ربما تعتقدون أنني سأتكلم عن رواية الكاتب الكبير «غابريال غارسيا ماركيز» مئة عام من العزلة التي تعتبر وثيقة اجتماعية تاريخية ترصد فترة من أخطر فترات التاريخ الإنساني المعاصر. لكن سأستحضر روح الرواية من خلال معاناة الإنسان وإصراره على التشبث الإجباري بقدر العزلة والمعاناة والضياع. وسط الصحراء القاسية العنيدة، قرر سكان مجموعة من القبائل الصحراوية السفر والهجرة بعد أن جفت الأرض وتضررت الماشية وانعدمت المياه وبالتالي أصبحت الحياة شبه مستحيلة بالنسبة للبشر والشجر والحيوان وحتى الحجر. في سنوات الجفاف هذه وهي أكثر السنوات، بدت الساكنة كما روى أحد أحفاد المهاجرين الأولين أكثر حزنا وأقرب إلى الانطواء والكسل، فلم تجد الساكنة من بد سوى تحمل مرارة الرحيل في اتجاه المجهول لضمان البقاء والاستمرار. كان ذلك قبل أكثر من مئة سنة، حينها استقر جزء من القوافل المهاجرة بإقليم الصويرة وبالضبط بمنطقة تدعى دوار العرب, نسبة إلى عروبته الصحراوية بعد أن تكالبت عنهم قساوة الطبيعة وندرة المياه وشحها، وبالفعل كانت ولازالت هذه المنطقة غنية بغطائها النباتي المتنوع وبثروتها الغابوية وبكثافة أشجارها وبدفء جوها، إضافة إلى موقعها الاستراتيجي الذي يطل على مدينة موكادور العتيقة. في فترة الهجرة هذه كان المغرب يعيش فترات عصيبة. خاصة بعد هزيمة المغاربة في معركتي إسلي سنة 1844 وتطوان سنة 1860، حينها اكتشف الغرب حقيقة ضعف المغرب وتخلفه، فبدت لحظتها بوادر الاستعمار تلوح في الأفق، خلال هذه الفترة وفي الفترة الاستعمارية التي تلتها، كان أصدقاؤنا المهاجرون وطنيون حتى النخاع رغم مرارة العيش وقساوته، فدافعوا عن أرض المغرب والأجداد وسلاطينها بكل بسالة وعفوية، وتشبثوا بنضالاتهم المستمرة حتى بزغ فجر الاستقلال. بعد ذلك تعاقبت على المغرب حكومات متعددة ومتنوعة بمرجعيات مختلفة لم تنل منها الساكنة إلا العزلة والضياع والحرمان. حاولت القبائل المهاجرة استدراك الخصاص والحرمان حينها، لكن وجدوا أنفسهم عاجزين، فاستسلموا لجبروت القدر، فتسلحوا بالصبر وكان خير سلاح لضمان بقائهم واستمرارهم. في غفلة من الزمان القاسي قرر بعض أفراد الساكنة مرة أخرى الدخول في مغامرة الهجرة غير المضمونة، لكن هذه المرة إلى المدن الكبرى، فهاجر " با المختار" الملقب "بالمخ" لحدة ذكائه وفطنة بصيرته دوار العرب إلى العاصمة الرباط وآخرون إلى أكادير والدار البيضاء وفاس، هربا من جبروت المستعمر وقساوة الحياة، فتشتتت القبائل والعائلات؛ وتلك قصة أخرى سنعود إليها لاحقا. نعود إلى دوارنا دوار العرب الذي يقع حاليا على عتبة مدخل مدينة الصويرة الشمالي على بعد 8 كيلومترات من المدينة القديمة، 5 دقائق بالسيارة. تقدر الساكنة بأكثر من 4آلاف نسمة، هاجروا من منطقة طرفاية في نهاية القرن التاسع عشر بحثا عن الحياة والبقاء والاستمرار لهم ولماشيتهم ولذاكرتهم الجماعية، كانوا يمثلون مجموعة من القبائل كقبيلة توبالت، الوركيين، الزفاطيين، آيت أحسين والركيبات... يقول عنهم ابن خلدون في مقدمته : "إن الطابع العام المميز لهؤلاء هو التنقل والترحال، فهم أشد صلابة وقوة، تأويهم خيامهم، ويعيشون ويعالجون من ألبان إبلهم ولحومها، هم