الوسيط يعلن نجاح الوساطة في حل أزمة طلبة الطب والصيدلة    وزير خارجية سانت لوسيا يشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة مخطط الحكم الذاتي    منظمات أمازيغية تراسل رئيس الجمهورية الفرنسية حول استثناء تعليم اللغة الأمازيغية    قيود الاتحاد الأوروبي على تحويلات الأموال.. هل تُعرقل تحويلات المغاربة في الخارج؟    أكديطال تتجه لتشييد مصحة حديثة بالحسيمة لتقريب الرعاية الصحية    مدافع الوداد جمال حركاس: تمثيل "أسود الأطلس" حلم تحقق        توقعات أحوال الطقس ليوم السبت    هكذا علق زياش على اشتباكات أمستردام عقب مباراة أياكس ومكابي تل أبيب    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"        بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيمياء الكون ليوري روتمان: نحو إبدال جديد في علوم الثقافة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 10 - 2011

الصورة المكانية للعالم التي خلقتها الثقافة تحتوي على مستويات متعددة:إنها تدمج في ذات الوقت الكون الميثولوجي والنمذجة العلمية والمعنى اليومي «الملائم».كل شخص مكون بشكل طبيعي يمتلك هذه المستويات.سيمياء الكون(ص:218).
يشكل كتاب «سيمياء الكون»1 حدثا معرفيا وعلميا،سواء من حيث الأسس الابستمولوجية الناظمة لتصوراته،أو من حيث القوة المختبرية لنماذجه الإجرائية لتحليل التفاعلات بين الأنساق الثقافية،فما هي نقط الإرساء في المشروع اللوتماني؟ ماهو السياق الابستمولوجي لتبلور سيمياء الكون؟
1- الكون اللوتماني والبيان السيميائي لمدرسة موسكو-تارتو.
يتلخص مشروع لوتمان في الدراسة السيميائية لديناميات التعقيد في الظاهرة الثقافية، ويتسم إبستمولوجيا بالخصائص الأساسية الآتية:
* التكامل المعرفي (الرياضيات، النظرية المعلوماتية، السبرنطيقا، المنطق الصوري، اللسانيات...والسيميائيات)
* ربط الجسور بين العلوم الإنسانية والعلوم الحقة.
* التأسيس لمفهوم النسق المنمذج(modeling system) باعتباره أساس التحليل السيميائي للثقافات.
* البحث في تكون وتطور وتنميط الثقافات.
تشكل «الأطروحات» و»الآلية السميوطيقية» البيان السيميائي لمدرسة موسكو-تارتو2، والتأطير القاعدي لبرنامج البحث، ويمكن المسح المفاهيمي من إبراز أهم مباحثها:
* كل نسق ثقافي متفرد التنظيم، وكل تنظيم يعد سميائيا في جوهره لأنه مشكل من العلامات.
* كل مجال ثقافي يفترض مجاله اللاثقافي، فهو يحتاج إلى ضده، النظام لايوجد إلا بوجود الفوضى، بل يخلقها.
* الثقافة كل معقد يقوم على آليات ذاتية للبناء، وتعد اللغة الطبيعية الجهاز الأرقى فيها.
* الثقافة ذاكرة غير موروثة للجماعة، وتلتحم فيها الممارسات الفردية والممارسات الجماعية. فالبناء السميوطيقي للثقافة نسق من القواعد السيميائية التي تتحول بها خبرة الحياة اليومية إلى نموذج.
* الثقافة سيرورة مزدوجة: سيرورة نصية-معرفية قائمة على تدرج أنساق القيم للذاكرة الجمعية، وسيرورة تسنينية (نشفيرية) تتعلق بالدينامية الداخلية للنسق.
* الثقافة نص، وكل نص لايعزز عملية التذكر فحسب، ولكن يعزز عملية النسيان أيضا، فالنسيان آلية مزدوجة لاشتغال الثقافة: إغفال نصوص(تخريب الذاكرة )أو إحياء نصوص أخرى(اشتغال الذاكرة).
