سأحاول أن أدافع عن الأطروحة الآتية: مستقبل الشعر كامن في منبعه ذاته. ما هو هذا المنبع؟ من الصعب إدراكه. إنه ضائع في الأعماق الإنسانية، كما في أعماق ماقبل التاريخ، هناك حيث ظهرت اللغة، في أعماق ذلك الشيء الغريب الذي هو الدماغ والعقل الإنسانيين. أريد إذن أن أقدم بعض الأفكار التمهيدية كي أتحدث عن الشعر. أولا، لابد أن نعرف أن الإنسان، كيفما كانت ثقافته، ينتج لغتين انطلاقا من لغته: لغة هي لغة عقلية، تجريبية، عملية، تقنية؛ وأخرى هي لغة رمزية، أسطورية، سحرية. تنزع الأولى إلى الدقة، و التدليل، والتحديد. فهي ترتكز على المنطق وتحاول أن تجعل ما تتحدث عنه أمرا موضوعيا. أما الثانية فتستعمل الدلالة غير المباشرة، التماثل، الاستعارة، أي هالة الدلالات التي تحيط بكل كلمة، بكل ملفوظ، وتحاول ترجمة حقيقة الذاتية. يمكن لهاتين اللغتين أن تكونا متجاورتين أو متداخلتين، يمكن أن تكونا مفترقتين، متقابلتين، وتناظر هاتين هاتين اللغتين وضعين اثنتين. الوضع الأول، يمكن أن نسميه الوضع النثري، الذي نسعى فيه أن ندرك، أن نفكر، وهو الوضع الذي يغطي جزءا كبيرا من حياتنا اليومية. الوضع الثاني، الذي يمكن أن نسميه الحالة الثانية، الحالة الشعرية. يمكن للحالة الشعرية أن تعطى بواسطة الرقص، بواسطة الغناء، بواسطة العبادة، بواسطة الحفلات، وبكل تأكيد، يمكن أن تعطى بواسطة القصيدة. كان فيرناندو بيسوا يقول إنه في داخلنا يوجد كائنان. الأول، الحقيقي، هو كائن خيالاتنا، و أحلامنا، الذي ولد في الطفولة، الذي يبقى مدى الحياة؛ و الكائن الثاني، المزيف، هو كائن المظاهر، كائن خطاباتنا، و أفعالنا، و حركاتنا. لن أقول إن الأول حقيقي والثاني مزيف، بل إنه، وبكل تأكيد، مع هذين الحالتين يتناظر كائنان في داخلنا. ومع الحالة الثانية يتناظر ما أدركه بوضوح رامبو المراهق، تحديدا في رسالته الشهيرة رسالة الرائي. إنها ليست حالة النظر، بل حالة الرؤية. إذن، شعر- نثر، ذلك هو نسيج حياتنا. قال هولدرلين: الإنسان يسكن الأرض شعريا. و أعتقد أنه ينبغي القول إن الإنسان يسكنها شعريا ونثريا في نفس الآن. إذا لم يكن هناك نثر، لن يكون هناك شعر. لا يمكن للشعر أن يكون جليا إلا في علاقة مع النثرية. إذن، نحن نملك هذا الوجود المزدوج، هذا التناقض المزدوج، في حيواتنا. في المجتمعات القديمة، التي نسميها جورا بدائية، التي تناسلت على الأرض، التي شكلت الإنسانية وآخرها يتم إبادتها بوحشية في الأمازون وفي مناطق أخرى، كانت هناك علاقة ضيقة بين اللغتين والحالتين. لقد تم الخلط بينهما. في الحياة اليومية، كان العمل مرافق بالأغاني، بالإيقاعات، كانوا بواسطة أجران يهيئون الدقيق وهم يغنون، ويستعملون الإيقاع. لنأخذ مثال الاستعداد للصيد، الذي تشهد عليه إلى اليوم الرسومات ماقبل التاريخية، خصوصا رسومات مغارة « لاسكو»، في فرنسا؛ التي تبين لنا أن الصيادين كانوا يقيمون طقوسا سحرية على طرائد مرسومة فوق الصخرة، لكنهم لا يقتنعون بتلك الطقوس:كانوا يستعملون نبالا حقيقية، واستراتيجيات شعوذية، فكانوا يمزجون الاثنين. بينما في حضاراتنا الغربية المعاصرة، حدثت تفرقة، بل أقول أيضا فصلا، بين الحالتين، بين النثر والشعر. هناك قطيعتان. القطيعة الأولى، حدثت عندما، ابتداء من النهضة، تبلور شعر دنيوي أكثر فأكثر. كان هناك أيضا انفصال انطلاقا من القرن السابع عشر بين، من جهة، ثقافة أصبحت علمية وتقنية، ومن جهة أخرى، ثقافة إنسانية، أدبية، فلسفية، تحتوي الشعر بالتأكيد. إنه نتيجة لهذين الانفصالين أصبح الشعر مستقلا بذاته فأصبح شعرا. لقد انفصل عن العلم، وعن التقنية، وبكل تأكيد انفصل عن النثر. لقد انفصل عن الإيقاعات، أقصد أنه