دائم والتنقل، كثيرو الترحال لا يعرفون الاستقرار، فلا يربط بينهم حقل أو مزرعة أو جبل، والرابطة الوحيدة بينهم هي الرابطة الطبيعية، رابطة الدم التي تبقى لديهم واضحة لصفاء ونقاوة أنسابهم. رغم قساوة الطبيعة التي تؤثر على طبائعهم وأخلاقهم وأنماط سلوكهم، ونظرا لاقتصارهم على الضروري من العيش وعدم استكثارهم من المأكولات والأخلاط، فهم أحسن حال في أجسامهم وأخلاقهم، فألوانهم أصفى و أبدانهم أنقى و أشكالهم أتم وأحسن، وأخلاقهم أبعد من الانحراف وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات، وبالتالي فهم أقرب إلى الفطرة الأولى". لقد اختار هؤلاء المهاجرون هذه المنطقة بإقليم الصويرة لموقعها الاستراتيجي وقربها من المدينة العتيقة، إضافة إلى الازدهار الاقتصادي والثقافي والدبلوماسي الذي كانت تعرفه مدينة موكادور في هذه الفترة. فالمنطقة غنية بثرواتها الغابوية وغطائها النباتي المتنوع حيث يوجد شجر الأركان والعرعار والتين والزيتون والحلحال والزعتر.... لقد مارسوا منذ عهد بعيد أنشطة متعددة انطلاقا من موروثهم الثقافي، فتفننوا في تربية الجمال ولهم دراية كبيرة بثقافتها، كما أنهم يبدعون في صناعة الجير التقليدي وتربية النحل، إضافة إلى كونهم ملمين بخبايا الغابة اللامنتهية. إلا أن هذه الأنشطة تبقى عرضة لمجموعة من المشاكل التي تعيق تطورها بداية بطرق الاستغلال والإنتاج والتسويق التي مازالت تقليدية جدا، كما أن هناك نقصا في الخبرة والمعرفة الحديثة لدى الساكنة، إضافة إلى ظاهرة الجفاف التي تأخذ طابعا بنيويا بالإقليم. كما تعرف ساكنة المنطقة ضعفا في الفكر التعاوني والتضامني.أما المرافق العمومية والبنيات التحتية فهي ضعيفة بل غائبة؛ كما هو الشأن بالنسبة لغياب المستوصف والمدرسة الإعدادية ودار الشباب. كما تنعدم مجاري الصرف الصحي؛ إلا أن تزويد الساكنة بالماء الصالح للشرب تبقى النقطة السوداء والطامة الكبرى حيث في منطقة يقال عنها حضرية، قريبة جدا من مركز المدينة، المدينة العالمية بثقافاتها المتنوعة والعريقة وبمهرجاناتها الذائعة الصيت، لازال أطفالها ونساؤها يمتطون الدواب لجلب الماء من مناطق بعيدة عن سكناهم وبالتالي يشكل ذلك عائقا أمام تنميتهم وتطورهم، أما بالنسبة لدور العبادة، فالمسجد الصغير، الضيق الذي بنته سواعد الساكنة يحرمها من تأدية فرائضها الدينية. كما يلاحظ غياب أنشطة حقيقية مستمرة ودائمة مدرة للدخل وخاصة بالنسبة للشباب، أما بالنسبة للسكن فتلك حكاية أخرى حيث تنعدم كل شروط الكرامة الإنسانية. أما المسنون فلم تبق من إنسانيتهم سوى الذكرى، ينتظرون في كل لحظة ملك الموت لتخليصهم من مرارة الشيخوخة وقساوتها. من أجل تشخيص وضعية المنطقة أكثر وإيجاد الحلول الناجعة لإخراجها من العزلة والتيه، بادر المجتمع المدني في أوائل شهر يناير، المتمثل في جمعية ودادية دوار العرب للتنمية الحديثة التأسيس بتنظيم لقاء تحسيسي وتواصلي مع الساكنة من أجل مساندتها ومساعدتها على تحقيق مطالبها الاجتماعية المشروعة تحت إشراف مديرية الفلاحة والصيد البحري الإقليمية، بمشاركة ومساهمة قسم العمل الاجتماعي بعمالة الإقليم والمصلحة الإقليمية للمياه والغابات والحد من