* ترتبط دينامية النسق الثقافي بدينامية المجتمع البشري، فالحياة دينامية، من ثم، الدينامية خاصية مستغرقة في الثقافة.
* الثقافة تفرض الوحدة وتطلبها، إن على الثقافة، كي تنجز وظيفتها الاجتماعية،أن تتبدى بنية خاضعة لأسس موحدة، لايمكن لأي مكون مستقل أن ينجز وظيفته بشكل مستقل حتى وإن كان مكونا عضويا بالمعنى البيوثقافي. قد تكون هناك سلمية في مستويات التكون الشكلي للثقافة، ولكن اشتغالها يفترض الوحدة.
* يخضع النسق الثقافي لتوتر بين الفضاء الداخلي (المغلق) والفضاء الخارجي(المفتوح)، بين فضاء «النحن» المنظم، والفضاء غير المنظم والمستوعب ثقافيا، هناك دائما محاولة استيلاء الداخل على الخارج.
* النص المتصل (الأنساق البصرية- السمعية...) أولي بالمقارنة مع العلامات، وهناك توتر دائم بين النص المتصل والنص المنفصل، وهو لا ينفي تعايشهما داخل النسق الثقافي رغم هيمنة أحدهما على الآخر في مرحلة معنية، ويعد آلية لتنشيط الثقافة.
* اللانص هو ما تستطيع الثقافة حفظه، والنص النقيض هو النص الذي تسعى الثقافة إلى تدميره.
* البحث العلمي ليس مجرد أداة لدراسة الثقافة ولكنه أيضا جزء من موضوعها.
إننا نسعى من خلال المسح المفاهيمي للبيان السيميائي إلى التعقب الإبستمولوجي لإرهاصات تكون مفهوم سيمياء الكون، فماهي إحداثيات هذا التجذير؟
يتأسس النسق السيميائي على العلاقات بين العلامات وليس على العلامة المفردة، بمعنى ما، فضاء سميائي معقد تتفاعل فيه المعارف والظواهر؛ فخلافا للسميائيات الباريسية الكلاسيكية التي حددت مجال البحث السيميائي في الخطاب، فإن السيميائيات اللوتمانية اقترحت مفهوم النص، ليس بالمعنى المتداول في علوم اللغة والخطاب، أو بالنظر إلى وظيفته التواصلية، ولكن باعتباره جهازا لتحويل الرسائل وإعادة إنتاجها وفق التنظيم السلمي للقيم الثقافية، فهو مشكل من طبقات غير متجانسة، وله القدرة على ربط علاقات معقدة مع السياق الثقافي والفاعلين الثقافيين، فهو مرتبط بالفاعلية الذهنية والذاكرة الثقافية، من ثم، فالتحولات النصية تعكس تحولات الوضع السيميائي في مجموعه: إن النص سيرورة وليس بنية.
إن الوظيفة الأساسية للثقافة هي التنظيم المبنين للعالم المحيط بالكائن البشري، إنها مولدة لبنيات ذات تنظيم ذاتي(نصية وتشفيرية)، تشكل حول الانسان كونا (sphere)(الجذر اللغوي لكلمة «كون» في اللغة الروسية يحتمل تقاطع دلالات فضائية لاتجتمع في المقابلات اللغوية،ويعد هذا الاختيار من طرف لوتمان منهجيا) سميائيا وفق معطيات الذاكرة الجماعية،وتجعل الحياة ممكنة خارج بعدها البيولوجي، إذن، فأفراد جماعة بشرية ما، داخل نسق ثقافي محدد، يمتلكون خطاطة للعالم، بنية علاقات تربطهم بالمحيط المصاغ سيميائيا، تشكل اللغة الجهاز التنميطي والمنمذج الأقوى فيها .
