"الآن، وفي أواخر عمري، أتساءل غالبا ألم يكن من الممكن أن تأخذ الأشياء منحى آخر، عمري تسعون سنة، وأحمل ورائي حياة طويلة، وأنا الآن، في هذا السن، متعب ومريض. لم أعد أشرب الشاي بالنعناع. وحتى العسل، الذي آكله من وقت لآخر، لم يعد مسموحا لي بتناوله. فمن حسن حظي أن عبد الكريم، أحد أصغر أولادي، أصبح يراقب صحتي، إنه طبيب، ويعيش معنا، هو وزوجته وولده. هاهي الآن ثلاثون سنة تقريبا مرت ونحن نأمل أن نجد علامة تدلنا على حياة الحسين، ولدنا البكر الذي اختفى في بداية السبعينيات، أي في الوقت الذي كان المغرب يعرف حركات الانقلاب والاختطافات والاضطهاد الوحشي. أنا وإخواتي السبعة، وأولادي السبعة، قاومنا الظلم والزجر. قاومنا من أجل الحق في العمل بكل حرية والذهاب إلى حيث نريد. إنها مقاومة صعبة لم تنته بعد. كنا نحارب من أجل الاستقلال الذي نلناه سنة 1956، ولكننا أدركنا بسرعة أن الحرية التي ناضلنا من أجلها لم تمنح لنا. لقد أدينا الثمن غاليا. أخي ابراهيم أعدم، وكان »كومندارا« في الجيش، لأنه قد يكون شارك في محاولة اغتيال الملك. ابني الحسين قد يكون مات منذ ما يقرب من 30 سنة دون أن ندفنه ونترحم عليه. إن أغلب أفراد أسرتنا قد اعتقلوا ووضعوا في زنزانة على الأقل مرة واحدة. وقد حصل لنا أيضا أن كنا مقيدين ومعصوبي العيون لمدة أسابيع أو شهور. أنا وأخي عبد الله، وصهري الحسين بن محمد نحمل ندوبا عميقة في أذرعنا ومرافق أيدينا بسبب أسلاك حديدية كانوا يوثقوننا بها بشدة لمدة طويلة. لقد صارت جراحا مؤلمة نحملها في الأذرع والروح. ما الذي كان علينا فعله، أكان علينا أن نستسلم للظلم, للكابوس الأسود الذي هو حياتنا، أن نعيش في قلق مميت، ولم يكن للرجال أي حق ولم تكن لهم الاستطاعة في العيش كمواطنين, وهم معرضون. دائما للضرب كالكلاب؟. في كل مرة كنت أتساءل حول ما إذا كان هناك من مخرج وكنت أعرف الجواب, سأعرف بنفس الطريقة علما بأنني كنت سأعرف ما أعرفه الآن. كان الناس يعاتبونني أحيانا، ويقولون إنني أعرض زوجتي وأولادي للخطر. هذا صحيح ولكن عتابهم غير عادل. لم نفكر في الخطر، بل في مغرب حر وديمقراطي. أردت أن أعلم أبنائي أن الحياة تستحق أن تعاش إذا كنا نكافح من أجل مثلنا ولا نخون مبادئنا، كما تعلمت من والدي رحمه الله، وأعتقد أن أبنائي كلهم فهموا ذلك، رغم أنني لا أتابع عن كثب الحياة الخاصة لأربعة منهم إنهم يعيشون بعيدا في فرنسا. رباه! فالبنسبة إليهم ليس هناك مستقبل بالمغرب، حتى إمكانية متابعة الدراسة غير ممكنة، واستطاعوا أن يحققوا المستقبل في الشمال البارد، ولا يزورون المغرب إلا في فصول الصيف، رفقة زوجاتهم وأطفالهم. تعلمت أن أقبل بالقدر، كل شيء مكتوب وأشكر الله وأدعوه أن يجعلني أرى ابني البكر الحسين قبل أن أموت. قبل أشهر قليلة, ربما كان ذلك في نهاية فصل الشتاء, جاءني عبد الكريم، وقت الغذاء، مرتعشا مستثارا، حيث أخبرنا أن رجلا زاره بعيادته بدعوى الفحص، ولكنه كان يحمل إليه في الحقيقة رسالة من الحسين. الرجل كان دركيا كشف عن هويته واستطاع عبد الكريم أن يدون