التصحر, ومركز التأهيل الفلاحي وجمعية رابطة الكفاءات من أجل التنمية, التي تمثل المجتمع المدني في حضور عدة فعاليات من المجتمع. كان الموضوع الأساسي في هذا اللقاء الذي حظيت بشرف تسييره، بعد التشخيص الجماعي لحاجيات المنطقة، هو استعراض كل الآليات الممكنة التي توفرها مؤسسات الدولة من أجل الدعم والإرشاد، وكذلك عبر شرح مختلف المساطر المواكبة لذلك بطريقة سلسة، فكانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية حاضرة في صلب النقاش كما هو الشأن بالنسبة لمخطط المغرب الأخضر، إضافة إلى دعوة الساكنة للحفاظ على التوازنات البيئية في ظل الجدلية القائمة بين الحفاظ على الثروة الغابوية من جهة وحاجيات الساكنة المستمرة لها من جهة أخرى. كانت كل المداخلات تصب في كون الدولة بمختلف مؤسساتها جادة في إعادة بناء علاقة نوعية مع المناطق المهمشة والنائية بالإقليم والعمل على إخراجها من العزلة ومساعدتها على تحقيق تنمية محلية مستدامة بمشاريع قابلة للتطبيق على أرض الواقع انطلاقا من ثرواتها الطبيعية وذاكرتها الجماعية والثقافية وعزيمة ساكنتها وإصرارهم على الخلق والإبداع. بعدها فتح باب النقاش أمام الحضور وكان نقاشا صادقا وجادا, لكنه لا يخلو من عتاب، وبشهادة الجميع كان يتجه نحو التأسيس لعلاقة جديدة واقعية وحقيقية بين سكان المنطقة ومؤسسات الدولة الغائبة منذ الزيارة التاريخية للمغفور له محمد الخامس- كما جاء على لسان أحد المتدخلين . من بين التوصيات التي خرج بها اللقاء، إعادة الاعتبار إلى هذه المنطقة المنسية الغارقة في عزلتها من خلال دعمها بموارد بشرية دائمة ومساعدات متنوعة بما فيها تكوين الساكنة, نظريا وميدانيا, عبر مجموعة من البرامج وتنظيمها في إطار تعاونيات وجمعيات قابلة للتطور والاستمرار وتحقيق التنمية المحلية المستدامة. ومن بين المشاريع الاجتماعية التضامنية القابلة للتحقيق التي جاءت بها التوصيات: - تكوين تعاونية تربية الجمال والعمل على إظهار منافعها الغذائية والعلاجية. - تعاونية صناعة الجير التقليدي. - تعاونيات النباتات والأعشاب الطبية. - جمعية نسوية تساهم في إخراج المرأة المحلية من عزلتها القاتلة وذلك بتنميتها والدفاع عن حقوقها. إضافة إلى العمل وبأقصى سرعة مع شركاء مؤسسات الدولة والمجتمع المدني على تزويد المنطقة بالماء الصالح للشرب، ثم العمل على إحياء تراثها الثقافي الصحراوي، وأن يتم استثماره وتسويقه وترويجه عبر السياحة الثقافية والإيكولوجية التي يراهن عليها المغرب والمتماشية مع ثقافة الساكنة وذاكرتها الجماعية. في نهاية اللقاء تكونت لجنة رباعية لتتبع كل المشاريع والأعمال التي تم الاتفاق عليها وكان لي الشرف أن أكون من بين أعضائها، وبدت حينها علامات الفرح والسعادة على وجه الساكنة ولم لا, فالمنطقة عاشت في عزلة لأكثر من مئة سنة، وأخيرا اقتنع الجميع بضرورة الانخراط في المسار الديمقراطي والتنموي الذي اختاره المغرب وبدون رجعة في ظل كل مؤسسات الدولة المشروعة وفي مقدمتها المؤسسة الملكية. منطقة دوار العرب هاته التي تعيش في فقرها وأميتها وجهلها وعزلتها رغم المجهودات التي بذلت في السنين الأخيرة من طرف الدولة، تنضاف إلى عدة مناطق مهمشة في مغربنا العميق. ألا تحتاج منطقتنا هاته وباقي المناطق المعزولة المهمشة في المغرب العميق إلى تنمية سياسية وثقافية بالموازاة مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية وغيرها؟ وهذا هوالسؤال المركزي الذي يجب التعامل معه اليوم في إطار نقاش عميق ووازن ورصين بكثير من الفطنة والهدوء والنضج. عرف المغرب خلال بداية السنة الماضية حراكا سياسيا واجتماعيا توج بالخطاب الملكي ل 9 مارس ليمثل لحظة تاريخية حاسمة من أجل تحديد مصير المغرب ووضعه على الطريق الصحيح. لقد تميز الخطاب الملكي بالحكمة والتبصر والشجاعة والفطنة، لم تكن هذه اللحظة التاريخية وليدة الصدفة, بل كانت نتيجة حتمية لمجموعة من التراكمات والنضالات والأحداث التي ساهم فيها كل المغاربة، انطلقت من رحم الحركة الوطنية إلى حركة 20 فبراير التي كانت بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس. بعد ذلك جاء استفتاء 1 يوليوز حول الدستور الجديد ثم جاءت انتخابات 25 نونبر التشريعية لتعطي الفوز لحزب العدالة والتنمية وتعيد بالاتحاد الاشتراكي إلى جبهة المعارضة. فكان لابد لإقليم الصويرة ومناطقه المعزولة الضاربة في قدم المعاناة والضياع أن تدخل هي الأخرى ضمن هذه التحولات والتغييرات الكبرى. ولكن السؤال السياسي والثقافي كان به دائما مؤجلا إلى أجل غير مسمى لسنوات. فالمطلوب اليوم استحضار وطرح برامج سياسية وثقافية لتأهيل الإقليم ضمن رؤية إستراتيجية، ووضع برامج حقيقية يكون المتحكم فيها الفعل السياسي والثقافي أولا وأخيرا. الصويرة اليوم محتاجة إلى ثورة هادئة وعميقة تعيد الاعتبار للبرامج السياسية والتنافس الشريف بين التصورات والأطروحات وتجاوز عقلية الشخصنة والتأسيس لمرحلة المؤسسات والكف عن صناعة كائنات انتخابية، مل منها المواطنون، بريع اقتصادي تاريخي قديم ومتجاوز. لابد اليوم أن يستحضر الفاعل السياسي والاقتصادي والمدني والثقافي أن هذه المدينة العتيقة بإقليمها الشاسع ومناطقها المعزولة محتاجة إلى انجاز قطائع حاسمة مع تقليدانية الفعل والممارسة، محتاجة إلى وجوه جديدة تحمل الهم الوطني وهدفها إعادة تشكيل مشهد سياسي متوازن ومتماه مع مختلف الفاعلين المركزيين والمحليين. الحاجة اليوم في إقليمنا إلى تنمية سياسية حقيقية تدعمها الأفكار التقدمية والوطنية والحداثية، المنفتحة على التحولات التي تعيشها مملكتنا. الحاجة اليوم إلى تفعيل سؤال المواطنة وأجرأته على أرض الواقع بدون تخوف نفسي مازال يأخذ بتلابيب البعض، فالصويرة قدرها ومنتهاها أن تجد نفسها في سؤال المؤسسة، والمؤسسة هي التي تصنع المستقبل، والأشخاص بائدون. الحاجة الثقافية والسياسية التي تحدثنا عنها في ما سلف يجب أن تكون المحرك لأي تنمية في أفق الاستحقاقات القادمة لأن الذين يراهنون على تنمية مزيفة، كاذبة وبدون خلفية إنسانية عميقة تراعي الهوية المغربية في تفاصيلها التاريخية وتؤجل التنمية السياسية والثقافية؛ واهمون ,والوهم لا يصلح في السياسة، السياسة ممارسة وفعل عميق يستمد وجوده من الامتدادات الشعبية، والذاكرة الجماعية المحلية لهذه المدينة وإقليمها الذي يحترم التنوع وهذا هوالمنطلق. فالذي يملك ذكاء استراتيجيا في هذه