تاريخيا ظهرت المدرسة العمومية، كمؤسسة اجتماعية، لتجسيد التضامن الوطني، والعمل على توحيد المجتمع وضمان استمرار يته من خلال اعتماد توجهات معرفية وقيمية وثقافية تؤسس وتبني الوعي الوطني والجماعي المشترك،وتعمل على تقدم ونهضة بالوطن والرقي به حضاريا .وعليه فإن المدرسة العمومية ارتبطت، وترتبط، وظيفتها الأساسية بالتضامن الوطني،القيام بمهام التثقيف والتوعية والتأهيل والإدماج، دمقرطة المعرفة، تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين للولوج إلى المؤسسات التربوية والتخرج منها مؤهلين للاندماج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والقيمي في المجتمع. "" لكن المتتبع لواقع مدرستنا العمومية المغربية يمكنه أن يلاحظ عدة اختلالات بنيوية ووظيفية تهدد وجودها الفعلي: فعلى المستوى البشري، نلاحظ التقليص المستمر للمناصب المالية، مما يترك خصصا كبيرا في الموارد البشرية ينتج عنه عدة اختلالات( كثرة المهام و الأعباء، وجود تلاميذ بدون مدرسين، الاكتظاظ، تناسل الأقسام المشتركة، إعادة الانتشار المفبرك...)تفاقم المعاناة الاجتماعية والإدارية والمهنية للهيأة التربوية( هزالة الأجرة والتعويضات أمام الارتفاعات الصاروخية والمتتالية للأسعار،غياب عدالة الأجور، والتمييز بين الموظفين في القطاعات الوزارية، شبه غياب للشروط المهنية والبيداغوجية والاجتماعية المساعدة على العمل الفعال والمريح ، شبه غياب للدعم الاجتماعي والبداغوجي الكافي للمتعلمين( هزالة وقلة المنح، ضعف خدمات الإطعام والإيواء، بعد المدرسة عن سكن التلاميذ، غياب خدمات الدعم النفسي والاجتماعي، قلة المكتبات، عدم التوفر الكافي لمرافق الأنشطة الموازية وأنشطة التفتح...).وعلى المستوى التنظيمي والإداري، نلاحظ ضعف الاعتمادات المالية المخصصة للتسيير والتجهيز، ضعف الوسائل اللوجستيكية المساعدة على العمل في ظرف جيدة وبكيفية فعالة وسريعة. وعلى مستوى البنيات التحتية، يمكننا أن نلمس ميدانيا عدم كفاية وجودة بنايات المؤسسات التربوية والإدارية، تعرض مجموعة كبيرة من البنايات إلى التخريب و الإهمال،عدم العناية بجمالية الفضاءات ، الافتقار إلى المرافق الصحية والتثقيفية والرياضية،بل عدم وجود حتى الكهرباء والماء خصوصا في العلم القروي، بالاضافة إ لى غياب التجهيزات الحديثة، وقلة السكن الوظيفي...أما على المستوى البيداغوجي، نلاحظ الارتباك الحاصل في تطبيق الإصلاح البيداغوجي الجديد المعتمد على مدخل الكفايات والتربية عل القيم، وذلك بعدم مواكبته تكوينبيا وتاهيليا، وتوفير أشكال الدعم التقنية والمادية والبشرية والبيداغوجية الحديثة، مع المخلفات السلبية للتوظيف السيئ لتعددية الكتاب المدرسي، بحيث تعمل بعض اللوبيات على إفراغه من أهدافه البيداغوجية والزج به في سوق المضاربات التجارية ، دون مراعاة القدرة الشرائية للآباء والأطر التربوية ،وللأهداف البيداغوجية الحقيقية التي كانت من وراء تبني تعدد الكتب المدرسية! كل المعطيات السالفة وغيرها تنعكس سلبا على المر دودية الداخلية والخارجيةللمدرسة العمومية المغربية، حيث يتفاقم الهدروالانقطاعات الدراسية والفشل الدراسي، وضعف المستوى، والنفور المهني، وضعف المر دودية والفعالية المهنية للمدرسة العمومية...كل ذلك يهدد حاضر ومستقبل المدرسة العمومية،ويعرض وظيفتها المجتمعية في التنمية البشرية وفي التضامن الوطني لإقرار المساواة وتكافؤ الفرص أمام المواطنين في المعرفة والتربيةوالاندماج الإيجابي في عالم الشغل والمجتمع عامة ،وبالتالي في العيش الكريم. نعم، إننا نقر ببعض المجهودات الرسمية المبذولة مؤخرا ،والتي تسعى إلى تأهيل المدرسةالعمومية، وبان رصدنا للاختلالات السالفة لا يمكن تعميمها بالمطلق على كل مدارسنا العمومية، لكن أمام التراكم الكبير للحاجيات والاختلالات القائمة والجديدة والمستقبلية، والتدخلات القليلة وغير الفعالة، فإنه يحق لنا ان نقلق و أن نتساءل حول مستقبل المدرسة العمومية، التي تغرق يوميا في الاختلالات السابقة. و يزداد التساؤل إلحاحية أمام ما يلوح في الأفق من عدم قدرة الدولة على تحمل أعباء التعميم المادية والبشرية، والضرب التدريجي لمبدإ المجانية، والارتفاع التدريجي لتكلفة المدرسة "المجانية" أصلا ،والتشجيع المتصاعد للتعليم الخصوصي ومدارس النخبة(الاتفاق الإطار الأخير المبرم بين الدولة وممثلي المدارس الخصوصية الذي بموجبه استفاد التعليم الخصوصي من عدة امتيازات وهدايا ضريبية وجمركية وعقارية وبنكية و بيداغوجية... وذلك على حساب المال العام،تشويه صورة المدرسة العمومية إعلاميا،والترويج المجاني لصورة مشرقة للتعليم الخصوصي) و كل ذلك بالطبع على حساب تاهيل و جودة وجاذبية المدرسة العمومية(؟!) إن حماية وتقوية المدرسة العمومية هي مسؤولية وطنية بالدرجة الأولى، على عاتق كل مواطن غيور على مستقبل وطنه، ويؤمن بحقوق المواطنة والإنسان؛ وبقيم المساواة وتكافؤ الفرص ومقت الطبقية والتمييز الاجتماعي . غالبية شعبنا لا زالت ترزح تحت وطأة الفقر والأمية والجهل والتخلف الحضاري، بالمقارنة مع المجتمعات الغربية التي نسعى دائما إلى استنساخ نماذجها حرفيا دون مراعاة الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع المغربي. النموذج الرأسمالي الغربي في مفهوم الدولة والمؤسسات المجتمعية ،وفي التدبير الليبيرالي التسليعي (الخوصصة،وفردنة الخدمات المجتمعية...) هو نموذج لا يصلح مطلقا لطبيعة مجتمعنا الذي نصفه امي واغلبه فقير (20 في المائة فقط هم من يستفيدون من ثروات البلاد حسب إحصاء أخير أورده الدكتور المهدي المنجرة)،إنه يجب أن نكون مثل هذه المجتمعات الغربية في خصوصياتها التاريخية والثقافية والسياسية والاقتصادية...لكي نتمكن من استنبات نماذجها المجتمعية والتدبيرية حرفيا. إننا لازلنا في حاجة إلى مدرسة عمومية قوية وطنية ومواطنة ،وإلى الخدمات العمومية لدولة قوية ومتضامنة ومواطنة،وإلا فلننتظر المزيد من الكوارث المجتمعية في زمن عالمي يسيرحضاريا بسرعة الضوء، عالم شرس لا يرحم الضعفاء والمتخلفين والجهلاء.