اسمه. وقد أخبره هذا الدركي أنه من المحتمل أن يتم إطلاق سراح الحسين في شهر مارس بمناسبة عيد العرش، أي في الثالث من مارس الذي يصادف ذكرى تربع الملك على العرش. عادة. في هذا العيد يحصل العديد من المعتقلين على العفو أو تخفيف مدة العقوبة، وإذا كان الحسين حيا، فإن عيد العرش فرصة طيبة لإطلاق سراحة بدون ضجيج. وقد ألح الدركي على عبد الكريم ألا يطلع أحدا على هذا الأمر سوى زوجتي. وقد قضت زوجتي الحاجة خديجة التي تبلغ من العمر الآن ستين سنة فترة مابعد الظهيرة في البكاء بهدوء. كانت مرتبكة ولك أن تتصور أن حلمها سيتحقق وأنها سترى ابنها البكر مرة ثانية، وأنه سيلمسها ويقبل يدها وجبينها وأنه سيشاركنا الجلوس حول المائدة، وأنه سيأكل الخبز ويشرب القهوة ويتحدث معها. مجرد التفكير في ذلك كان تقريبا غير محتمل، وأن هذا سيحدث حقيقة وأنه سيكون حقيقيا وأنه استجيب لدعواتها حتى أنا لم أجرؤ على التصديق, كم من مرة انتشر خبر بقاء الحسين على قيد الحياة، وأنه مخبأ في قاع أحد المعتقلات السرية، ولكننا لم نره أبدا منذ أن اعتقلته الأجهزة السرية المغربية من منزل صديق له بتونس. أما أنا فقد قضيت تلك الظهيرة في السرير, مفكرا بل نائما ودعوت الله أن يكون الخبر هذه المرة صادقا. ولكننا لم نسمع بعد ذلك شيئا عن ذلك الرجل الذي نقل الرسالة لعبد الكريم وقد أفرج بمناسبة عيد العرش على العديد من المعتقلين كما تم التخفيف من مدة العقوبة عن بعضهم, ولكن لا شيء في ما يتعلق بالحسين. وفي تلك السنة تم الاحتفال بعيد الأضحى (العيد الكبير) في شهر أبريل، وكانت هذه فرصة جيدة لأن عيد الأضحى هو قبل كل شيء عيد العفو الكبير، لأننا نحتفل بإبراهيم وهو يطلب السماح من ربه فيما اعترف أنه لم يكن عليه أن يضحي بابنه. وعائلتنا لن تصالح السلطات ما لم يعد الحسين. ونحن نضع أملنا في عبد الرحمن اليوسفي، رفيقنا السابق في مقاومة المستعمر الفرنسي، ورفيقنا في النضال بحزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. لقد تم تعيينه وزيرا أول ويدير حكومة تتشكل من الحرس القديم ومساعدي الملك وبعض رفاقنا في المعارضة. وإذا كان هناك من أحد بإمكانه أن يحل مشكلة المختطفين, فلن يكون سواه إنه واجب ثقيل هذا الذي يثقل الآن كاهله، فهل يتنكر لرفاقه القدامى؟ أتوفر على صورة تجمع ما بيننا نحن الإخوة المانوزي: أحمد وعبد الله ولحسن وبلقاسم والطيب وأنا الذي كنت أتوسط باعتباري أخاهم الأكبر، محمد البصري، أحد قادتنا في المقاومة وعبد الرحمن اليوسفي. وقد التقطت الصورة قبل عامين، أي حين عاد محمد البصري من منفاه بفرنسا حيث قضى أزيد من 25 سنة. لا لن يفعل, بالنسبة لليوسفي ولرفاقنا في الحكومة، هذا واجب عزيز واجب فتح الآبار المظلمة لتاريخنا وتقديم التفسيرات ونحن أي العائلة نريد أن يعود الحسين وإذا كان ميتا نريد شهادة وفاة رسمية، وتصريحا واضحا يبين ماهي ظروف موته، وأن نستعيد، إذن جثته وندفنه بالشكل الذي يليق. إننا نرى أنه على المسؤولين أن يبرروا أفعالهم لنستطيع أن نردم إلى الأبد هذه الحفر السوداء والعفنة.