البلاد وفي هذا الإقليم بالخصوص عليه أن يراهن على فكر المؤسسة وعلى دعم العمل السياسي والثقافي الحقيقي بدون إقصاء أوإلغاء وبكل التوافق الممكن لنصل في النهاية إلى تنمية يختلط فيها السياسي والتنموي والثقافي، وهذا هو رهان الجميع ويكون الرابح الأكبر هي الصويرة بكل تلاوينها وتفاصيلها وأطيافها. ومن أجل النبش وتشخيص الأسباب الحقيقية لمعاناة مناطقنا المعزولة هاته وقدرتها الخارقة على إنتاج وتوزيع الألم، نحن محتاجون أكثر من أي وقت مضى إلى صياغة سؤال شامل يحيط بكافة التفاصيل سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو البيئية بدون تخوف نفسي. والسؤال يتعلق بكيف يفكر ويحيا المغاربة ؟ وهل يعيشون في عزلة ذاتية وبالتالي يؤسسون إلى أزمة حقيقية بين تفكيرهم وواقعهم؟ يقول "واتر بوري" في كتابه "أمير المؤمنين،الملكية والنخبة السياسية المغربية" بأن المجتمع المغربي ونخبه على الخصوص تتميز بالانقسامية. أما "عبد الله العروي" فيقول في كتابه "مجمل تاريخ المغرب" بأن الاستعمار الأوروبي شكل قطيعة في نسيج مجتمعنا. ويؤكد في نفس الكتاب على ثنائية أو ثلاثية المغرب، وبأنه " يوجد في صلب مجتمعنا تنوع يتغير شكلا ومعنى من فترة إلى أخرى دون أن يختفي أبدا، وأن مجتمعنا هو مجتمع في صورة مدرج بشري لغوي اجتماعي اقتصادي، كل مستوى يجسد رسوب، تناقض لم يحل، أو عقدة لم تفسخ". أما المرحوم" محمد عابد الجابري" فقد جاء في كتابه "بنية العقل العربي"بأن الساحة الثقافية العربية الراهنة التي يتكون فيها العقل العربي المعاصر ساحة غريبة حقا، وأن القضايا الفكرية والسياسية والفلسفية والدينية التي تطرح فيها للاستهلاك والنقاش قضايا غير معاصرة لنا، إما قضايا فكر الماضي بكل سلطاته وقيوده، أو قضايا فكر الغرب التي قطعت من أصولها وأخرجت من ديارها وأصبحت متشردة وأحيانا لقيطة تفتقر إلى الكل الذي يعطيها معناها. وبالتالي نعيش مغتربين بعقولنا بين تيارات الماضي والحاضر والمستقبل، محكومين بسلطات الزمان والمكان الظاهرة منها والخفية، السياسية والاديولوجية. في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي سقط حائط برلين وسقطت معه كل الأقنعة والاديولوجيات التي كانت تؤسس للحرب الباردة وبالتالي ازدادت حدة عزلة المغاربة الذاتية وخاصة الذين كانوا يراهنون على الفكر الاشتراكي والشيوعي، وأصبح هناك شلخ كبير بين تفكيرهم وواقعهم. ومن خلال كتاب " مرآة الغرب المنكسرة" لصاحبه "حسن أوريد" بانهيار الشيوعية ظهر الغرب على حقيقته وبدت فكرة الأنوار التي طالما تغنى بها الغرب وفئة من المثقفين العرب مجرد غطاء، فالنزوع إلى السوق في الغرب هدفه هوالقطع مع تراثه الديني والتأسيس للبيرالية جديدة لا شيء يقف أمام أسواقها، لا الكيانات الوطنية ولا الدولة ولا الديمقراطية نفسها، وبالتالي وجدت هذه الفئة المثقفة نفسها في عمق العزلة والتيه وخاصة بعد الأزمات الاقتصادية والأخلاقية التي يعرفها الغرب حاليا. أما المرحوم "محمد أركون" فجاء في كتابه "قضايا في نقد العقل الديني": "إذا أردنا الخروج من هذه العزلة والتيه نحن مضطرون للقيام بحركتين اثنتين: أولا،استدراك ما فات وهذه عملية ضخمة تتطلب وقتا وجهودا