سقوط قنبلتين مضيئتين في ساحة منزل نتنياهو (فيديو)    جمعية فنون تقدم أحدث إعمالها الفنية و التراثية أغنية " لالة منانة" من أداء المجموعة الموسيقية لأكاديمية ميزينوكس    وزير الداخلية يدعو الولاة والعمال إلى التصدي للنقل "غير القانوني" عبر التطبيقات الرقمية    تقرير رسمي "مفزع"... نصف المغاربة يعانون من االإضطرابات النفسية    أكبر الشركات العالمية تواصل إبداء اهتمامها بالطريق السيار الكهربائي الداخلة-الدار البيضاء    الجامعة الملكية للملاكمة تنتخب بالإجماع عبد الجواد بلحاج رئيسا لولاية جديدة    صحيفة بريطانية تستعرض الوقائع التي تجعل من المغرب الوجهة السياحية الأولى في إفريقيا    بالصور.. ارتفاع كمية المؤثرات العقلية التي تم حجزها بميناء طنجة المتوسط إلى أزيد من 188 ألف قرص مهلوس    تسمم غذائي يرسل 19 تلميذا إلى المستشفى الإقليمي ببرشيد    المنتخب المغربي يُحقق الفوز الخامس توالياً في تصفيات كأس إفريقيا 2025    فرقة "يوبا للابد المسرحي " تطير عاليا بنجوم ريفية في تقديم عرضها الأول لمسرحية " هروب في ضوء القمر    انعقاد الدورة الثانية للجنة التحضيرية للمؤتمر الثامن لمنظمة الكشاف المغربي بجهة مراكش-أسفي    حاتم عمور يكشف تفاصيل ألبومه الجديد "غي فنان"    ندوة حول موضوع الفلسفة والحرب: مآزق العيش المشترك    الرايحي يقنع موكوينا قبل مواجهة الرجاء في "الديربي"    حصة تدريبية خفيفة تزيل عياء "الأسود"    أسباب اندلاع أحداث شغب في القليعة    الشركة الجهوية متعددة الخدمات الشرق للتوزيع تعلن انقطاع الكهرباء عن أحياء بمدينة الدريوش    انعقاد الاجتماع الإقليمي للمدن المبدعة لليونيسكو بتطوان من 19 إلى 22 نونبر الجاري    حريق ياتي على العديد من المحلات التجارية في سوق الجوطية بالناظور    المغرب يعزز جهوده لإغاثة فالينسيا عبر إرسال دفعة جديدة من الشاحنات ومعدات الشفط    تراجع طفيف في ثمن البنزين في محطات الوقود    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    منظمات مغربية تدين تحيّز الإعلام الهولندي للاسرائيليين في أحداث أمستردام    عمر حجيرة: لا ترضيات في التعديل الحكومي    تعهدات في مؤتمر وزاري في جدة بمقاومة مضادات الميكروبات بحلول عام 2030 (فيديو)    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    من أصول مغربية.. وزيرة هولندية تهدد بالاستقالة بعد أحداث أمستردام    المحامون يتوصلون إلى توافقات مع وزارة العدل    جائزة المغرب للشباب تحتفي بالتميز    إنعقاد المؤتمر الدولي بالداخلة حول "المبادرة المغربية للحكم الذاتي:نموذج للحكامة الترابية بإفريقيا الأطلسية".    