في الثانويات، في الجماعات القروية، في البلديات، في الزناقي، في المناطق النائية، في المغرب «الفن»، في المغرب العميق، في كل واد الشعراء يهيمون، يقرؤون الشعر، ويأكلون العشاءات على وقع الموسيقى وميزانية الجماعات الفقيرة التي تحتاج إلى الطرق والكهرباء و»المستوصفات» الطبية لا أبيات شعر نثري أقرب إلى بعر الإبل منه إلى القصيد. يذهب الشعراء في اليوم العالمي للشعر كي يبرروا سرقات رؤساء جماعات وبلديات، يحتالون في جعل الفواتير صحيحة ومؤكدة ومدعومة بالأرقام: تكلفة المبيت للضيوف، وتكلفة التريتور، والتعويضات المدفوعة بسبب القراءات وواجب الضيافة و»الكروب» الذي ينشط مخيلة الشعراء ويفتح قريحة النقاد على أكثر الأمور دهاء وخدعة في عمل الشعراء. كل هذا الشعر، وكل تلك المصاريف والحركة من شمال المغرب إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، ليخرج جيش الشعراء على صهوات القصائد «العصماء» كي يقطع الطريق ويسلب ما يشاء من نساء جميلات وأكعاب أتراب وذهب المعنى وفضة الأفكار وطيور مجنحة في فراديس معلقة. في نفس الوقت سيجلس الشعراء في منصات الإنشاد وكأنهم الوحيدون الذين يملكون الحقيقة، بينما لكي تكلم أحدهم يلزمك أن تسحب بجرار الطبقة السميكة من الأنانية التي يغشى فيها. كل شاعر هو بالضرورة مشروع بالون منتفخ، المتنبي نفسه كان روحا حائرة، وكرة تتدحرج في دواوين الخلفاء وبين أنياب ممدوحين ينفخون في صدر الشاعر بملك لم ينله. من حسن الحظ أن خلفاء العصر الحديث تخلوا عن الشعر، لأنهم لم يعودوا يفهمونه، أو لأن أغلب الشعراء هم في الحقيقة فوضويون انقلابيون مهاترون ويرمون دودة الشك في صحن مادحيهم ويجعلونهم نمال تسري في الأرض، وليس عظماء على ظهور خيل مسرجة. ومن حسن الشعر الحديث أنه لا يصلح للمدح، وكلما حاول أحد الشعراء «المحدثين» التقرب «زلفى» من السلطان عاد سريعا إلى»دوزان» الخليل بن أحمد الفراهيدي، واستل من البحور ما تسهل السباحة فيه. هناك بالفعل اليوم رؤساء جماعات وبنكيون وصيارفة وأهل مال يريدون بالفعل أن يصرفوا على الشعر، وأن «يكرموا» الشعراء بمال أو بغيره، لكن كيف لهم أن يفعلوا وعدد الشعراء أصبح يفوق عدد الجمهور الذي يحضر الأمسيات الشعرية. في اليوم العالمي للشعر مثلا من الصعب جدا أن تحجز جهة ما شاعرا، كي يقرأ في اليوم العالمي بضع أبيات تشبه ورشة نجارة. أصبح العثورعلى شاعر في مثل هذه المناسبات أمرا مستحيلا، لابد من الحجز المسبق، والاستعلام، والمتابعة حتى آخر لحظة. هناك أيضا من يشتري شعراء الدرجة الأولى بالجملة، ولا يترك لك إلا شعراء «نص نص»، هؤلاء الشعراء الذين يعيدون كتابة نفس النص الشعري منذ سنوات خلت ولا «يحشمون» أمام الأصدقاء على الأقل، لأنهم قرؤوا هذا «الشعير» في السنوات التي خلت. من حسن الحظ أيضا أن دواوين الشعر هي الأقل مبيعا من بين الكتب، وإلا لو كان الشعراء يبيعون أكثر «لقطعوا» في الأرض، ولأصبح الحصول على بيت من شاعر مثل الحصول على أوقية ذهب. أوف، طنين كبير يحدثه هذا «الشعير» على حد تعبير مازح لصديق أصولي.