تاريخيا في زمن الأنوار والنهضة الأروبية،أُحدثت المدرسة العمومية من أجل دمقرطة التربية والتعليم،حسب قيم ومبادئ المساواة وتكافؤ الفرص بين كافة المواطنين في الولوج إلى الخدمات التعليمية العمومية،ومن اجل توحيد المجتمع حسب قيم واحدة ومشتركة(قيم الأنوار والنهضة). لكن ،مع مرور السنين، أصبحت بعض المجتمعات تتراجع عن المكتسبات الحقيقية للنموذج الأصلي للمدرسة: مدرسة-الأنوار،وذلك في توحيد وتقدم الفرد والمجتمعات،مما جعل وظيفة المدرسة في المساواة والتوحيد وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد موضع تراجع وشك وتساؤل. فهل مجتمعنا(دولتنا) عبرالمدرسة المغربية،يوفر ويحقق مبدأ تكافؤ الفرص أمام كل أبناء المغاربة في الاستفادة من الخدمات التعليمية الجيدة والحديثة ومن التأهيل الناجع للإندماج الإيجابي والمواطن في سلالم الرقي الاجتماعي؟ زمن الاستعمار الفرنسي للمغرب،لاحظ»المسيو هاردي»(مدير التعليم الذي أقامته الحماية الفرنسية بالمغرب) أن»سكان المغرب طوائف ثلاث:المسلمون واليهود والأروبيون،ولكل طائفة ثقافتها الخاصة وتعليمها الخاص...بالنسبة للمغاربة المسلمين يلاحظ انهم يشكلون ثلاث طبقات متمايزة:طبقة النخبة،وهي متعلمة مثقفة نسبيا وتتكون من رجال المخزن(جهاز الدولة) والعلماء وكبار التجار والأعيان.وطبقة جماهير المدن الجاهلة و المحرومة،وطبقة جماهير البادية المنعزلة المبعثرة.وبعد تحليل وضعية هذه الطبقات،يقول:وهكذا نحن ملزمون بالفصل بين تعليم خاص بالنخبة الاجتماعية،وتعليم لعموم الشعب.الاول يفتح في وجه أرستقراطية مثقفة في الجملة،...إن التعليم الذي سيقدم لأبناء هذه النخبة الاجتماعية تعليم طبقي يهدف الى تكوينها تكوينا منظما في ميادين الإدارة والتجارة،وهي الميادين التي اختص بها الاعيان المغاربة.أما النوع الثاني ،وهو التعليم الخاص بالجماهير الفقيرة والجاهلة جهلا عميقا،فيتنوع بتنوع الوسط الاقتصادي،في المدن يوجه التعليم نحو المهن اليدوية...وإلى الحرف الخاصة بالفن الأهلي.أما في البادية فيوجه نحو الفلاحة...وأما في المدن الشاطئية فسيوجه نحو الصيد البحري والملاحة.أما عن المواد العامة التي ستتخلل هذا التعليم الطبقي فهي اللغة الفرنسية التي بواسطتها»سنتمكن من ربط تلامذتنا بفرنسا» «(محمد عابد الجابري،التعليم في المغرب العربي،دار النشر المغربية،1989). من خلال ما سيق نرى أنه انطلاقا من اعتبارات طبقية وعرقية وعنصرية و مجالية عرف المغرب في عهد الحماية أنواعا غير متكافئة من المدارس: المدارس الأوربية،المدارس اليهودية،والمدارس العصرية،والمدارس البربرية الفرنسية.هذا التمايز والتمييز بين المدارس(وأنواع التعليم المُقدم فيها)،مع الأسف الديمقراطي والمواطناتي،نجده يستمر في المغرب الحديث والمعاصر(وإن كان بأشكال أخرى غير تلك التي خلقتها الفترة الاستعمارية)،حيث نجد:مدارس النخبة(مدارس البعثاث والتي يلتحق بها أبناء الأعيان والأرستقراطية المغربية والمدارس العليا،والمدارس الخصوصية...)، المدارس العمومية(مدارس الأحياء الشعبية،ومدارس الأحياء الراقية،ومدارس الوسط القروي)؛بمعنى أن أطفال المغرب لا تُقدم لهم نفس الحظوظ التعليمية،ونفس الفرص التأهيلية للمواقع والأدوار المجتمعية على سلم الحراك والرقي الاجتماعييين.