رؤية الرئيس الصيني.. التعاون الدولي لتحقيق مستقبل مشترك    السكوري يكشف تشكيل لجنة حكومية تدرس منح دعم للكسابة في العالم القروي لمواجهة فقدان الشغل    ‪أمن دبي يقبض على محتال برازيلي    المرتجي: التراث اللامادي بين المغرب وهولندا أفق جديد للتعاون الثقافي    الفلبين تأمر بإجلاء 250 ألف شخص        حشرات في غيبوبة .. "فطر شرير" يسيطر على الذباب    صانع المحتوى "بول جايك" يهزم أسطورة الملاكمة "مايك تايسون" في نزال أسطوري    أنفوغرافيك | أرقام مخيفة.. 69% من المغاربة يفكرون في تغيير وظائفهم    منع جمع وتسويق "المحارة الصغيرة" بالناظور بسبب سموم بحرية    "طاشرون" أوصى به قائد يفر بأموال المتضررين من زلزال الحوز        فريق الجيش الملكي يبلغ المربع الذهبي لعصبة الأبطال الإفريقية للسيدات    السوق البريطاني يعزز الموسم السياحي لاكادير في عام 2024    دراسة تكشف العلاقة بين الحر وأمراض القلب    الأمم المتحدة.. تعيين عمر هلال رئيسا مشاركا لمنتدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي حول العلوم والتكنولوجيا والابتكار    مغاربة يتضامنون مع فلسطين ويطالبون ترامب بوقف الغطرسة الإسرائيلية    "باحة الاستراحة".. برنامج كوميدي يجمع بين الضحك والتوعية    حملات تستهدف ظواهر سلبية بسطات    "طاقة المغرب" تحقق نتيجة صافية لحصة المجموعة ب 756 مليون درهم متم شتنبر    مقابلة مثالية للنجم ابراهيم دياز …    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لبغاتك ... تعطيك
نشر في هسبريس يوم 15 - 10 - 2011

أوقفت عربة الفواكه على الجانب الأيمن من منزل الأسرة ، ثم وضعت حجرة متوسطة الحجم خلف إحدى العجلتين كي لا تتحرك العربة إلى الخلف بسبب انحدار أرضية الزقاق ، ثم غطيت بضاعتي وارتميت داخل المنزل حذرا مقوس الدهر مطأطئ الرأس كي أتجاوز عتبة الباب المتهالك دون أن أصطدم بأعلى إطار الباب القصير ، ذو الصباغة البالية والأخشاب المسوسة .
ورث أبي هذا المنزل عن أمه . لقد بوأحسن إليها دائما، وكان ليّنا معها لما بلغت من الكبر عتيا . كانت تدعو له بعد كل صلاة بالتوفيق في حياته ، وأن يُرزق أبناء صالحين يعوضون له كل تعبه سعادة وطمأنينة. ولما اقترب أجلها المحتوم جمعت أبناءها "أحمد" و"علي" و"عائشة" وأوصتهم بأخيهم "توفيق" أبي خيرا، وبأن لا يرموا أبناءه للشارع و أن يتركوا له البيت تنازلا منهم لأخيهم الأكبر الذي لم تبتسم إليه الأيام كما ابتسمت إليهم .فعمي الأصغر " أحمد" يتوفر على عمارة من أربعة طوابق بناها بعرق جبينه ومن المال الذي جمعه وهو يعمل بكندا ، أما عمي الأوسط "عليّ " فيعمل بإحدى محطات البنزين ،له شقة اشتراها بشراكة مع زوجته المعلمة ، بعدما اقترضا مبلغا إضافيا من إحدى البنوك .ورغم إكراهات مستحقات القرض فإنهما سعيدين و إن سألتهما عن حالهما أجابا بتواضع" اللهم ارزقنا الكفاف والعفاف والغنى عن الناس". أما عائشة عمتي فهي تعيش بأكادير ممرضة تعمل بإحدى المستشفيات الخاصة ولا تزور الجديدة إلا أيام الأعياد الدينية. هي مهتمة بمساعدة زوجها بمطعمه يومي السبت والأحد . أما أبي " توفيق " فيعمل " مدلكا"(كَسَالْ ) بحمام عتيق يقع في حينا الشعبي .