كبيرة لأن العقل الكلاسيكي الغربي قام بعمل ضخم في وقته، فقد تجرأ على مواجهة العقل الديني المسيحي وفتح معه معركة حقيقية وهذه خطوة لابد منها من أجل التحرير واسترجاع الذات التائهة والمعزولة. وهذا ما لم يحصل عندنا لحد الآن في بلداننا، وعلينا أن نواجه هذه المشكلة بنوع من التدرج وهضم المراحل وعدم الانتقال إلى المرحلة الجديدة قبل استيعاب المرحلة السابقة، وعلينا في البداية أن نعود إلى روح النقاش وطرح السؤال الفلسفي كما كان في عهد "ابن رشد" و"ابن سينا" ومرحلة حكم "المأمون" ويكون هذا هو المنطلق، وألا نعود إلى المرحلة ذاتها لأن أسبابها ومسبباتها لم تعد موجودة، فنحن محتاجون إلى مقاربة دينية جديدة، وعقل ديني متجدد بإمكانه الربط بين ثوابت الأمة الدينية وبين كل التحولات السوسيو اقتصادية والسياسية والثقافية التي يعرفها المغرب ومحيطه الإقليمي والعالمي. الحاجة أيضا إلى الاحتياط من وقع التأثيرات الدولية وتصاعد أشكال التطرف الكوني. ثانيا، يضيف صاحب الكتاب، أن نكون يقظين في ظل التحولات الآنية التي يعرفها الغرب لكي لا تزداد الهوة مرة أخرى بيننا، فالعقل الكلاسيكي الغربي المرتكز على اليقينيات المطلقة ينتقل إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدي الذي يعود على نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو تعديله إذا لزم الأمر، فهو ما يدعوه البعض إلى عقل ما بعد الحداثة، أي عقل أكثر تواضعا لكنه أكثر دقة وحركية في آن واحد، وهو عقل ما بعد انهيار الاديولوجيات الكبرى واليقينيات الراسخة". إذا نحن كمغاربة نعيش فوضى وعزلة وتيه في داخلنا وأعماق ذواتنا نتيجة تراكمات سنين وقرون مضت. هل هذه الفوضى المنظمة أحيانا وغير المنظمة أحيانا أخرى والتي يتقاسمها كل أفراد مجتمعنا في كل مظاهر حياتهم والتي وصف "بول باسكون" من خلالها المجتمع المغربي بطبيعته المركبة ، وشخصها البعض كمرض نفسي اجتماعي يوازي مرض الانفصام في الشخصية ( اسكيزوفرينيا )، هل هي حقيقية وبالتالي عقبة أمام تطورنا وتقدمنا؟ أم أن هذه الفوضى والعزلة والخلط والتيهان بين الماضي والحاضر يشكل ميزة أساسية ينفرد بها مجتمعنا، وبواسطتها تمكن المغاربة من الصمود في وجه الغزاة والطامعين، وفي وجه مختلف الحضارات والثقافات عبر تاريخ المغرب, سواء قبل الفتح الإسلامي أو بعده، وكونوا خصوصية مستقلة وبالتالي ضمنوا لأنفسهم البقاء والاستمرار؟ يظل السؤال حول كيف يحيا ويفكر المغاربة ومدى صحة عزلة ذواتهم وتيهانها، ومدى ارتباط فكرهم بواقعهم. سؤال وجيه لكن الجواب صعب وكذلك بدوره متغير، وربما حان الوقت للشروع في تفكيكه. ونعود إلى اللحظة التاريخية التي يعيشها المغرب حاليا وللأمانة، وفي الوقت الذي تعرف أغلب الدول المجاورة لنا دمارا وخرابا نتيجة تشبث حكامها بالسلطة، فمنهم من لاذ بالفرار ومنهم من يحاكم حتى اللحظة، ومنهم من لازال يصارع ويقاوم ويناور من أجل البقاء، ومنهم من انتهى مصيره ميتا كموت الجرذان، تنازل ملك البلاد عن بعض سلطاته لسيادة الشعب أمام استغراب الجميع، سواء الديمقراطيين منهم أوالعدميين الظلاميين، وبذلك كان نموذجا حيا لكل المؤسسات الخارجية منها والداخلية وذلك من خلال