إن اللغة باعتبارها نواة تعد مركز النسق الثقافي وآلية تنظيمه، ومصدر البنية السلمية، وتعمل على المأسسة النصية من خلال آلية للنسيان، وبنينة العالم المدرك، وتمكين الوسائل السيميائية من فعل الترجمة والتواصل بين النصوص، وتعمل من خلال قدرتها المنمذجة على تحقيق الفهم الذاتي والوصف الذاتي، المؤثرين في اشتغال النسق، هذا لا يعني أن الثقافة تتشكل من لغة واحدة، إنها مجموعة من اللغات، ويعد التعدد اللغوي من الناحية النظرية، من أهم سمات التعقيد في الثقافة ،وهو ما يجعل من الترجمة آلية بنيوية لتنشيطه من جهة، ومن التسنين آلية لخلق التواصل بين مكونات النسق من جهة أخرى، الترجمة تضمن استمرارية النسق، لكن يجب التشديد على أن الآثار والنصوص الثقافية ليست هي الثقافة، بل التمظهر المادي للنموذج الثقافي.
2- سيمياء الكون : آليات الاشتغال.
يعتبر لوتمان أن اجتراح مفهوم سيمياء الكون(semiosphere) نتيجة لتمثل مفهوم الكون الحيوي(biosphere) . لفرنادسكي(Vernadsky)، ويتحدد باعتباره الفضاء الضروري لوجود واشتغال لغات مختلفة، وليس مجموعة من اللغات، إنه فضاء قبلي، سابق عن اللغات(ص:15)، وتشكل الإثنانية واللاتناظر قانونين يضمنان انسجامه النسقي(ص:16).
سيمياء الكون - يفترض لوتمان- نتيجة وشرط للتطور الثقافي، فإذا كان الكون الحيوي هو الكل العضوي للمادة الحية، وعلى الأخص الشرط الضروري لدوام الحياة، فإنه يتسم بلا تجانس عناصره، حيث يتمفصل الكل إلى كائنات حية غير متجانسة، وبالتناسب لاتجانس اللغات داخل الكون السيميائي، وينتج عن اللاتجانس الصياغات الآتية:
* العلاقة بين عناصر الكون دينامية،
* بنية الكون السيميائي غير تماثلية، وصراعية.
* كلية الكون السيميائي مولدة للمعلومات.
* الترجمة آلية الوعي الأولي بين عناصر النسق (لغات النسق).
* التدوين، تسنين العادات والقوانين، جزء من عمليات الوصف الذاتي التي تؤدي إلى تشييد نحو للثقافة، إلى تنظيم بنيوي(ص:27).
* اللغات الأكثر تطورا والمنظمة بنيويا تحتل مركز سيمياء الكون ، بينما الأقل تنظيما تستحوذ على الهامش.
إن جوهر التكون الشكلي لسيمياء الكون هو مفهوم الحد، حيث تبرز الأبعاد النظرية للصياغات السالفة، والمضامين الإبستمولوجية لقانوني الاثنانية واللاتناظر، فالحد آلية أولية يشغلها الوصف الذاتي للنسق من أجل تحقيق تفرده السيميائي، إنه المنتهى الخارجي لشكل مرتبط بالضمير الشخصي: فضاء «النحن» المنظم والثقافي في مقابل فضاء الآخر الخطير، والفوضوي، إن كل ثقافة تتأسس مبدئيا على تجزيء العالم إلى فضاء داخلي للأنا وفضاء خارجي للغير، ويخضع هذا التقسيم الثنائي لطبيعة التنميط في الثقافة المعنية، وكل تنميط محلي مستغرق في تنميط كوني توجبه الكليات الإنسانية، أي المقولات (الحياة/ الموت، اليمين/ اليسار، الأعلى/ الأسفل...)، لكن، هل الحد، باعتباره فضاء فاصلا بين الداخل والخارج يتسم بالحيادية أم أنه جزء من تداخل فضاءات «النحن» و»الآخرين»؟
الحد السيميائي مزدوج ، من جهة يجزئ ، من خلال قانون الاثنانية ، ومن جهة أخرى، وبالنظر إلى أنه ينتمي لثقافتين،فهو يوحد بين الداخل والخارج عبر آلية الترجمة، إنه مزدوج اللغة، وهو ما يجعل من الهامش مجالا للدينامية والتوتر وإبداعية الجديد(ص:49).كيف، إذن، ينحل التوتر بين الأكوان السيميائية(أفقيا وعموديا) إلى فعل للترجمة؟
الفعل الأولي للتفكير هو الترجمة، والآلية الأولية للترجمة هي الحوار(ص:63)،والحوار يفترض الاختلاف(غير المطلق) واللاتماثل: إنها السيرورة الدينامية للترجمة، ذلك أن وظيفة الحد مراقبة وتصفية وتكييف ماهو خارجي مع ماهو داخلي. وتتحقق هذه الوظيفة بطرق مختلفة وعلى مستويات مختلفة، حيث تمكن الترجمة من بنينة الفضاء الخارجي، فالثقافة لا تخلق نمط تنظيمها النوعي الداخلي فقط، بل أيضا نمط لاتنظيمها الخارجي، إنها تخلق البربرية، فهناك دوما حاجة متبادلة بين النظام والفوضى، من ثم، يعد الحد الأقصى للكون السيميائي مجالا لحوار مستمر، غير أنه حد مشروط بخاصيتين مؤطرتين:
* بالنظر إلى اشتغال الثنائيات على تنميط مقولي للكليات الإنسانية، فهو حد مجرد وليس مادي.