كنت ابن أبي الأول ، ازددت في أيام صعبة عجاف حسب ما يذكر لي أبي كلما طلبت منه أن يحدثني عن شبابه . لقد تزوج في الخامسة والعشرين من عمره وارتبط بزينب ابنة الجيران ، رآها وتعلق بها، لما كانت تتردد على منزل جدتي لطلب بعض الطحين أو الملح أو عود ثقاب أو أشياء أخرى.في تلك الأيام كنا نتبادل كل شيء مع الجيران حتى الأثاث أيام الأفراح . كانت تلك الأيام صعبة بتحدياتها وجميلة ببساطتها. كان الرجل و المرأة يعملان كل أيام الأسبوع ولا يحصلان على أقل من أجرة يوم عمل واحد هذه الأيام . كان أبي يفضل مناداتي " جلول" بينما اسمي الحقيقي " سى الجلالي" ، هم هكذا أضافوا (سي) إلى اسمي لأني حفظت القرآن إلى سورة " طه" وبدأت أحضر مع حفظة القرآن لإحياء أمسية ذكر في أي حفل : عقيقة كانت أو زواجا . كنت أحصل على بعض الدريهمات مقابل إحيائي ليلة الحفل مع الحفظة ، وكنت أعود للمنزل مسرورا منشرحا، لأن الأهم عندي كان هو "عشاء الوليمة " الذي كان دائما دسِما ، مصحوبا بالفواكه والمشروبات الغازية. كان الحفل (الزردة) بالنسبة إليّ يوم عيد ، أحصل خلاله على ما كان ينقصني في الأيام الخالية من فاكهة ولحكم طير أو خروف. أما اليوم فإني انشغلت ببيع الفاكهة كي أحصل على قوت أسرتي ، فأصبح لي زبناء عديدون لا ينادونني كما سبق " بالسي الجلالي " وإنما بجلول "الدّقة "(يمزحون معي على أنني أبيع الفاكهة بسعر مرتفع) . لقد أصبح الناس اليوم لا يستدعون حفظة القرآن مثلي لإحياء الأفراح ويستدعون شبابا مثقفا آخر يثقن صنعة تجويد وترتيل القرآن والإنشاد . وطبيعي ألا يستدعيني وأصيحابي أحدهم لإحياء وليمة كما كانت العادة سابقا ،لأن الوليمة أصبحت تتطلب هذه الأيام مجهودا وتحضيرا فقهيا وتربويا وحتى سياسيا . فكثيرا ما كان يحتدم النقاش في وليمة ما حول موضوع فقهي ثم يتحول إلى موضوع سياسي حيث نجد صعوبة -نحن الطلبة – إبداء الرأي فيه .
بعدي مباشرة رزق أبي" بحاتم " وكان طفلا جميلا محبوبا لوالدي من أول يوم ، فكنت أغار منه ، وأظن أنه سيأخذ والدي مني ، وبذلك لن يكون لي أي اعتبار عندهما كما كنت ، فكنت أتظاهر بتقبيله ثم أرتمي فوقه ، فلاحظ أبواي سلوكي ، فاشتريا سروالا وعباءة دون أن أعلم، فقدما لي السروال ، وقالا لي بأن أخي " حاتم " هو الذي أشتراه لي و عليّ أن أقدم له أنا بدوري شيئا آخر ، فنظرت يمينا ثم يسارا لعلي أجد شيئا ، فلمحت العباءة التي وضعتها أمي بالقرب منها قصدا ، فارتميت عليها وجذبتها وأنا أصيح " هاهي! " ، فقالت لي أمي وهي تضحك ، ضعها فوق أخيك ثم قبله، ففعلت وأنا أنظر إليه كالمعجب. ومنذ ذلك اليوم أصبحت أحب أخي أكثر ، وبدأت أقدمه له كل شيء عندي من هدايا ولعب .