الخطاب التاريخي ل 9 مارس. فلنستثمر جميعا في هذا الموقف الشجاع وفي هذه الجرأة التاريخية التي لا محال سيتكلم عنها التاريخ كثيرا في المستقبل. وفي فاتح يوليوز صوت المغاربة بالأغلبية الساحقة بنعم على دستور المملكة الجديد، ثم جاءت الاستحقاقات ل 25 نونبر وأفرزت فوز حزب العدالة والتنمية بأغلب المقاعد البرلمانية وعلى إثرها وتفعيلا لبنود الدستور الجديد تم تعيين الأستاذ "عبد الإله بنكيران" رئيسا للحكومة من طرف جلالة الملك. يوجد على طاولة الحكومة الجديدة مجموعة من الملفات العالقة والحارقة، وخاصة منها الاجتماعية، إضافة إلى محاربة الفساد واقتصاد الريع والحفاظ على الأوراش الكبرى التي تبنتها الحكومات السابقة، وكذلك العمل على إعادة توزيع الثروة والسلطة وهذا هو بيت القصيد. ولنكن منصفين فالأستاذ "بنكيران" وحكومته لا تتحمل مسؤولية كل المآسي والكوارث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيشها المغرب اليوم، بل هي نتيجة لمجموعة من التراكمات يتحمل مسؤوليتها الجميع. لكن الدستور الجديد الذي صوت عليه المغاربة بالإجماع تقريبا يعطي صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة الجديد لم تعط للحكومات السابقة منذ الاستقلال. فعلى الحكومة الحالية إذن أن تؤسس لخطاب واقعي يتماشى والتحولات السوسيو اقتصادية والسياسية التي يعرفها المغرب ومحيطه الإقليمي والابتعاد عن الخطاب الاتكالي الشعبوي، التيوقراطي والديماغوجي والاختباء وراء جلالة الملك، لأن المغاربة أصبحوا واعون بحقوقهم وواجباتهم الكاملة نسبيا ولم تعد لهم الرغبة في أنصاف الحلول ولا الحلول الترقيعية، فمطالبهم واضحة : الشغل، السكن، الصحة، التعليم، محاربة الفساد....كما على الحكومة النصف الملتحية أن تقوم بتنزيل النص الدستوري على أرض الواقع. لكن الخطوات الأولى لهذه الحكومة تميزت بعديد من الخروقات التي مست النص الدستوري الجديد وخاصة عندما لم تُحترم مؤسسة المعارضة الدستورية النصوحة البناءة من طرف بعض أعضاء الحكومة ومن يدور في فلكها، خصوصا الرفاق منهم، التائهين في بحر الأوهام، سامحهم الله وهداهم للعودة إلى مرجعيتهم الأصلية، مرجعية "عزيز بلال" و"علي يعته" إنه سميع الدعاء. أما البرنامج الحكومي الذي تم عرضه أمام البرلمان بغرفتيه فكان في نظري مجرد نوايا وتعابير إنشائية فضفاضة بعيدة كل البعد عن لغة الواقع والأرقام وانتظارات المواطن، وتحديات الظرفية الصعبة التي يمر بها المغرب ومحيطه الإقليمي وباقي دول العالم. إذن حذار الاستصغار واللعب بنار الملفات المطلبية الملتهبة, خاصة الاجتماعية منها، سنكتوي جميعا بلهيبها الحارق وبدون استثناء، وسنظل أوفياء لإنتاج الألم واليأس والبؤس بيننا، وبذلك نخطئ الموعد مع التاريخ مرة أخرى كما أخطأناه سابقا. كما تعلمون لقد أحرق معطلان أنفسهما بالنار بمدينة الرباط مطالبين بحقهما في الشغل،وللأسف توفي احدهما متأثرا بجروحه، أما بمدينة الصويرة فهناك اعتصام لطلبة التكوين المهني مطالبين بحقهم في الدراسة والسكن بداخلية المؤسسة؛ أما ساكنة حي الملاح بالصويرة العتيقة، فبدورها دخلت في اعتصام مفتوح للمطالبة بحقها الدستوري في السكن اللائق وخاصة بعد سقوط