الراجح أن الشعراء العرب اليوم لم يعودوا في حاجة إلى من يقدّم كتبهم، ولم يعودوا هم أنفسهم في حاجة إلى كتابة مقدمة مفصلة تشرح تجربتهم ورؤيتهم للأدب، واضعين الأغلال في يد القارئ وشريطا أسود على عينيه كي يذهب في طريق واحد يختاره الكاتب أو من «ينوب» عنه: الناقد. لم يعد العصر، إذن، عصر بيانات ومقدمات، إنه عصر الشعر عارياً ووحيدا وأعزل، أضواؤه الداخلية والفردية وحدها تتيح له القدرة على مواصلة السير واقتحام العتمة، وهذا ما سنحسه بالتأكيد في «أعمال المجهول» للشاعر المغربي نبيل منصر، الذي اختار أن يفتتح ديوانه الجديد بقصيدة عنوانها «كلمة صغيرة» تكاد تختصر الكثير عن مبررات الكتابة وعلاقة الشاعر باللغة: «مغتبطا بالكلام/ ألقطه كالزهر/ وأكدسه بغرفة قديمة/ فيحيا، بجوار القطة التي تموء/ العين التي تشرب الظلام، واليد التي تتنفس». يبدو نبيل منصر واثقا مما تصنعه يداه. إنه ينتمي إلى تلك الطائفة التي تؤمن بالكلمات وتراهن عليها. لا ينظر الشاعر إلى اللغة ككائن موجود يشهد لوضعية تاريخية قُذف فيها بحسب رؤية موريس بلانشو ورولان بارت، بل ينظر إلى اللغة ككائن أقوى في إمكانه أيضا التحكم في هذه الوضعية وتحويل مسارها، لعلها تكون الحقيقة الواهمة التي يتمسك بها الكثير من الشعراء والكتاب: «أرفع كلمة صغيرة/ فيضيء الكون/ ويخرج ما يدبّ في عروقه من حيوانات». أمام التراجعات والانهيارات التي يشهدها العالم، لا يملك الشاعر إلا أن يغلق عليه نوافذ الغرفة كي يحمي أوهامه من البرد. ألم يكن ألبرتو كايرو، وهو أحد أنداد فرناندو بيسوا، في «راعي القطيع»، يعترف منذ الوهلة الأولى بأنه لم يرع أغناما قط، وإنما كان على مدار حياته راعيا كبيرا لقطيع من الأوهام؟ تدبّ الريبة في جسد الشاعر لتشل أطراف نزعاته ولتحد من حماسته للمخلوقات الصغيرة التي تتولد على شفتيه، فيتحول طموحه إلى خلاص جماعي شعورا مقرونا بالخلاص الفردي، فهو ينقب في التاريخ ليستعيد أسطورة رجل جنت عليه كلماته: «الشاعر فيك/ سيمشي تحت الحائط/ متواريا عن الأنظار/ متحسسا بيديه الفراغ كمفتاح/ متجنبا المدية التي فتكت بالمتنبي/ وأورثته بيتا هائلا من الظلام». وأنت تقرأ لنبيل منصر، ستجد نفسك بالضرورة في القرن الماضي وفي الفترة التي تسبقه، حيث يمتزج «فصل في الجحيم» لرامبو ب«الفصول الأربعة» لفيفالدي، كما في نص «مجيء من اليابسة»، حيث ترد عبارة «القرن» 19 في أكثر من نص. إنه لا يحن إلى خشب المواقد القديمة فحسب، بل أيضاً إلى «الحيوانات الأولى على الأرض»، «الحيوانات التي تعفنت في كتاب لا يعرف أحد كيف يطويه». ليس حنيناً مرضياً هذا الذي يختبئ بين نصوص نبيل منصر، إنه بكل بساطة مجرد إحساس بوضع مريح في المكان الآخر، لذا تحفل المجموعة بكم هائل من الصور السينمائية التي تضع القارئ في هذا السياق، سياق التجاوب مع الزمن الآخر، الزمن المقروء لدى الشاعر. فهناك موسيقى وأرائك ومدافئ قديمة وأرامل من القرن التاسع عشر، وهناك كهوف وأكواخ في غابة يسقط فيها المطر الذي لا يكاد ينتهي، وتعبر فوق أشجارها البروق والرعود. تكاد «أعمال المجهول» تتحول كتابة عن الكتابة، فمعظم النصوص تتخذ من تيمة «الكتابة» موضوعتها الأثيرة، لكن بتنويعات متباينة، ففي نصه «عقل الحيوان» مثلا يبرر الشاعر رغبته في الابتعاد عن الآخر بكونه يعوق الوصول إلى الحالة: «تجنبت الناس كمن يزيح/ يده التي تمسك بخناق يده الأخرى/ قلت الأمر ليس أكثر من تمرين في العزلة/ أما انتظار انفجار الخيال/ فلا يحدث إلا أثناء النوم/ عندما تستيقظ اليد/ وتسعى مثل قدم خلف رائحة الأنثى». إنها الفلسفة ذاتها التي تغلّف حياة كل الكائنات التي لا تتطلب من العالم الخارجي أكثر مما تتطلبه من ذاتها. هذا أيضا ما تقوله الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد في قصيدتها «نفور»: «إني أبتعد عمن أعرفهم/ كي أستطيع الإنصات الى أنّات/ قلبي المريض». بعد ديوانه السابق «غمغمات قاطفي الموت» ورسالة الدكتوراه التي أعدها عن الخطاب الموازي للقصيدة العربية وأصدرتها «دار توبقال» قبل أشهر، تأتي النصوص الجديدة لنبيل منصر محمّلة ليس بالوعي النقدي لمنظّري قصيدة النثر فحسب، بل أيضا أحاسيس شعرائها الكبار، وهذا ما يضمن لنص مغربي جيد أن يمتد خارج الحدود الضيقة ليجد أمكنة بعيدة وشاسعة في إمكانها التفاعل معه.