لقد حرص أبي على أن يعلم حاتم أخي تعليما وافيا كافيا ، وحتى لا يكون مثلي شبه متعلم ، إذ اكتفى أبواي بتعليمي في المدرسة القرآنية . لقد قررا إدخال حاتم المدرسة العصرية في سن مبكرة بعدما اقتنعت أمي بذلك وحصلت على التجربة من النساء اللواتي كانت تلتقي بهن في الحمام ، حيث كانت تفتح كل امرأة قلبها للأخرى ، فيتحول الحمام إلى مركز التداعي الحر ، تحكي كل واحدة منهن ما يجول في خاطرها وما يشغل بالها ، فيتبادلن التجارب والنصائح . وكانت أمي بعد كل مرة تعود من الحمام للمنزل تحمل معها أفكار النساء (المتحضرات) فكانت تتقاسم تلك الأفكار مع أبي ، فقررا إحاطة أخي بكل العناية ، فسجلاه في مدرسة كانت تشرف عليها مديرة متقاعدة ذات تجربة عميقة. كانت ملمة بعلوم التربية.
وفعلا توفق أخي في دراسته ، وكان دائما يحصد الجوائز التي كان يخصصها الأستاذ للمتفوقين في كل يوم دراسي .تلك الجوائز لم تكن باهظة الثمن ، كانت رمزية ، ولكن كانت لها دلالة كبيرة بالنسبة لأخي ولأستاذه . فمرة يحرز على دفتر، ومرة على أقلام ومرة على لوحة حجرية ومرة أخرى على فرصة لتناول أكلة بالمطعم المدرسي. وقتها كانت كل الأشياء والأفعال بسيطة ولكنها كانت ذات قيمة اجتماعية كبيرة. أما اليوم فكل شيء موجود لكن كل شيء فقد طراوته وحلاوته.
بعد حصول "حاتم" على الإجازة قانون ، فرح أبي فرحا ما بعده فرح بتفوقه ، وبارك كل الجيران تضحيات أبي وأمي معه ، ولم يكونوا يعلمون أنني أنا الآخر ضحيت مع أخي بالقليل والكثير من الأرباح اليومية التي كنت أحققها من تجارتي بالفواكه . كنت كنت أخرج بعربتي صباحا ولا أعود للبيت إلا في وقت متأخر مساء ، وكنت لا أترك أي مكان مزدحم بالمارة إلا وقصدته . كنت أقاوم وأصبر . ولم أحبب يوما فكرة " الحريق" في قوارب الموت إلى نفسي، لأني كنت أعول أسرة، ولم أفكر في إحراق نفسي بالبنزين وكما فعل محمد البوعزيزي رغم مضايقات رجال السلطة لي مرارا كل يوم ، فكانت تردهم عني تحيتي إليهم بكيلوغرام تفاح في أسوأ الحلات ، كنت أرد التحدي بتحدي من نوع آخر( ادفع بالتي هي أحسن) ، لأن الخبز كما يقال " يخرج من النار".
وكم كنت أشعر بخيبة أمل وكذلك أبواي لما أنهى أخي دارسته الجامعية ، و لم يحصل على عمل .لقد مرت أربع سنوات كاملة وهو معطل ، فكنا نتقول بأنها " العين" التي أصابته وأصابتنا . لقد راسل حاتم العديد من الشركات والإدرات دون جدوى ، فقرر الانضمام إلى جمعية المعطلين الحاصلين على الشواهد العليا. فكان يحضر كل التظاهرات تقريبا، وكم كنا نخاف عليه، ونسبح لله تسبيحا حتى لا يصاب بمكروه. وكم كنا نضطرب اضطرابا ونقلق قلقا شديدا كلما سمعنا أن المتظاهرين تعرضوا لمضايقات من السلطة المحلية . لقد كان أخي حاتم أملنا الوحيد للخروج من دائرة الفقر، كما كنا نعده مفتاح سعادتنا والمفتاح الذي سيمكننا من العيش كما يعيش الآخرون . كنا نشعر بأننا قد ضحينا معه كثيرا بالمال والجهد ومن حقه الحصول على الجائزة : منصب مالي يمكّن أخي "حاتم" من فرصة عمل يستعيد بها كرامته وإنسانيته.