و عليه،ومنذ الاستقلال،ورغم رزمانة الإصلاحات الكثيرة للتعليم المغربي،ما زال المغرب التربوي بعيدا(ولو بنسب مختلفة) عن تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية بين أبنائه، سواء من خلال تحقيق المبادئ الأربعة (خصوصا مبادئ التوحيد،التعريب،التعميم)التي أقرتها «اللجنة الملكية لإصلاح التعليم»منذ سنة 1957 ،و التي حاولت بواسطتها توحيد المغاربة عبرالمدرسة، أومن خلال تعليم جيد وحديث لكل المغاربة.فكيف ذلك؟ 1- التوحيد وتكافؤ الفرص: مبدأ توحيد التعليم يجب أن يعني أساسا إخضاع جميع أطفال المغاربة إلى تعليم موحد من حيث البرامج والمناهج والطرق والكتب والظروف التربوية،ومن حيث مواصفات التلميذ/ة المغربي والمشروع المجتمعي الواحد الذي يُبنى ويُخطط على أساسه نظام التربية والتكوين.لكن هل واقع المدرسة المغربية والسياسات التربوية المتعاقبة(منذ الاستقلال إلى الآن) عملت على تكريس مبدأ توحيد التعليم، لتكون كذلك الفرص متكافئة وموحدة أمام كل المغاربة ؟ رصد الواقع العيني للمدرسة المغربية،وبعيدا عن الخطابات والسياسات الرسمية،يجعلنا أمام مدارس متعددة(وليس مدرسة مغربية واحدة)،من حيث البرامج والمناهج والكتب ومواصفات التخرج:مدارس عمومية/مدارس خصوصية،مدارس عصرية/مدارس تقليدية دينية،مدارس التعليم العام/مدارس مهنية...إن طبيعة وخصوصية كل مدرسة من هذه المدارس تجعلنا أمام مواصفات تخرج مختلفة للأطفال المتمدرسين،وتجعل فرص وحظوظ كل واحد في هذه المدارس مختلفة على سلم الرقي الاجتماعي والدراسي والتموقع الطبقي المجتمعي ،إذ أنها تعكس موضوعيا خصوصيات وإمكانيات الانتماء الطبقي والاجتماعي والمجالي لهؤلاء الأطفال المتمدرسين،وبالتالي تُحدد مسبقا مسارهم الدراسي،ومواقعهم وأدوارهم المهنية والطبقية المتمايزة في المجتمع.إن تعدد المدارس بالمغرب هو تعدد طبقي نخبوي وايديولوجي ،وهو بذلك يضرب في العمق مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة أمام كل المغاربة . 2- التعريب وتكافؤ الفرص:هنا ندخل في صلب إشكالية السياسة اللغوية بالمغرب،ومشكلة لغات التعليم؛إن كان المغرب التعليمي بُعيد الاستقلال قد ربح نسبيا رهان تعريب التعليم(خصوصا الابتدائي والثانوي) أمام إرادة تحكم المستعمر الفرنسي في التعليم المغربي،إلا أن السياسات والإصلاحات التعليمية المتعاقبة لم تستطع ان تحسم في مسألة الاختيارات اللغوية بكيفية موضوعية وبيداغوجية،تراعي المصلحة الفضلى للمتعلمين والمصالح الحيوية للوطن.الاختيار اللغوي في التعليم يعكس في عمقه صراعا ومصالح سياسية وإيديولوجية بالدرجة الأولى،داخلية وخارجية: الفرنكفونية/القومية العربية،العربوفونية/الامازيغية،الفرنكفونية/الانجلوساكسونية....هكذا تجد المدرسة المغربية غارقة في واقع تعدد لغوي متضارب المرجعيات والقيم والايديولوجيات والمصالح:عربية،أمازيغية،فرنسية،إنجليزية...أغلب المواد الدراسية للتعليم الابتدائي والثانوي مُعربة(بالاضافة إلى المواد المستقلة لتعلم الأمازيغية والفرنسية والإنجليزية) وخاصة الرياضيات والمواد العلمية،وهنا تكمن المعضلة وضرب مبدأ تكفؤ الفرص أمام المغاربة،حيث في المرحلة الجامعية أغلب المواد العلمية مُفرنسة،مما يهدد نجاعة المسار الدراسي والمهني للمعربين.إنه لمن باب العبث وعدم المسؤلية الوطنية أن يستمر هذا التناقض والشرخ اللغوي بين التعليم الجامعي والأساسي،والذي يذهب ضحيته خاصة أبناء الفقراء والطبقة الكادحة،أبناء المدرسة العمومية المعربة أساسا.