«تقاطعات» هو عنوان المعرض الفوتوغرافي الجماعي الذي أقيم برواق محمد الفاسي في الرباط، بتعاون بين وزارة الثقافة في المغرب، والجمعية المغربية للفن الفوتوغرافي. شارك في المعرض الذي افتتح في الرابع من فبراير إلى 19 منه، كل من: التهامي بنكيران (فاس)، رشيد الوطاسي (طنجة)، محمد مالي (الدارالبيضاء)، نديم حسن (باريس فرنسا)، جعفر عاقيل (الرباط). ويأتي هذا اللقاء في سياق سيرورة عمل اختطتها الجمعية منذ 22 سنة من الإشتغال والبحث والعروض الجماعية والفردية، للرقي بالفن الفوتوغرافي في المغرب. معرض «تقاطعات» كما يؤكد جعفر عاقيل رئيس الجمعية المغربية للفن الفوتوغرافي، أنه «فكرة للبحث عن إمكانيات خلق رؤى موحدة تجاه ما نراه. فتاريخنا الفوتوغرافي إلى عهد قريب يتسم في مجموعة من المحطات بالكارتبوسطال، بالكليشيهات والصور المنمطة، التي حولت المغرب إلى بطاقة بريدية كبيرة، بفعل أجنبي وتكريس من بعض المؤسسات، كوزارة السياحة مثلا، التي تنتج صورا لا تجسد أحلام المغاربة ولا عواطفهم. آن لنا أن نخرج المغرب من تلك الصورة الإثنوغرافية التي لا تتجاوز كونها تسجيل للغرابة وللمغرب الفلكلوري. نحاول في هذا المعرض الجماعي أن يضيف كل منا صوته للآخر كي نفكر بصوت مرتفع، ونثبت أن الفعل الفوتوغرافي قادر على حمل هم فكري وجمالي وفني، وكذا قضايا الإنسان المعاصر في علاقاته بمجتمعه وفضاءاته الإعتيادية. معرض «تقاطعات» هذا هو سياقه المقصود، يحاول كل واحد منا أن يطرح أسئلته لتصب في هم واحد، هو كيف يمكن للفوتوغرافي أن ينخرط ويلتزم بمجتمعه، بأساليب وتقنيات متعددة ومتباينة تتوخى هما واحدا، التفكير فوتوغرافيا في فضاء المدينة الحديث، ومساءلته وإعادة تشكيله وفق زوايا نظر معاصرة، رهانها الأساسي- والذي تبلور منذ التسعينات في المغرب - هو خلق فوتوغرافيا معاصرة تعالج فضاءات جديدة أو قديمة بعين مختلفة». تقاطعات، تتآلف من قناعات فكرية وجمالية لا تفتت لحمتها استخدامات الوسيط الفوتوغرافي المتعددة. خمس تجارب لتبديد الصورة الأحادية الجانب، التي كرست من قبل عن قصد أو بدونه. يضيف الفوتوغراف جعفر عاقيل معلقا على صورة المغرب في عين المستعمر «حين أتحدث عن هذه المرحلة، لا أتحدث عنها بالعداء المطلق، فتلك المنتجات الفوتوغرافية التي كانت في تلك الفترة هي مهمة، ويمكن التعامل معها على أنها ثرات وطني، ولا يجب أن نأخذ منها موقفا عدائيا وسلبيا. كنا نتمنى لو كانت متعددة المقاربات عوض أن تقتصر على نمطية تامة. وللأسف فلحد الساعة هناك مغاربة وحتى بعض المؤسسات ينتجون بوعي أو بدونه هذا النوع من الصور. خذ مثلا الصور التي تروجها وزارة السياحة في المغرب التي تكسر أفق انتظار الآخر الزائر. ومع الأسف، لازالت الذهنية المغربية تعتبر أن الفوتوغرافيا هي فعل أجنبي أكثر منه مغربي، وهذا ما تكرسه مؤسساتنا حينما تنادي على أجانب لإنجاز أعمال تتعلق بأمكنتنا وفضاءاتنا، لكأن الفوتغراف المغربي غير متشبع بثقافته ووجدانه أو أنه لم ينضج بعد فوتوغرافيا وفكريا لأنجاز أعمال تخص بلده». خمس عارضين مغاربة في «تقاطعات» يشخصنون فضاءات حديثة لتكون موضوع تقاطعاتهم. التهامي بنكيران «فاس» يعنون سلسلته Petite déambulation photographique دعوة للتسكع في أزقة فاس القديمة، انطلاقا من وجهة نظر مؤسسة على تذويب وزعزعة المكان وجعله هلاميا، أو ما يشبه عملية البحث عن أصل آخر تنتجه الحركة الإرتدادية أثناء جمع الفيلم بأسلوب كلاسيكي Photographie