في ليلة مقمرة وقبل صلاة الفجر والناس نيام ، رفعت يدي إلى السماء ، فسألت الله أن يستجيب لدعائي ويمنح أخي عملا ، فحاتم لطيف، متخلق، محب للناس ، فهو غير متعود على الأعمال الخشنة ،و لم يجرب مثلي الشغل في القر والحر ولا التجوال في الشوارع تحت الشتاء من أجل لقمة العيش. يداه لا تستحقان " الفأس" ولا " المنشار" ، أما يداي فكانتا خشنتين كالحجرة الصماء .
لم يتأخر رجائي كثيرا ، والحمد لله بكرة وأصيلا ، لقد بعثت " الحكومة " رسالة لأخي تبشره بأنه حصل على عمل في إحدى الإدارات المخزنية ، وقتها فتح الرسالة ثم قرأها ثم دمدم المخزن كالكمون لمتحك ما يعطي الريحة" . عانقته في تلك اللحظة وكأني ألتقي به بعد سنين من الفراق ثم قلت مع نفسي : الله !الله! والحمد لله . أخيرا انفتح باب الرزق أمامه ومن الممكن أن نقول جميعا قريبا للفقر: " الوداع" !.
وكم كنت أنا وأبي نمضي الساعات الطوال ونحن نعدد ما سيتقاضاه أخي من أموال، فكنا نعتقد أن أجرته ستكون كافية وافية، قد تكون ألفي درهم في الشهر أو أقل من ذلك بقليل . فخططنا أن نتعاون ونجمع المال قرشا قرشا إلى أن تصبح الدراهم آلافا والآلاف ملايين بعد سنوات ، وبالملايين سنتمكن من شراء منزل آخر وستكون لنا سيارة ستمكننا من زيارة الأقارب وزيارة مدنا ومناطق كثيرة نسمع عنها ولم يسبق لنا أن وطئناها بأقدامنا، وأن من تلك الملايين سيحج والديّ .
كم كنت أنا وأبي وأمي بسطاء في تفكيرنا إلى حد كبير ، كنا نرى الدنيا بعين التفاؤل ، ولم تكن تجربتنا في عالم المال والأعمال كبيرة ، كي ندرك بأن ألفي درهم شهريا أمام متطلبات الحياة لا تعني شيئا . لكن " حاتم" أخي كان متنورا وكان يدرك كل ذلك ويقول لنا ليقنعنا بأن " ألفي درهم أو أكثر من ذلك بكثير لا تساوي ثمن " سيكار ات" موظف يثقن التحايل واستغلال الإدارة. لم نكن وقتها نفهم من كلامه شيئا ، سوى أنه ربما يريد أن يتهرب من مسؤوليته نحونا ، أو أنه يريد شق طريقه وحده مع إحداهن ، تكون قد " إلْتَوتْ عليه " ونحن لا نعلم ، فتحرمنا من مساعداته التي نحن في حاجة ماسة إليها.
مرت على عمله في إحدى الإدارات خمسة عشر سنة ، فكان حاله يتحسن شيئا فشيئا، وكنا نلاحظ بعض الترف بدأ يظهر عليه، ليس ترف الأغنياء ولكن ترف الفقراء الذين بدأوا يقضون عطلتهم الأسبوعية خارج مدينتهم ، ويجلسون في المقاهى والمطاعم ، ويلبسون بأناقة أحسن.كنا لا نملك إلا الدعاء له بالفلاح، وأن يحفظه الله من كل سوء .وفعلا رَبَتْ أجرته ، وملك المال الكثير، وأصبح له الخلان العديدون من كل الطبقات الاجتماعية والمهن والحرف . فاشترى بقعة أرضية وبناها البناء العصري ، و لم يفرط في سكنانا في الحي الشعبي : الحي البرتغالي العتيق. وكان كلما اقترحنا عليه الرحيل من هذا الحي ، يبادر بالتلميح لنا أنه سيكون قريبا.