والحل ليس هو فرنسة التعليم كما يدعو إلى ذلك المدافعون على المصالح الفرانكفونية في المغرب وتحت مبررات واهية ولا علمية؛الحل هو جعل اللغة العربية لغة رسمية بالفعل،من خلال تعريب المحيط التداولي المغربي(الإداري والإعلامي والإقتصادي والعلاقات العامة...) ،و تعريب كل أسلاك التعليم وتعزيز تعلم اللغة الأجنبية الأكثر برغماتية وواقعية في عصرنا هذا:لغة العلم و الاعلاميات والتواصل الاقتصادي والتجاري والعالمي الأكثر تداولا،ألا وهي اللغة الانجليزية وليس الفرنسية التي تفرضها نخبة قليلة( قد تكون تابعة أو مستقلة) على كل المغاربة. أما مسألة تعليم اللغة الامازيغية داخل مدارسنا،فالكل يعرف انها مسألة إرضاء او توافق ايديولوجيي وسياسي بالدرجة الأولى،أكثر مما هي ضرورة بيداغوجية وبرغماتية؛ورغم أن الكل يدعي او يدعو إلى قيم المواطنة والحداثة والإنسية...إلا أن جل نخبنا(وخاصة الأمازيغية الضاغطة) لا زالت تقليدية في بنياتها العقلية العميقة،ولازالت تحمل في لاوعيها النفسي والمعرفي مخلفات الصراعات الإثنية والعنصرية القروسطية،ولم تستطع إحداث قطائع إبستيمية وتاريخية في تمثلاتها للذات والهوية ولمفهوم الصراع:الهوية ليست معطى ميتافزيقي مطلق،الهوية هي معطى تاريخي نسبي؛تحدده وتصنع معاييره وخصوصياته جماعة إنسانية ما في زمكان معين وفي نسق صراعي معين...وعليه،ونحن في القرن الواحد والعشرين،يجب أن نحدد هويتنا(أو على الأقل تجديدها) من خلال قيم الإنسية والمواطنة،وليس من خلال القيم اللغوية واللإثنية التقليدية؛ما يحدد الجوهر الوجودي للفرد هو كينونته الإنسانية أساسا،وما يحدد جوهر الجماعة الآن(وليس كما في العصور الغابرة) ،هو كونها جماعة إنسانية ووطنية؛وعليه،فهويتنا الفردية والجماعية يجب أن تتحدد أساسا من خلال قيم المواطنة والإنسية،وصراعنا المشترك كمواطنين(هنا والآن) هو صراع من أجل حقوق المواطنة والإنسان،ومن اجل الديمقراطية والعدل والكرامة والتوزيع العادل لثروات البلاد ومحاربة التمييز الطبقي والمجالي ،ومن أجل التنمية والتقدم والحداثة... إن تدريس اللغة الأمازيغية(المعيارية) في مدارسنا المغربية هو نوع من هدر الوقت والجهد والمال (أرجو ألا أُفهم خطأ أنني ضد الأمازيغية لأني أحترمها وأفتخر بها كمغربي):اولا الامازيغية المُدرسة هي معيارية لا تساعد على التواصل الناجع مع اللغات الامازيغية الطبيعية،فمع من سيتواصل”أمازغيو المدارس” بلغتهم المعيارية هذه؟وهل ستفيدهم هذه اللغة في مسارهم الدراسي والمهني؟هل هي لغة العلم؟هل هي لغة الإعلاميات؟هل هي لغة التجارة والاقتصاد والتواصل الإقليمي والعالمي؟بل هل هي لغة المحيط المغربي نفسه؟ لنكن،صرحاء وموضوعيين،وبعيدا عن النفاق السياسي والديماغوجية الإيديولوجية،نعم لتدرييس الثقافة والحضارة الامازيغية بمدارسنا،كإرث إنساني ووطني لتاريخنا المغربي المشترك،وذلك لمعرفتها والاعتزاز بها كمكون من مكونات ذاتنا الثقافية،إما كلغة ،فيمكن تدريسها كتخصص في السلك الجامعي،وذلك لأهداف وظيفية وعملية(للبحث العلمي في اللغات والثقافة الامازيغية،أو من أجل الترجمة لضرورات عملية في الإدارات والقضاء...لمساعدة من لا يتكلمون العربية او الدارجة العربية تواصليا).لكن يجب تدريس اللغات الأمازيغية الطبيعية نفسها: تشلحيت ،تسوسيت،ترفيت لتكون لها وظيفية تواصلية واقعية وعلمية حقيقية. كذلك يجب القطع مع تدريس اللغة الفرنسية في مدارسنا المغربية،وذلك ليس فقط لأن تدريس اللغة الفرنسية هو تقليد استعماري وتبعي لازال قائما في تعليمنا،يجب القطع معه نفسيا على الأقل(وقد كانت لهذه اللغة سابقا ادوار إيجابية لا تنكر في تحديث المجتمع المغربي،هذه حقيقة تاريخية)،بل لأنها لم تعد اللغة الوظيفية المناسبة في عصرنا هذا. إن تكافؤ الفرص اللغوي بين أبناء المغاربة،وبعيدا عن أي نزوعات تعصبية،وباعتماد منطق براغماتي ووطني صرف،يقتضي توحيد لغة التعلم من الابتدائي إلى الجامعي،وذلك من خلال تعريب كل أسلاك التعليم،وتعلم الانجليزية كلغة عالمية تفرض نفسها كلغة للعلم والاعلامايات والتواصل والاقتصاد... 