شرع المغرب في تدشين مرحلة جديدة من تاريخه السياسي منذ 1997، إن محطة 25 نونبر 2011 تعد لحظة مفصلية، سترسم الصورة القادمة لمغرب الألفية الثالثة لمواجهة كل التحديات والصعوبات الهيكلية: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية... وهو ما يفرض على الدولة بشكل خاص والطبقة السياسية بشكل عام اتخاذ الحيطة والحذر من كل إجراء أو قرار، قد يؤدي إلى ردة فعل قد لا تحمد عواقبها، لأجل ضمان إعادة الثقة كشرط أساسي لمصالحة المواطن مع السياسة، خاصة و أن المتداول عند المواطنين عدم القبول بعودة المفسدين الذين أهدروا المال العام و عطلوا المسيرة التنموية لهذا البلد، وعاثوا الفساد في الجماعات الحضرية والقروية، وانعزل المسيرون للشأن المحلي عن الساكنة. لقد مهدت حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي لانتقالين أساسيين: 1) انتقال سلطة الحكم من منظومة تقليدية تميزت بالتسلط والقمع الممنهج ضد الأصوات الحرة المطالبة بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية ... و تربع ملك شاب على عرش الأمة متشبعا بثقافة قانونية وحقوقية، ليصبح مرجعا ومنهجا في ترسيخ الديمقراطية المغربية ترجمتها الخطابات الملكية على مدى السنوات الأخيرة. 2) إطلاق أوراش الإصلاح الكبرى بدورها أسست منذ البدء للمصالحة بين الدولة والمجتمع من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة، والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي شرع في تنفيذ توصيات الهيئة، ليعوض بالمجلس الوطني المنصوص عليه في الدستور الجديد، وهو مكسب إلى جانب مكتسبات أخرى. غير أن التراجع عن المنهجية الديمقراطية خلال سنة 2002 رسخ لدى المغاربة عدم الثقة في العملية السياسية كيفما كانت، وهو ما تبين بالملموس من خلال نتائج انتخابات 2007 . لقد كشف التقرير الخمسيني لسنة 2006 بوقفه عند المحطات التاريخية الكبرى على مكامن الخلل والضعف من زاوية التنمية البشرية خلال الخمسين سنة من الاستقلال، والتي باتت تشكل أحد المؤشرات الأساسية للتقويم في كل الميادين، إذ يستوجب اليوم فتح نقاش واسع حول الخلاصات التي انتهى إليها والآفاق المستقبلية التي رسمها، من طرف كل الفاعلين لبلورة مقترحات عملية، ووضع سياسات ناجعة مع تحديد آليات تفعيلها، مستخلصة العبر من التراكمات السلبية والإيجابية للمرحلة، و يستدعي كذلك تعميق وتسريع وتيرة الإصلاحات التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالممارسة الديمقراطية التي لم تعد في مغرب اليوم ترفا فكريا، بل حلم كل المغاربة التواقين إلى مغرب للجميع تسوده العدالة الاجتماعية. كل هذه العناصر وغيرها قد ساعدت على خلق وعي جديد لدى جيل الشباب الذي انتفض ضد كل الممارسات الإقصائية و دفعت بالبعض إلى ركوب البحار والمغامرة بالحياة، بينما اختار البعض الآخر أن يضرب له موعدا في الشارع المغربي عبر عالم افتراضي، ليصدح بصوت الحق من أجل أن إسقاط الفساد والاستبداد وهو الاختيار الصائب والموضوعي على اعتبار أن الحق ينتزع ولا يعطى. وفي خضم كل هذه التحولات والمستجدات صار تاريخ 25 نونبر، يشكل رهانا حقيقيا لكل المغاربة ومحطة حاسمة لنقول بالفعل أن المغرب قد دخل مرحلة جديدة ، من صناعة تاريخه المعاصر الذي أسست له حركة 20 فبراير 2011 . وترجمها خطاب 9 مارس في الركائز السبعة المؤسسة للمستقبل المشرق لهذا البلد يفتح باب النقاش الجاد حول الإصلاحات الدستورية، التي كان الاتحاد الاشتراكي قد انفرد بتقديم وثيقته حولها إلى ملك البلاد، كأهم توصية من توصيات المؤتمر الثامن، في حين غابت مكونات الكتلة عن هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، فتكون بذلك قد أخلفت الموعد الشعب المغربي في تجاهل تام لمتطلبات المرحلة الجديدة، غير آبهة لا بمحيطها الوطني ولا الإقليمي ولا الدولي. أما الأحزاب الإدارية والمفبركة في الماضي أو الحاضر فلم يكن موقفها السلبي بالغريب عنا، لأنها لا تملك من الشجاعة ولا من الجرأة ما يؤهلها للدخول في هذا النقاش، وقد تعودت على تلقي التوجيهات فحارت من أمرها، بسبب عدم استقلالية قراراتها. ويتأكد اليوم أن تاريخ 9 مارس 2011 قد رسم خارطة الطريق لمغرب جديد يقوم نظامه على فصل حقيقي للسلط مع تحديد