لقد أصبح لحاتم نفوذ كبير في المدينة ، وتوسعت دائرة معارفه كثيرا . وفي يوم ممطر، لم أستطيع قيادة عربيتي تحت المطر الغزير، فقررت أن أمكث بالمنزل . وبعد صلاة الظهر و بينما كنا نتناول كسكس الذرة التي كان يعشقها حاتم ، قال لي وهو ينظر إليّ مبتسما: " لبغاتك تعطيك أولدي أجلول !" ، فشككت في ملابسي ، وبدأت أتساءل في سر عمن هي التي "لبغاتك تعطيك؟؟ ، وأنا الذي لا أفكر إلا في عربيتي ، ومتيقن أن بالي لا تشغله أي امرأة بعد أمي . فقلت مع نفسي ربما كان يقصد نفسه هو ويكون قد " دبر على شي دجاجة بكامونها" و لكنه لا يريد الإفصاح عن مفاجأته . فواصلت الأكل دون أن أعير ما قال اهتماما كبيرا لأني لم أتعود التحدث إليه في أمور النساء . فكرر هذه العبارة في يوم آخر ونحن في سمر فقلت له: " بالله عليك قل من هي هذه المباركة " لبغاتك تعطيك ؟ " فقهقه حاتم وهو يضربني براحة يده على كتفي قائلا :" ذهبت بفكر بعيدا أبّا جلول! " الدنيا ألمهبول هي لبغاتك تعطيك" . قلت له لم أفهم ؟ فعقب إذا أراد الله ، وتسببت أنت ، فبمشيئته ستنجح . ما رأيك " أبّا جلول" إن شاركتُ في الانتخابات القادمة من أجل رئاسة المجلس؟ لقد أحطت بالموضوع جيدا من جميع جوانبه ، وإني سأنجح في المهمة لا ريب، فهل تساعدني ؟ بسرعة البرق تخيلت أخي " حاتم " رئيسا لمجلس مدينتنا ، وتخيلت حالنا كيف سيكون بعد فوزه، وتخيلت أنني قد أغير " العربة " بشاحنة ، وأتزوج ، وسيساعدني أخي على دراسة أبنائي كما ساعدته. فقبلت اقتراحه على التو ، وقلت له أن معي اللآلاف من سكان المدينة ، فالمدينة كلها تعرفني .
في الساعة واليوم المحددين ابتدأت الحملة ، فتجندت لها الأسرة كلها : أبي ، وأمي ، وكل المعارف والأصدقاء ، وزبنائي الكرام، وكل من كان يتردد على حاتم في الإدارة وكان يحسن إليه. وفعلا أقمنا حملة انتخابية فريدة ،ففاز أخي " حاتم " بالمقعد الأول ، وحصل بنفوذه ، وكذلك بتجربته المعمقة في الإدارة على الرئاسة ، فهنأته ، وهنأت نفسي . وبعد ثلاثة شهور تقريبا تركنا منزلنا ، العتيق ، وتحولنا للبيت الذي كان أخي قد بناه سابقا. لقد تغير كل شيء بعد ذلك بالنسبة إلينا ، فتخليت أنا عن " العربة " واشتغلت معه في عمل حر. وبعد سنة من تنصيبه أرسل حاتم أبي وأمي إلى الحج كما أنه منح رفاقه في الحملة تسهيلات في العمل ، وفوائد زيادة.