3- التعميم وتكافؤ الفرص:أظن أن التعليم المغربي حقق نتائج جد مهمة منذ الاستقلال إلى الآن في تعميم التعليم بين أبناء المغرب من الجنسين، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في الولوج إلى الخدمات التعليمية.فحاليا،حسب ماصرحت به وزارة التربية الوطنية مؤخرا في بلاغها الصحافي مع بداية الموسم الدراسي الحالي(2011/2012) وصل مؤشر التعميم بالابتدائي (6-11سنة)إلى97.50%وبالثانوي الإعدادي(12-14سنة) إلى 79.1%.هذه النتائج الكمية جد إيجابية .لكن هل تكافؤ الفرص هنا يكمن فقط في الولوج إلى التعليم؟ أظن أن الاهتمام الكمي فقط بتوسيع تكافؤ الفرص في الولوج إلى التعليم،دون الاهتمام بجودة وتحديث العرض والخدمات التربوية،يجعل مبدأ تكافؤ الفرص في مهب الريح؛حيث نجد تدني وضعف الخدمات التربوية(الإطعام،الإيواء،المنح،النقل،الصحة،الدعم الاجتماعي والنفسي والبيداغوجي،ذوي الاحتياجات الخاصة)،تردي وعدم كفاية وتحديث جل البنيات والتجهيزات التربوية،عدم كفاية وتأهيل الموارد البشرية، عدم جودة وفعالية الطرق والبرامج والكتب المدرسية(طغيان الكم والتقليد على حساب الكيف والتحديث)،ظروف مهنية غير سليمة(الاكتظاظ،الأقسام المشتركة،عدم الاستقرار والرضى المهني....). ورغم الميزانيات الضخمة التي خصصت للإصلاح التعليمي الأخير(الميثاق والبرنامج الاستعجالي)،فإن نظامنا التعليمي مازال يعاني من مشاكله الهيكلية والتاريخية(مما يتطلب إجراء افتحاص مسؤول حول مدى صدقية ونجاعة صرف ميزانية التعليم في تحقيق الأهداف المسطرة في البرنامج الاستعجالي على الأقل).وبعد ان حققنا أرقاما مهمة في مسألة التعميم الكمي لولوج التعليم،فإننا لازلنا نراوح مكاننا في مسألة تعميم الجودة والتحديث على مختلف مدارس المملكة،التي تعرف تدهورا وتمايزات في خدماتها وبنياتها وتجهيزاتها التربوية،بين مدارس المجال الحضري والقروي،وبين مدارس الأحياء الراقية والشعبية،مخلفة وراءها ضحايا الهدر المدرسي،والفشل الدراسي،وتدني المستوى والنتائج...مما يجعل مبدأ تكافؤ الفرص موضع شك ومساءلة رغم مجهودات التعميم وصرف الميزانيات الضخمة. في الأخير، يمكن القول إن مسألة تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء المغاربة جميعا ليس مسألة تقنية وخطابية ليس إلا،إنها مسألة تتعلق بالتجسيد الواقعي والعيني لمشروع مجتمع وإنسان مغربيين، يقوم على قيم حقوق الإنسان و المواطنة الموحدة،وقيم المساواة والعدل واحترام الكينونة الإنسانية والتعايش السلمي،وحق الجميع في المعرفة وكرامة العيش، حق الجميع في وطن واحد وموحد،وفي وطن نام ومتقدم ،يصنع خيراته الجميع،ويستفيد منها الجميع على قدم المساواة،وبدون تمييزلغوي او إثني اوطبقي...ذلك هو الوطن والإنسان الذي نريد أن تصنعه وتبدعه لنا مدرستنا المغربية.هذه المدرسة التي نريدها كذلك،مدرسة دينامية وحداثية،مدرسة صانعة للمستقبل،وليست مدرسة صانعة ومجترة للنسخ التقليدية للمعرفة والقيم والصراعات،مدرسة تنحاز للعلم وللإنسية والمواطنة أولا وأخيرا. *باحث تربوي