صلاحيات كل سلطة ، ينعم فيه الجميع بالكرامة والمساواة والديمقراطية كرافعة للتنمية المستدامة. ويأتي دستور فاتح يوليوز الذي لقي استحسانا من طرف الطبقة السياسية التي أصبح يطوقها رهان التفعيل الجيد لمضامينه، مع تجديد نخبها محليا ووطنيا وبالضبط لائحتا النساء والشباب باعتماد معايير الكفاءة و النضالية، والتجربة الحزبية و المصداقية والجهوية التي يجب أن تترجم على مستوى المراتب الأولى من اللائحة الوطنية التي تصدرتها دائما مرشحات من المركز حتى بعدما تم التنصيص على الجهوية قانونيا و التي سيكون لها ما بعدها، على اعتبار أن المواطنين لهم علاقة وطيدة ببعض الأسماء محليا و أن همومهم لا يعرفها إلا أقربهم إليهم، وهو ما سيوفر شرطا من شروط التصويت المكثف للناخبين. وعودة إلى الخطابات الملكية منذ 9 مارس، إلى 30 يونيو مرورا ب 20 غشت إلى خطاب 14 أكتوبر 2011، يلاحظ أنها تدعو دائما إلى تقويم حقيقي للممارسة السياسية ونبذ كل وسائل التضليل، واستعمال المال وربط التحديات السياسية والتنموية بالاستحقاقات الآنية واللاحقة في إيجاد الحلول الناجعة لها، وتحمل الأحزاب الوطنية الجادة مسؤوليتها في ذلك. كما تؤكد على تعزيز المشاركة النسائية والشبابية التي ستنبثق عن الاستحقاقات القادمة باعتبار أن دولة الحق تقوم على مبدأ الديمقراطية والمساواة والمناصفة لإقرار سيادة القانون بتثبيت مؤسسات تمارس صلاحياتها كاملة حتى يسود العدل وتتخلق الحياة العامة. هذا ما نستشفه من كلام ملك البلاد، لكن الواقع شيء آخر إذ يبدو أن الجو العام السياسي والمجتمعي غير مطمئنان للمتتبع من خلال ما أفرزه النقاش حول الإجراءات المتحكمة في العملية الانتخابية تعلق الأمر بالتقطيع الانتخابي أو نمط الاقتراع والعتبة أو حتى كيفية تصريف مبدأ المناصفة والمساواة. و موازاة مع ذلك، فإن عملية التسجيل في اللوائح الانتخابية لم يصاحبها حماس كبير للشباب والشابات. و إذا كانت عملية مراجعة اللوائح الانتخابية قد تمت في جو من الجدية و المسؤولية، إلا أنه يبدو مما يصلنا من أخبار من هنا و هناك على لسان العديد من المواطنين من عين المكان لا يبعث على الارتياح، من حيث عودة بعض رموز الفساد إلى الساحة الانتخابية، وما رصدوه من الملايير لخوض حملاتهم، ليعد مؤشرا حقيقيا سيجهض كل أحلامنا و آمالنا في الجواز إلى ضفة الأمان عبر جسر يقطع مع ممارسات الماضي ويؤسس لمغرب الحقوق و الواجبات و توزيع الخيرات و الثروات على قاعدة المساواة. إن المواطن المغربي صار يملك من الذكاء ما يجعله اليوم يميز بين الشعارات و واقعه المعيش، لذلك لم يعد الوقت يسمح بضياع أية فرصة على البلاد و العباد، و لم يعد يسمح لأي كان بأن يغامر بمستقبل الأجيال المتعاقبة. فالتصويت على الدستور و نسبة المشاركة الإيجابية لا يمكن اعتبارها مؤشرا إيجابيا لعودة المواطنين إلى صناديق الاقتراع في هذا الاستحقاق، فهم لم يعودوا يقبلون باستبلادهم لأن العملية بالنسبة لهم ما هي إلا مسرحية فوق خيالهم ما دامت البلاد تسير وفق منظومة أريد لها أن تكون كذلك ومتحكم فيها. لنكن إيجابيين في ظل وجود إرادة عليا في التغيير، و نفهم أن الأمر يتعلق بوضع جديد يؤسسه دستور جديد، لنجدد الأمل في المستقبل لدى الجميع و ندفع بعجلة التاريخ إلى الأمام، عوض إيقافها في لحظة تمتاز بحراك مجتمعي متطور ومصر على تحقيق التغيير، لأن الوصول إلى ضفة الأمان تفرض الانخراط الواسع في العملية الانتخابية، وتقتضي تعامل المواطنين بشكل إيجابي كل من موقعه مع الحملة الانتخابية بفضح كل التجاوزات، و رفض كل أنواع الإغراءات والمساومات في كرامتهم و حريتهن و مستقبل أولادهم و بلادهم. فهل ستتجاوب برامج الأحزاب ونخبهم المرشحة، مع تطلعات المغاربة نساء و رجالا؟ هل ستستوعب هذه الأحزاب أن الممارسة السياسية النبيلة هي في خلق السعادة للمجتمع البشري؟ هل وفرت فعلا شروط هذا الجواز ليوم 25 / 11 / 2011؟ إن المواطن اليوم لم يعد يحتاج إلى من يعطف أو يحسن إليه، بقدر ما يحتاج إلى من يعزز الاعتراف بحقوقه كمواطن كامل المواطنة. إنه امتحان عسير و مصيري خاصة بالنسبة للدولة التي تتحمل مسؤولية جسيمة في حماية هذا المسار و الأحزاب عامة من أجل تثبيت الاستقرار و تجاوز كل المخاطر. (*) عضوة المجلس الوطني