argentique بغية إنتاج مواد وكتل جديدة عن طريق مصادفة مقصودة. ينطلق بنكيران من تعريف للفوتوغراف بوصفه شخصا غير ملزم بوجهة نظر المعماري وتفاصيله الصلبة، وهو إذ يبدو مقتنعا بهذا المبدأ، فإنه يطرح بديلا تشكيليا يركب فاس وفق واقع ثان، له من الخصوصية والذاتية ما تجعله وفيا لفكرته الصريحة، أنا أسكن هنا وهكذا أرى ما أرى. ليست فاس بنكيران تلك التي استهلكت دائما على أنها أدغال صخرية مزخرفة ومقوسة، هنا فاس أخرى أكثر ليونة، طيعة ومغرية. إلى نفس الإيحاءات تنقلنا فوتوغرافيا حسن نديم عبر سلسلته المعنونة Les passants أيضا نحن أمام مارة يتحولون إلى كتل مستعجلة غير آبهة. كتل تعبت بما نضفيه على واقعنا من تقديس وثبات، إنها تقول لنا إن كل شيء قابل للهدم والتذويب. ساحة جامع الفناء وما تذخره من زخم شفاهي وثقافي تتحول إلى مكان يمكن أن ينوجد في أي مكان آخر. في المستوى الأول للصورة التي يلتقطها نديم هناك دائما عناصر مائية بمثابة مصفاة فاضحة وكاشفة للشخوص والأمكنة الهلامية. شيء ما في المستوى الثاني من الصورة غامض وضبابي تكاد لا تتآلف معه أو أنك مستعد لعدم الإكثرات به. تمر عدسة حسن نديم الكاسرة للزمن، متسللة من خلال ثقب صغيرة في حبات الماء، ومنها يحب أن يجرفنا إلى رؤية تفاصيل يومية لمارة وسط ساحة جامع الفنا بمراكش. حبات مطر منثورة بنبرة موسيقية دامعة وشاعرة. مراكش نديم مسائية، وحزينة ومبتسمة، وعائدة إلى الطفولة. بفضل حسن نديم الذي أفنى حياته في تصوير ساحة الفنا ليحتفظ بحوالي 3000 صورة عنها، زود اليونسكو 120 منها حينما أعلنت الساحة ثراثا عالميا. أسلوب حسن نديم في سلسلته بمعرض «تقاطعات» يذكرنا بروبرتاجات خوان غويتصولو الذي مكث زهاء عقدين في مراكش، ويعد من أكثر الذين طالبوا بضرورة اعتراف منظمة اليونيسكو بساحة جامع لفنا بمراكش كواحدة من معالم التراث الشفوي الإنساني العالمي. غويتصولو المضاد للتيار دائما، من زاوية نظر مضادة أيضا يطرح حسن نديم تفكيك الإنسجام الأحادي الذي نسقطه على فضاءات مراكش المختزلة دائما في الأدب الشفاهي وأشكال الغرابة، بنقد جمالي يفلسف الواقع بحثا عن إرادة حياة أنقى. مثلما يبدي حسن نديم فيما يشبه معارضة أدبية لبّ أفكار خوان غويتصولو، نجد رشيد الوطاسي، الطنجاوي المنبت، يسرد بعين صاغية سلسلته التي يسميها Tanger ma ville «طنجة مدينتي» أوطوبيوغرافيا تشكل جزءا من مشروع الوطاسي الفوتوغرافي المتمحور حول مدينة طنجة، لكأننا بصدد تكميل لطنجة التي بدأ محمد شكري تسجيل فضاءاتها وشخوصها في أعماله الروائية. عايش الوطاسي محمد شكري في أوقات كثيرة سجلها في كتابه «طنجة محمد شكري» علاقة حميمية تحتفظ بها فضاءات طنجة وتشهد عليها. وإذا كانت درجة التأثير الواضحة في فوتوغرافيا رشيد الوطاسي إلى الحد الذي جعله ينجز سلسلة من بورتريهات محمد شكري لتكون موضوع معرض خاص، فإنه يمكن أن نستنتج ما يشبه البحث عن شاهد أبدي لصالح طنجة تتم المناداة عليه كي يشارك سرد القصة الحديثة عبر فوتوغرافيا من صميم الروبورتاج والتقريرية. بانوراما توثق العلاقات الجديدة التي يفرزها الواقع المعاصر لمدينة طنجة بكل تعدداته ومفارقاته الإجتماعية. البحر الذي يقدمه الوطاسي بحر متعدد، بحر للهروب السري، بحر للطفولة بحر للتأمل بحر للطنجاويين، بحر متناقض يحملك ثقل الذاكرة بحمولة نوسطالجية. يعكس كل ذلك أسلوبه المرتكز على الأبيض والأسود، اعتمادا على Photographie argentique والمرور