لم يعد مطلقا أسطورة، لكنه أصبح دائما يتغذى من منبعه الذي هو الفكر الرمزي، الأسطوري، السحري. الشعر، في ثقافتنا الغربية، مثله مثل الثقافة الإنسانية، وجد غريبا. وجد غريبا وسط المتعة، والترفيه. وجد غريبا من أجل المراهقين، والنساء، لقد أصبح بمعنى من المعاني عنصرا دونيا مقارنة بنثر الحياة. للشعر ثورتان تاريخيتان. الأولى هي الثورة الرومانسية، خصوصا الرومانسية ذات الأصل الألماني. انها ثورة ضد غزو النثرية، والعالم النفعي، العالم البورجوازي، العالم الذي تطور في بداية القرن التاسع عشر. الثورة الثانية،و قعت في بداية القرن العشرين. إنها ثورة السوريالية . السوريالية تعني رفض أن يبقى الشعر منغلقا داخل القصيدة، أي داخل تعبير أدبي خالص وبسيط. ليس ذلك نفيا للقصيدة، مادام بريتون، مادام بيريه، مادام إيلوار، إلخ... قد كتبوا قصائد جميلة؛ لكن فكرة السوريالية مفادها أن الشعر يجد منبعه في الحياة. في الحياة، بأحلامها وصدفها، وتعرفون الأهمية التي يعطيها السورياليون للصدفة. لقد وجد إذن ذلك المشروع الرامي إلى إلغاء النثر من حياتنا اليومية الذي بدأه «آرثر رامبو» عندما كان يبدي إعجابه بالأكواخ المتنقلة، وبلاتينية الكنيسة. كما أن السورياليين قدروا السينما، فهم أول من أحبوا بشارلي شابلن. إذن، إلغاء النثر من الحياة اليومية، وإعادة إدخال الشعر في الحياة، ذلك هو أول رسالة بعثها السورياليون. كانت هناك أيضا الثورة، ثورة ليس فقط ضد العالم النثري، بل ضد فظائع الحرب العالمية الأولى، التي منها جاء الإلهام الثوري. تعرفون أن بريتون أراد أن يربط الصيغة السياسية الثورية « تغيير العالم» بالصيغة الشعرية السوريالية «تغيير الحياة». لكن هذه المغامرة، التي قادت بنفسها إلى هذيانات، إلى مجموعة من الأخطاء، بل أقول حتى إلى التدمير الذاتي للشعراء، عندما قاموا بإخضاع الشعر لحزب سياسي. هنا توجد مفارقات الشعر. ليس للشاعر أن ينغلق داخل مجال صارم، مغلق. مجال اللعب بالكلمات، مجال اللعب بالرموز. للشاعر كفاءة كلية، متعددة الأبعاد، تهم الإنسانية والسياسة، لكن لا ينبغي أن يترك نفسه خاضعة للنظام السياسي. إن رسالة الشاعر السياسية هي تجاوز السياسة. إذن، لقد شهدنا ثورتان في الشعر. واليوم، ما هو الوضع في نهاية القرن هاته، التي هي في نفس الآن نهاية الألفية؟ إذن، هناك ما يمكن أن نسميه تدفق «إفراط النثر». وتدفق إفراط النثر، هو تدفق نمط حياة مالي، كرونومتري، مجزء، مقسم، مدمر. و هو ليس فقط نمط حياة، بل أيضا نمط فكر أو خبرات متخصصة، أصبحت منذ اليوم مؤهلة لمواجهة كل أنواع المشاكل. و هذا الغزو لفرط النثر مرتبط بتدفق اقتصادي، تقني، بيروقراطي. في هذه الظروف، خلق فرط النثر في نظري ضرورة فرط الشعر. هناك حدث آخر طبع نهاية القرن هذه: إنه التدمير، أو بالأحرى التدمير الذاتي لفكرة الخلاص الأرضي. لقد صدقنا أن التقدم مضمون تلقائيا بالتقدم التاريخي. صدقنا بأن العلم لا يمكن أن يكون سوى تقدميا، وبان الصناعة لا يمكن أن تأتي سوى بالمنافع، وبأن التقنية لا يمكن أن تقدم سوى الإصلاحات. لقد صدقنا بأن هناك قوانين تاريخية ضمنت تفتح الإنسانية، وعلى هذه القاعدة، اعتقدنا أنه من الممكن إقامة على هذه الأرض السلام، أي سيادة السعادة التي وعدت بها الديانات في السماء. في حين أننا اليوم نشهد انهيار فكرة أنه من الممكن وجود خلاص على الأرض، وذلك لا يعني ضرورة التخلي عن فكرة تطوير العلاقات الإنسانية وتحضرها. إن التخلي عن فكرة الخلاص مرتبط بتفهم أن لا وجود لقوانين تاريخية، وبأن التقدم ليس مضمونا، ليس تلقائيا. ليس فقط أن للتقدم يجب أن يهزم، لكن، كلما هزم، يمكن أن يتراجع فيجب تجديده دون توقف. واليوم، كما قال الفيلسوف التشيكي « باتوكا»: «الصيرورة أصبحت إشكالية، وستبقى كذلك إلى الأبد». نحن داخل هذه المغامرة الغامضة، والأحداث التي تقع كل يوم في العالم تؤكد لنا ذلك، إننا وسط «ليل وضباب». لماذا نحن وسط ليل وضباب؟ لأننا دخلنا كليا العصر الكوكبي. لقد دخلنا هذا العصر حيث توجد أفعال متعددة ولانهائية بين كل أطراف الأرض، حيث أن كل ما يتعلق بآبار النفط في العراق والكويت يهم الإنسانية جمعاء. لكن في نفس الوقت علينا أن نفهم أننا فوق هذا الكوكب الصغير، البيت المشترك، مفقودين في الكون، ونحن طبعا نتحمل مسؤولية تحضير العلاقات الإنسانية فوق الأرض. تقول ديانات الخلاص، وسياسات الخلاص: « علينا أن نكون إخوة، حتى ننجو». و أعتقد أننا اليوم يجب أن نقول:» علينا أن نكون إخوة لأننا مفقودون، مفقودون فوق كوكب صغير على طرف شمس في ضاحية مجرة محاطة بعالم بلا مركز. نحن هنا، لكننا نملك النباتات، والعصافير، و الأزهار، ونتمتع بتعددية الحياة، وبإمكانيات العقل الإنساني. هذا هو، بعد الآن، أساسنا الوحيد، وتدفقنا الوحيد الممكن. إن اكتشاف وضعنا الضائع داخل كوكب كبير ناتج عن اكتشافاتنا للفيزياء الفلكية. ذلك يعني أن هناك حوارا ممكنا اليوم بين العلم والشعر، لأن العلم يكشف لنا عن عالم شعري بشكل أسطوري، مع إعادة اكتشافنا للقضايا الفلسفية المركزية: ما معنى الإنسان؟ ما هي مكانته؟ ما مصيره؟ ماذا يمكن أن يأمل؟ إن الفضاء القديم للعلم ، في الواقع، كان آلة خالصة، محددة كليا، تحركها حركة أبدية، بندول دائم، لا يمكن أن يحدث في أي شيء، لا إبداع فيه، ولا حدث. في حين أن هذه الآلة العديمة الكمال على نحو محزن ، هي آلة مفككة. ماذا نرى؟ إننا نرى الكون و هو يولد، ربما، منذ خمسة عشرة مليار سنة، من انفجار، منه انبثق الزمن فجأة، انبثق الضوء، انبثقت المادة، كما لو أن هذه البداية هي نوع من الانفجار الفوضوي، و أن الكون سينتظم عبر هذه الفوضى. تبدو لنا الحياة شيئا تافها، و بديهيا. اكتشفنا الجرثومة، بملايين الجزيئات، على أنها أكثر تعقيدا إلى درجة أن كل معامل «روهر» تحتوي عليها. انتبهنا أن الواقع الذي يبدو صلبا، و بديهيا، تلاشى أمام نظرة الفيزياء المجهرية، وأنه تحت نظرة الكون الزمن والفضاء،اللذان يبدوان مختلفان، يمتزجان ببعضهما. العديد من الفيزيائيين الفلكيين يحدسون أن هذا العالم الذي ينفصل فيه الفضاء عن الزمن هو مثل الزبد، زبد شيء ما مختلف لا يوجد فيه أبدا الانفصالات بين الفضاء والزمن. أين الشعر من ذلك اليوم؟ لقد توصلنا، ليس فقط في الشعر بل أيضا في المجالات الأخرى، إلى فكرة أنه ليس هناك طليعة، بالمعنى الذي يشير إلى أن الطليعة تحمل شيئا أفضل مما كان من قبل. الجديد ليس بالضرورة أفضل، وربما هذه هي حقيقة فكرة مابعد الحداثة. إن صناعة الجديد من أجل الجديد هو أمر عقيم. المشكل ليس في الإنتاج المنتظم و في الإدهاش بالجديد. الجدة الحقيقة تولد دائما من العودة إلى المنابع. لماذا جان جاك روسو هو جديد بشكل مدهش؟ لأنه أراد أن ينكب على منبع الإنسانية، على أصل الملكية، و أصل الحضارة، وفي العمق، كل جديد عليه أن يمر من منبع التدفق والعودة إلى القديم. يمكن أن يكون هناك ما بعد حداثة وما بعد_بعد حداثة، لكن كل ذلك ثانوي. إن هدف الشعر يبقى أساسيا، هو أن نضع أنفسنا في حالة ثانية، أو بالأحرى، أن نعمل على أن تصبح الحالة الثانية هي الأولى. هدف الشعر هو نضع أنفسنا في الحالة الشعرية. --- المصدر: ألقى الفيلسوف الفرنسي «إدغار موران» هذه المحاضرة في المهرجان العالمي للشعر بستوغا ، في صيف سنة 1990. وقد نشرت ضمن كتاب: Edgar Morin, Amour, poésie, sagesse. Ed. Seuil.2000.