إحدى منازل الحي؛ كما أخبرتنا ساكنة "دوار العرب" بنفس المدينة اعتزامها القيام مستقبلا بوقفات احتجاجية أخرى بعد وقفة 25 يناير الأخيرة المعروفة بوقفة الجمل أمام مقر بلدية الصويرة للمطالبة بحقوقهم المشروعة وخاصة فيما يتعلق بالماء الصالح للشرب والسكن اللائق وتوفير مستوصف لتلبية حاجيات الساكنة. سينطلقون، كما جاء على لسان أحد المنظمين للوقفات الاحتجاجية، من مقر سكناهم البعيد عن بلدية المدينة بحوالي 8 كيلومترات مشيا على الأقدام مصحوبين بنسائهم وأطفالهم ورجالهم وكذلك بجمالهم الصبورة، رمز ذاكرتهم الجماعية. سيكون الاحتجاج سلميا ومنبثقا من حقهم الدستوري. كما وصلت الاحتجاجات إلى مدن أخرى كما هو الشأن بالنسبة لبني ملال وتازة. نعم لقد امتطى "بنكيران" وفريقه الحكومي الجديد صهوة جواد السلطة، وما أدراك ما جواد السلطة، وللنصيحة، فعلى صديقنا "بنكيران" الشروع في تعليم أعضاء فريقه الحكومي ركوب الخيل ولم لا السباحة والرماية، لتكوين جيش بيروقراطي جرار لمواجهة عدو الديمقراطية اللدود "الفساد"، وخاصة في المناطق النائية المعزولة، وبوادينا وقرانا المنتمية للمغرب العميق، هذا إذا كان صديقنا يحسن ركوب الخيل. (فركوب الخيل غير زعامة) كما يقول المثل المغربي. وللنصيحة كذلك حذار ثم حذار، بعد أن يمتطي معالي الوزراء جواد السلطة من أن يحترقوا بنارها، وربما تتعرض أجسامهم المنهكة للذوبان، نجانا الله ونجاهم من لهب النار الشديد، فالمغاربة محتاجون إليهم في هذه اللحظة العصيبة أكثر من أي وقت مضى. اللهم نجيهم من لهيبها واجعله بردا وسلاما كما نجيت سيدنا إبراهيم عليه السلام منها إنه سميع مجيب. فليعلم صديقنا "بنكيران" أن العالم أصبح اليوم يعيش على إيقاعات التغييرات الكبرى، والتغيير هو أقدم رغبة عند الإنسانية، لأن الأشياء عندما تتكرر تفقد في كل مرة شيئا من معناها وتفقد بالتالي شيئا فشيئا من قوتها الحيوية التي تضفي عليها وهم المعنى. لقد كسرت الحدود الرمزية منها، والمادية بكل أبعادها الممكنة، والحدود في حد ذاتها هي جرعة التكرار القصوى المسموح بها. إذن فعلى المغرب أن يدخل بدوره مرحلة التحولات والتغييرات الكبرى وخاصة في مدننا وقرانا النائية المعزولة التي ملت من التكرار الممل للفساد والقهر والظلم والحرمان والضياع. فاطمئنوا يا معشر سكان دوار العرب ويا أبطال حركة 20 فبراير الصامدون ويا سكان كل مناطق المغرب المعزولة المنسية، فجيوش "بنكيران" المقدامة قادمة بما فيهم الرفاق الأربعة والسيدة الوحيدة لفك عزلتكم، ولملمة جروحكم، والقضاء على بؤسكم وإعادة مجدكم وإنسانيتكم، ووضع حد للفساد والمفسدين، والعمل على خلق ثروة جديدة وتكوين نخب محلية حقيقية قادرة بالسير بمناطقكم نحو التنمية الحقيقية والواقعية. فإذا انتصر جيش "بنكيران" على الفساد والمفسدين فله حسنتين، وإذا لم يستطع فله حسنة. لم ينته الكلام سينتظر الجميع بفارغ الصبر قدوم القائد المقدام "بنكيران" وجيشه المغوار لتخليص العباد والرقاب من قبضة ديناصورات السلطة والثروة في غزوة حاسمة وتاريخية ومصيرية : "غزوة بنكيران". سننتظر وننتظر...........غزوة بنكيران هاته هذا إذا كانت هناك غزوة حقيقية أصلا عضوالمجلس الوطني.