هو لا يريد، تماما كالشاعر الجاهلي طرفة بن العبد البكري الذي رفض أن يفتح قرطاس موته.. لا يريد. الشاعر محمد عنيبة الحمري لا يريد.. لا يريد أن ينعت بالشاعر في حضرة القصيد.. القصيد عنده هو من يستحق أن ينعت بالشاعر. لا يفتأ، كلما نعته أحدهم بالشاعر، أن يترنم ببيت أو بيتين لشاعر جاهلي أو شاعر من أولئك الذين وطد علاقته بهم في القديم من النظم والحديث من النثر... طرفة بن العبد. هكذا أجد هذا الاسم على طرف لساني كلما جالست شاعر ديوان «الحب مهزلة القرون». وهكذا، أيضا، أجد الاسم يستحم في ريق فمي كلما انتصف الليل في «ألكزار» حين كنا نتحلق في زاوية الكونطوار فرب حضن «العاطفة»، أو في «سينترا» حيث يتقابل هو مع عازف العود حسن السقاط مرددا معه «مضناك جفاه» أو «جفنه علم الغزل» أو «أيظن» أو «كل ذا كان ليه»، أو في «شاتوبريان» (القصر الأبلق، كما يحلو له أن يسميه) كلما جذبنا الحنين إليه، أو في «الريش» مكاني المفضل (مكانه النديم) ضاحكا مع وفي وجه «الحسن» الذي يسقيه كؤوس «البيروكي». وهكذا، ثالثا، أجده ماثلا شاخصا أمامي يحييني وهو يغادرني أو وأنا أغادره، قائلا: وَلَوْلاَ ثَلاثٌ هُنَّ مِنْ عَيْشَةِ الفَتَى وَجَدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عوَّدِي فَمِنْهُنَّ سَبْقِي العَاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالمَاءِ تُزْبِدِ وَكَرِّي إِذَ نَادَى المُضَافُ مُجَنَّباً كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَهُ المُتَورِّدِ وتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِبَاءِ المُعَمَّدِ ***** شاعر يهيم في المدينةالبيضاء قبيل المساء بقليل، ملتقطا بعينيه آثار عهد جميل عاشته هذه المدينة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وعهد آني ليس إلا مزق وهم حداثة ميكانيكية وبلاستيكية تذوب بمجرد لمسها بحرارة اليد. شاعر يتغنى بالجمال كما في حياته الماضية وحياته الآنية والآتية وكما في إحدى قرات عينيه «رعشات المكان»: «جمالكَ يُنعش قلب المتيم والوصل قد يستحيلْ. أماميَ كل المرافئ تهجرها الكائنات أصيحُ بسجني حتى الممات، ولا يسمعُ الصوتَ إلا الغريب مخافةَ رعب الديارْ!»... وحينما يغشاه ليل المساء، يبحث له عن مكان قصي يختلي فيه بالحياة. الحياة ملء يديه، آتية من وراء سحيق مترع بالألم واللذة، ذاهبة إلى أمام يسير إليه راقصا «لا يتذكر إلا شهب الصهباء التي تتعصر بين أقدام العشاق، وتختبئ في جرار الأصدقاء». الحياة بالنسبة إليه، كالموت تماما، لا يهابها ولا يغض الطرف عنها، ولا يمل ليلَ نهار ونهارَ ليل من مرافقتها ومجالستها ومنادمتها... ودائما كلما سألته عنها، يجيبك قائلا: «دعني أبادرها بما ملكت يدي»، ويكملُ شعره في مديح الجمال في لحظة «انكسار الأوان» مترنما: «مستضاءٌ بغيركِ، والضوءُ ينسل من شُرفة المُستهامْ حِزمةٌ ذائبةْ فالمضيءُ جمالٌ تناءى وتطمحُ في حُسنه المُقلتانْ كيف لي حين لا ترتوي الضفتانْ أتصبب في عرقي أتصورُني مستريحا بدون زمانْ...». ***** محمد عنيبة الحمري تراه، كلما حدثته عن اسم وسم الموسيقى أو السينما أو الرقص أو التشكيل، يقظا راغبا في معرفة المزيد عن هذا الذي تحدثه عنه. تحدثه عن نيتشه فينصت إليك كتلميذ في القسم. وتقول له إن الموسيقي والشاعر ليونار كوهين يشبهك، فتبرق في عينيه علامات التعجب والاندهاش. ويضمر هذا الاندهاش في نفسه إلى حين الاختلاء بنفسه، ليكتشف أن أندادا له يعيشون في أماكن قصية في الجغرافيا وجوديا لكنها نفسيا أقرب إليه من الوريد. ***** دائم الصحو واليقظة حتى في أشد حالات الانتشاء.. لا تكاد تقول هو ذا الشاعر حتى يتوارى عن الأنظار ساحبا معطفه، تاركا صدى محنه تقرع أجراس الكلمات... كان يقال: الفجر ختم سكر الليل. وهو يقول: الليل يطأ الخطو معي حتى في النهار. كان يقال: لو أن الفتى حجر. وهو يقول: لو أن الحجر بشر. كان يقال: «الحب مهزلة القرون». وهو الآن يقول: محن الآخر ومحن الأشياء، محني... ولئن غفت الشفاه مرة، فلأن سرا عميقا يتماوج فيه الوميض...