بعد عامين من ترأسه مجلس المدينة ، وبحكم تعرفه على جغرافيا الجماعة ، وتعرفه على الفلاحين الصغار المهددين بزحف المدينة على أراضيهم ، اقتنى حاتم بعض الأراضي التابعة للجماعة ثم أسس مجموعته لبناء السكن الاقتصادي ، وتحول في وقت وجيز إلى أخطبوط صغير يهابه رجال المدينة ويقدرون حضوره .في هذا الوقت بالذات ، كنت أنا قد بدأت أتحاشى المرور من الدرب القديم كي لا ألتقي بزمرة الكادحين الذين ناصروا حاتم في الانتخابات السابقة . لم يكن حاتم ولا غيره يستطيع تحقيق كل أحلامهم، لم يكن هناك حلم واحد يسهل تحقيقه وإنما كان لكل فرد طلب وحلم. لقد كان يبدو لي قبل الانتخابات أنه من الممكن تحقيق بعض المطالب لبعض الناس ، لكنني توصلت أنه لابد من معجزة لجبر الخواطر كلها ، فإمكانات المدينة لا تسمح بإرضاء كل واحد.
بعد خمس سنوات قضاها أخي " حاتم" رئيسا لجماعته ، كدس خلالها أموالا طائلة من تجارته في العقار وأشياء أخرى ، لكنه في الواقع لم ينجح في تحقيق أمال الذين انتخبوه للأسف الشديد، فالمدينة عرفت تراجعات. لقد فضل حاتم إنجاز مشاريع كبرى من قناطر ، وحدائق واسعة وتبليط لبعض الساحات العمومية فكلف كل ذلك ميزانية كبيرة ، كان من الممكن توظيفها في محاربة السكن الغير اللائق، وفي الحفاظ على نظافة المدينة، وبناء مدرسة كانت المدينة في حاجة إليها ، وجلب الكهرباء والماء الشروب لسكان الضاحية .من أجل ذلك قررت أن أتجنب الخوض معه في مغامرة أخرى انتخابية وإن اشتد عوده . لقد أدركت أخيرا أن أخي تغير ولم تعد له نفس القناعات التي كانت عنده وهو طالب. كان يريد مغربا قويا ومواطنين صالحين . لكن اليوم يظهر وكأنه ينتقم من الدولة ، وأتخيل أنه ناقم عليها . لقد جرب الحرمان والتهميش لما كان عاطلا ، ومازال يذكر أن الدولة لم تلتفت إلا بعد نضال كبير خاضه هو ورفاقه دفاعا عن حقوقهم الدستورية ، لذلك أصبح يردد بأنه هو الذي صنع مجده بعد جد وكد ، ولم يكن منصبه هدية من أحد . فالدولة هي الأخرى اليوم أصبحت محتاجة إليه – نظرا لنفوذه في محيطه - كما هو محتاج إليها . لكني أنا أرى من زاوية أخرى سلبيات ولايتيه : نسيانه لآلام صباه وشبابه وآلام الناس مرة واحدة فبات يحسب نفسه من النخبة ونسي منبت جذوره. لقد أصبح يجري وراء مصالحه فقط ، وكأن فؤاده فَسُد وأصبح لا يشعر بإساءته إلى الناس وإلى وطنه وهو يقدم احتياجاته على احتياجات منتخبيه التي لا يذكرها إلا عند اقتراب الانتخابات . لقد أصبح يؤمن بأن بالمزيد من الفرص سيحصل على المزيد من الأموال وبالتالي على المزيد من الجاه والنفوذ . الانتخابات عنده لعبة يمكن الفوز بها شريطة التحكم في حاجات السكان الذين لن يستطيعون مقاومة إغراءات الأقوياء .إنه يدرك جيدا أن المال والجاه يتحكمان في سوق الانتخابات وسيقفان كما في السابق سدا منيعا في وجه المرشحين الشباب الذين يزاحمونه.