بمراحل تحميض الفيلم وسحبه بالطرق الكلاسيكية. ارتباط قوي بطنجة في معظم أعمال الوطاسي التي وثقت أسماء كبيرة ممن مروا أواستقروا في طنجة، بول بوز، الطاهر بنجلون... ماتيس وكيف كان يرى طنجة من نافذة فندقه. ثلاث كتب فوتوغرافية تجعل من رشيد الوطاسي فوتوغرافيا طنجاويا بامتياز. محمد مالي في سلسلته Lumière «نور» ينقلنا إلى فضائه الخاص ليقول: إن هذا بيتي، وهنا خصوصيتي العاطفية، الضوء مشع وأنا أريد كشفه أكثر. تآلف صوفي للدخول في ضوء فردي ينفلت من الزمن الاجتماعي المعاصر. محمد مالي الباحث عن الأمكنة المعتمة والسرية كي يضيئها مستندا إلى تقنية الظل والضوء، يعطينا إمكانيات أخرى، فيدخل الضوء في ثنائية عكسية نقيضة مفروضة بالقوة. أماكن مدينته الأم «فيجيج» العتيقة والمغمورة، لا واحاتها المفضوحة سلفا، نافذة بيته الخاص في الرباط الذي لا نعرفه. فضاءات سرية سرعان ما يقحمك في عتمتها بضوء ساطع، فائض الضوء التلقائي ينفجر بالتحدي والمواجهة وقلب الإنكشاف إلى سلطة جمالية تقول تمة شمس لابد منها. لحظة هنالك حلم لم يتحقق بعد، إرادة الحياة نفسها. ضوء محمد مالي، معرفي أنتروبولوجي يسائل المقدسات كما هو في صور فيجيج الذاكرة، وضوء شعري حالم أو صوفي مجرد ومنعزل عن صخب العالم المعاصر ومكتف بذاته تحت نافذة خاصة وفردية. يستمد جعفر عاقيل فكرته الفوتوغرافية في سلسلته « Les marcheurs « من خلال التلاعب بسيطرة العقل على الجسد والرغبات. مبرزا ذلك عبر زوايا نظر منخفضة وغير معتادة. وهكذا يشكل عاقيل صوره من اللعب كي لا يبقي على حاجز بينه وبين الوسيط الفوتوغرافي، وإنما توليد امتداد عفوي بينهما يعتمد الغمز المقصود والمبحوث عنه على أرصفة ومساحات مختلفة التشكيل والتلوين. وفيما تبدو الموضوعات متعلقة بتقريرية مباشرة تجنح للروبرتاج، يمكن التقاط إشارات مفككة تتآلف من تضاد التوازن مع التكسير، والجامد بالمتحرك. هرمنة - من هذا القبيل في تتابع الأشكال، واختراقها غرافيكيا ولونيا- ، هي تفكير للنأي عن التشابهات، وتجاوز اللجوء اليومي للنمط... إلى مساءلة حرية الأفراد في الحركة والإختيار والتوجه الحر. إن جعفر عاقيل هنا قناص يغامر بالرصاصة الوحيدة لإنقاذ الإختيار الآخر. إننا نمشي وعلى الأرجح بلا هوية للقدمين، مدفوعين الى مصير اجتماعي غير متجانس. هنا وعلى مستوى ثاني، يدفعنا عاقيل إلى إقرار بتعريف الصورة بوصفها لسيت فقط وصفا لما نراه وندركه بل ترجمة لأقصى مدخراتنا العاطفية داخل الفضاء والأشكال والزمن، وتناقضات كل ذلك التي تنعكس على فعل الإختيار وإرادة الفرد. لنتساءل أبعد، ما طبيعة هذا الإنعكاس وما الذي يتبقى منه. أليست فكرة اللعب إن بالوسيط الفوتوغرافي أو بحركة الجسد، إضافة إلى اللعب بمسارات الأشكال أليست نشاطا حرا.. تقاطعات فوتوغرافية نخلص أنها لتكسير استعمالنا للفضاءات وتشييئها، يحاول كل من العارضين إثبات أن الصورة يمكنها أن تساهم في كتابة ذاكرة جديدة برؤية أعمق، وزوايا نظر ملتزمة ثقافيا وجماليا تعيد نسج علاقاتنا بالواقع والزمن والممارسة اليومية، بوعي الأشخاص برغباتهم التي تتبدل مع خلق ارتباطات أخرى مع محيطهم، ذلك أن غرض الفوتوغرافيا الأول لا يقف عند حدود تجاوز الواقع أو قبوله كما هو مطابقة ونقلا، وإنما تشكيله وصياغته وفق تجربة وانصهار يضمن رغبة المساءلة والهدم، وإعادة بناء الأمكنة وأزمنتها في موضوعات ترقى بالإنسان المعاصر في اتجاه تحريره من السلطة والإستهلاك والتشييء.