* ويستتبع ذلك أن الفضاء في سيمياء الكون فضاء مجرد قائم على النمذجة الفضائية التي تعيد بناء الشكل الفضائي للعالم الواقعي، ويعتبر فهم الفضاء الجغرافي من الوسائل التي يعمل الذهن من خلالها على نمذجة الفضاء. لهذا، بوأ لوتمان سيميائيات الفضاء أهمية استثنائية، بل حاسمة لتمثيل العالم الخاص لثقافة ما(ص:81)، فالإنسانية، بانغماسها الدائم في فضاء ثقافي، تخلق دائما حول نفسها كونا فضائيا منظما.
إن تطور ثقافة ما يعد دوريا،وهو نفس الأمر بالنسبة لأغلبية السيرورات الدينامية الطبيعية (ص:65)(نشير مشددين على التناص الابستمولوجي بين لوتمان والنظريات المورفودينامية:روني طوم،بتيتو،براندت)،وقد قدم لوتمان صورنة للتوترات التلفظية-المعرفية بين الثقافات (ص:72-74) من خلال مختبر إجرائي شمل الحدود البنيوية في العوالم السردية (مشكل الحبكة)،والفضاءات الرمزية (الفضاء الجغرافي في النصوص أثناء العصور الوسطى،سفر إليس في الكوميديا الإلهية لدانتي،المسكن في السيد وماركوريت لبولكاكوف،ومدينة بترسبورغ).
إن عبور الحدود البنيوية للفضاء الثقافي-يوضح لوتمان أبعاد التوترات السالفة سرديا- يعد خرقا،والخرق فعلا،وسلسلة الأفعال تكون ما نصطلح عليه بالحبكة(ص:86)،بتطوير هذه الملاحظة،فإن القارئ يولي أهمية كبيرة للتنبؤ وهو يرتكز إلى تجربته الخاصة،ويبني التطور الأكثر احتمالا للحبكة (ص:113)(يمكن المقايسة مع تصورات امبرتو ايكو حول النموذج التعاوني في القراءة وبناء السيناريوهات،دون أن نغفل التكوين الأصيل للوتمان في العلوم المعرفية)،فمن خلال خلق نصوص ذات حبكة،استطاعت البشرية أن تتعلم تمييز الحبكات التي تعد أساسية في الحياة،أي إعطاء معنى للحياة (ص:126)(نذكر بأهمية عبارة «معنى الحياة» في مشروع كريماص،كما أن المخرج الاستوني للفيلم الوثائقي حول لوتمان والحائز على جوائز متعددة استهله بسؤال للوتمان:مامعنى الحياة؟).ويمكن أن نستعين بالخبيرين السيميائيين جاك فونتاني وكلود زيلباربارغ لصياغة مجملة لصورنة لوتمان.