كان آخر يوم التقيت بحاتم وهو يجري بين الشوارع والأزقة على غير عادته وبعدما نزل من برجه العاجي ليتواصل مع السكان ، الجمعة الماضي . كان يبدو عليه بعض التعب ورغم ذلك كان يكابد. فطلب مني أن أسهر على إقامة حفل غذاء على شرف أصدقاء ومعارف جدد ، فقمت بذلك . وفي المساء ، بينما الحضور كانوا يتحدثون عن المرشحين ، بادر بالقول أحد الشباب المدعوين بالقول : " على الذين أكلوا وشربوا أن يتركوا الفرصة للآخرين ولو خمس سنوات فقط وحتى تمر العاصفة ، ويوضع قطار الديمقراطية على الطريق الصحيح، فالربيع العربي في أوجه ، وإن من يتعمدون عدم فهم رسالة الشباب ، إنما يقوضون الدولة بعنادهم وتمسكهم بالسلطة ، ورفضهم لتشبيب الحقل السياسي.
لم يعقب أحد على القول ، وبدأ الجميع ينظرون إلى بعضهم البعض وكأنهم يتساءلون ،، من هذا؟ ومن أتى به إلى هنا؟ أما حاتم فانسل واتجه نحو المغسلة ، فمن مميزات حاتم أنه مؤدب و يتجنب إحراج ضيوفه . أما أنا فجمدت في مكاني أقلب عيناي يمينا ويسارا وكأني بي مس . فرسالة الشاب لم تكن مشفرة وصلت إلى صاحبها بعدما فجرها -ذلك الشاب- وسط الجميع كاللغم . في الواقع لم نكن نعرف هذا الشاب في السابق ، جاء صحبة أصدقاء أخي لأول مرة، فقدموه لنا على أنه من الفعاليات الجمعوية في العاصمة، فقبلناه بيننا.
مرت الحملة الانتخابية وهي الثالثة بالنسبة لحاتم بسلام ، لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال إذ اختار سكان المدينة شابا جديدا حائزا على دكتراه في الاقتصاد . فالمدينة تضررت بسوء الاختيارات وبالبرامج الغير الاجتماعية وأنا أعترف بذلك ، ليس لكون أخي حاتم كان ناقص المواطنة ولكنه كان محاطا بفريق عمل مريض بالمكيافيلية ، وكان لابد من تجديد الدم من أجل تحقيق تنمية واعدة ، هكذا يأمل الناخبون. فتقبل حاتم النتيجة على مضض وقرر الرحيل من مدينة الجديدة إلى مدينة " أحد اولاد افرج" لإقامة مشاريع سكنية هناك. فَصَاحَبَه أبواي ، أما أنا ففضلت الرجوع إلى الحي القديم الذي نشأت فيه ، وقررت دفع عربة الفواكه من جديد نحو الزبناء الذين ألفتهم وألفت المزاح معهم عبر شوارع المدينة. كنت مع عربتي رغم ثعب السنين سعيدا أدفعها يوميا بحثا عن الرزق الحلال ، أعيش حياة بسيطة هادئة تتميز بعلاقات طيبة مع الناس ،ففقدت تلك الحلاوة لما أصبح أخي رئيس الجماعة . وقتها كان الناس يتقربون إلي طمعا ، لكن لما علموا بأني لا أصلح في الواقع لشيء، بدأوا يكتفون بالسلام . فأخي كان يمنعني من التقرب إلى شؤونه ، وكان يقول لي :" اطلب شيئا يخصك وابتعد عما يخص الناس".
حياة حاتم هي الآخرى تغيرت رغم المال الوفير والجاه ،خصوصا لما أصبح رئيسا للمدينة لمدة ولايتين ، فلم تعد متاحة له تلك الجلسات الحميمية مع أصدقائه في مقاهي أو مطاعم وسط المدينة ، وأصبح منشغل البال ،المعاملات والمشاريع تأخذ كل وقته ، وجعلته يتوقف عن مصاحبة أبي إلى المسجد كما كان يفعل سابقا وهو طالب . لقد انغمس كليا في هموم الدنيا التي لا تنقطع. كنت أذكّره بقول الله عز وجل لعله يرحم شيئا ما نفسه " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب" صدق الله العظيم . فكان يصمت ، كان يعلم بأن كلمة الحق ليس عليها جواب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.