكنة بخرائط وبدونها، ومجرات مترامية إلى أقرب من أنوفنا، وقسمات أشخاص، وتركة أشباح وأزمنة، وتقاسيم موسيقى وطرب ورقص وشعر وتشكيل وسينما وأدب ، وربما هذا كله على بعضه من صميم قصيدة النثر، فهل نحن إزاء صورة النثر أيضا؟ أم أمام نثر صورة تمتد شهرتها من حروف التعجب إلى هيهات وباقي أدوات المدح والدم والتشفي الرائعة الذكر. ومن ثروة بيسوا البصرية الفاحشة إلى السرير المتواضع لكابريلا ميسترال (جائزة نوبل للآداب 1945) ومن سانتياغو إلى جينيف ، مرورا بالجديدة وأزمور والصويرة أرضا وبحرا وجوا وأماكن أخرى مأسوف عليها تحكي تقريبا نفس قصة جامع الفنا الذي لم يعد موجودا بالقلب والقالب الذي تعلق به قلب حسن نديم ذات حب خلا . من لايشرب فليتنزه بعينه بأعلى صمت ممكن: ولأن الشىء بالشيء يذكر لابد من الإشارة إلى أن توارد الأمكنة والمسميات، وتداخل الأجواء والمصائر بهذا الحجم والسعة، واحتكاكها وتقاطعها وتضارب أخبارها وتناسل شائعاتها، واختلافاتها البينة لايمكن أن يفسد للصورة قضية ، ولن يمس على الإطلاق بمحتويات عنوان المعرض : UNE PROMENADE SILENCIEUSE . ذلك أن ما يعتقد أنه اصطدام مشار إليه فوق لا يعدو كونه تلاقح أفكار ونصوص مرئية لا ينبثق عنها إلا ما يشبة أصداء طيبة وطبائع وأهواء وميولات، تضرب روائحها بصمت أعلى فيما وراء نيكاتيف الصورة، كمسودة من التنوع بمكان، يعكف حسن نديم على تصحيحها وتصويبها وتقوية جوانب انزياحها وخيالها وعظمتها مما يسمح باستنساخها على نطاق فني بادخ يرقى إلى مستوى الإنشاد البصري الذي يعي كل مرتاد لحديقة حسن حدود ملمحه الجمالي وقاعدة تكوينه الحسي، التي يقلع منها على أجنحة الأمن والسلام في اتجاه من تهمه الصورة حقا وحقيقة وهي صامتة لا تنبس ولو بكلمة .