يتشكل سيمياء الكون من مركز وهامش، فالمركز تحتله مجموعة من الصنافات الثقافية، حيث كل صنافة تحتوي أشكال حياة منمطة ومحققة لسيميائيات مصغرة داخل فضاء سيميائي أكبر، أما الهامش فهو مجال الحوار مع الثقافات الأخرى، ملاقي أشكال حياة غير منمطة، ويعمل على تعديل وتنقيح الكون السيميائي وفق آليات الرفض والتكيف(إن ما قدمه الأستاذ محمد مفتاح حول المثاقفة في «مشكاة المفاهيم» يتطابق إلى حد بعيد مع صورنة لوتمان)، وتخضع العلاقات بين المركز والهامش لتركيب (syntaxe)يتمرحل إلى:المواءمة وتتعلق بالمركز،والارتقاء /الانحطاط ويهمان الهامش.
يحدد التركيب أعلاه خصائص سيمياء الكون ، فالموائمة تحقق التمركز حول النحن (الثقافة، التناغم، كل ما ينتمي إلى داخل النسق) من جهة، وإقصاء «الآخرين»(البرابرة، الغرباء، الفوضى)،كل ماينتمي إلى خارج النسق من جهة أخرى. أما الارتقاء والانحطاط فيعكسان تحولات دينامية بين المركز والهامش، بين الداخل والخارج، فالخاصية الأولى تؤشر على أن سيمياء الكون مسيج بحدود ، بينما الخاصية الثانية تبرز التفاعل بين المركز والهامش، بين الداخل والخارج من خلال عمليات الترجمة، سيرورة بث الأشكال، وآليات تحويل المؤثرات الخارجية، مما يؤدي إلى تجانس المستويات (المقولية والوجودية) وتحقيق الانسجام الشمولي داخل سيمياء الكون ، فما هي سمات الدينامية المنبثقة عن أنماط الترجمة /النقل بين الداخل والخارج؟
يصنف فونتاني وزيلبربارغ أنماط النقل إلى أربعة أزمنة: 3
أ-الإسهام الخارجي باعتباره متفردا ومدهشا وفق قيم قانون اجتماع الضدين:
- قيم إيجابية: عنصر الدهشة.
- قيم سلبية: بالنظر إلى القوة التدميرية أو التميزية للخارج في مقابل الثقافة المستقبلة.
ب- الإسهام الخارجي يتم تقليده، إعادة إنتاجه، ونقله عبر مصطلحات «الخصوصية» و»النحن»، مما يسمح ببثه وإدماجه داخل الحقل الداخلي حيث يفقد خاصياته الخارجية(المدهش، الغريب).
ج- الإسهام الخارجي يتم نزع خاصيات تكوينه الأصلية، والعمل على إخفاء خاصياته الخارجية من أجل بصمه بشكل آخر يحقق وجوده داخل الثقافة المستقبلة ويمكن من إدماجه فيها.
د-الإسهام الخارجي تتم صياغته وفق معيار الكوني، يشمل الداخل والخارج معا، باعتباره نموذجا.
أثار التحديد السالف إشكالين، يتعلق الأول بإبراز الحدود العلمية في التناسب بين سيمياء الكون والكون الحيوي بالنظر إلى متغير الكون الذهني(noosphere)4، ويخص الثاني تدقيق المجال النسقي لسيمياء الكون؛ هل يرتبط بسيرورة دينامية للحد أم يتميز باستقلالية نوعية؟ هل الحد جزء من إجراءات النسق ام آلية لتكونه الشكلي؟
يقوم التحديد الذي أعاد سبكه لوتمان على فرضية أولية: الكون السيميائي متصل5، لماذا؟ لأنه يرتبط بفضاء مجرد، فضاء استعاري، من ثم، لاوجود لأي تشويش مفاهيمي بين سيمياء الكون والكون الذهني، فهذا الأخير فضاء مادي، ويشكل مرحلة من تطور الكون الحيوي تتميز ببروز الفعالية العقلية للإنسان، بينما المتصل كون خاص في الذهن، يمتلك علامات تحدد فضاء، ويمكن من تحقق سيرورة تواصلية وإبداع معلومات جديدة.
إن توضيح لوتمان لم يكن كافيا من الناحية الإبستمولوجية، فإن كان فرناندسكي يعتبر مرحلة الكون الذهني حاسمة في تطور الكون الحيوي، بل ضرورية، كيف يمكن، إذن، عبر صيغة نظرية واصفة تمثل الكون الحيوي في بناء مفهوم سيمياء الكون دون إعطاء الأولوية لأهم مرحلة في تكونه؟
إذا كان الفضاء في الكون السيميائي مجردا، فان الحدود هي الأخرى لاترى بالعين المجردة، ففي الرياضيات يتم تمثيل الحد من خلال متعدد من النقط ينتمي في الآن ذاته إلى الفضاء الداخلي والفضاء الخارجي، وهو ما يتناسب مع الحد السيميائي؛ حيث يتم تمثيله من خلال مصافي للترجمة مزدوجة الشفرة، تعمل على ترجمة اللغات الخارجية إلى الداخل واللغات الداخلية إلى الخارج.
3 ?سيمياء الكون:
الأسس العلمية.
يتعالق سيمياء الكون تصوريا مع شبكة من المفاهيم،وهو ما أدى إلى استثمار تحديدي متعدد، منه على سبيل الاستشكال :
* سيمياء الكون صيغة للتحليل الشمولي للأنساق الثقافية،
* سيمياء الكون إضاءة للمبادئ البنيوية للسميوزيس،
* سيمياء الكون انتقال من التحليل الثابت إلى الدينامي، ومحاولة لفهم التعالق بين الشمولية واللاتجانس،
* سيمياء الكون فضاء لتوليد المعنى،
* سيمياء الكون والكون الحيوي يمتلكان قابلية التوليف المفهومي، فالثقافة سيرورة وليست بنية6.
إن التمفصل المزدوج لسيمياء الكون باعتباره موضوعا (الكل الثقافي) من جهة، وبالنظر إلى كونه مفهوما واصفا (إجراءات تحليل الأنساق الثقافية) من جهة أخرى، خلق تشويشا تحديديا، فهل الأمر يتعلق بمفارقة؟ انه على العكس من ذلك، يعد حوارا نظريا داخليا بين المنهج والموضوع.
إن هذا التشديد لا يكتمل إلا من خلال تدقيق الأصول العلمية لمفهوم لسيمياء الكون ، أي ماهي المسوغات النظرية التي مكنت من نقل مفهوم من الجيوكمياء الحيوية (biogeochemistry) إلى السيميائيات؟ وكيف تم هذا الانتقال المفهومي؟
تعتبر البحاثة كاي كوتوف (kotov) أن سيمياء الكون تم استلهامه من نظريتين كيميائيين : الجيو كيمياء الحيوية لفرنادسكي ونظرية البنيات المتبددة (theory of dissipative structures)لبريجورين وستنجرز، وذلك سعيا لتأسيس ديناميات للثقافة. وشكلت الآلية الاستعارية عنصرا أساسيا في إقرار التناسب بين الكون الحيوي و سيمياء الكون 7.
إن التحديد المعدل، الذي اعتبر فيه لوتمان سيمياء الكون متصل، يعد من منظور إبستمولوجي تأثيلا، فالمتصل يعني أن كل نص هو نص لاحق لنص سابق، وتعود هذه الفكرة إلى فرنادسكي الذي يشدد على أن التضاعف ليس فعلا بسيطا لإعادة الإنتاج ولكنه سلسلة متتالية تقوم على مبدأ ريدي (redi principale) : omne vivo e vivum.
في رسالة (مؤرخة بيوم 19 مارس 1982) وجهها لوتمان إلى اوزبنسكي أوجز فيها فهمه لمبدأ ريدي عند فرنادسكي8:
«ما فتئت أقر خلال الأوراش السيمائية بموسكو، اعتقادي الراسخ، لايمكن أن يوجد نص إلا من خلال نص آخر، وبالتالي كل تطور ثقافي يجب أن يكون لاحقا لتطور ثقافي سابق، بل إنني وجدت فرنادسكي يعتبر من خلال أبحاثه في جيولوجيا الكون أن الحياة لا تنبثق إلا من الحياة.»
إن مبدأ ريدي ليس سوى خاصية مفردة من النسق التصوري للكون الحي، وبالتالي ضرورة الكشف التأثيلي 9 عن باقي الخاصيات التكوينية، فماهو مسار تشكل الكون الحي؟
يرتبط الاستعمال الأولي لمفهوم الكون الحيوي في البيولوجيا مع لامارك ، وفي الجيولوجيا مع العالم النمساوي ادوارد سويس (Swess)، وقد حدده باعتباره مجموع الكائنات الحية، بل إن الكون الأرضي (Geosphere) نتيجة لسيرورة الحياة،وبنفس الصيغة التحديدية اعتبر الباحث الفرنسي تيلهارد دوشاردان (Teilhard de chardin)الكون الحي مجموع الكائنات الحية، فبعد لقاء فرنادسكي بسويس في فيينا أثناء استكمال دراساته الأكاديمية سنة 1911، قدم صياغة أولية ركز فيها على دور التبادل الذري الناتج عن سيرورة الحياة في تطور الكون الحيوي، ثم بعد ذلك سيحدده باعتباره نسقا منظما ذاتيا ، ويضم مجموع الكائنات الحية (المادة الحية) ومحيطها ، وبتعقب التناسب في تحديد سويس وتحديد فرنادسكي يتبدى ان التعديل الإبدالي لحق الشكل أكثر من المحتوى، حيث تم استبدال الكون الأرضي بالمحيط.
في مرحلة تالية، وهنا الإضافة الفذة لفرنادسكي، سيتم اقتراح مفهوم الكون الذهني ، حيث تم الانتقال من مركزية المادة الحية إلى مركزية الفكر الإنساني، وبالتحديد الفكر العلمي. ففي الكون الحيوي، ومن خلال وظائف الطاقة الحية المتولدة عن المادة الحية، تهيمن الثقافة الإنسانية، فالنشاط الثقافي البشري استمرارية للمواجهة الكونية بين الحياة والمادة الجامدة (ص:18)،ومن ثم يستنتج فرنادسكي افتراضات نسمها من جهتنا بالخطيرة:
* ظهور الإنسان العارف (Homo sapiens)لم يكن عرضيا بالنظر إلى تطور الكون،
* بزوغ الحضارة ضرورة جيولوجية،
* الفكر العلمي ظاهرة جيولوجية،
* الكون الذهني «طاقة الثقافة الإنسانية».
4- التلوث السيميائي وفضاء القيم.
إن سيمياء الكون متعدد على كل المستويات، وقدم للباحثين في تخصصات علمية مختلفة (العلوم المعرفية،الانتربولوجيا،السرديات،الثقافيات،البصريات... ) برنامجا إجرائيا يستوعب الحمولة الدلالية للتحولات التي تشهدها الأنساق الثقافية والمعرفية والاجتماعية آنيا،قصد فهم دينامياتها وتوتراتها العميقة. لكن هذا لا يمنع من تشغيل ما أسميناه آلية المراقبة في اشتغال الحد، فانفلات حزمات معلوماتية من قوانين الضبط في عمليات ترجمة الخارج إلى الداخل يستعصي على القدرة المنمذجة استيعابها فيما بعد، فأدبيات الجهاد التي تم التغاضي عنها في زمن ما، وتفاعلها مع بيئات معلوماتية وتربوية ووسائطية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفق مقاصدها، تحولت إلى كون داخل النسق، مما أدى إلى خلل في عمل الترجمة10، حيث أمكن نقل الإرهاب من الخارج إلى الداخل دون مشاكل في التشفير.إن سيميائيات الكون قد تعلمنا كيف نحارب التلوث السيميائي والمعرفي لنفوز مرة أخرى بفضاء للقيم، لنفوز بالإنسان.
1 -لوتمان يوري،سيمياء الكون،ترجمة:الدكتور نوسي عبد المجيد،الدارالبيضاء/بيروت،المركز الثقافي العربي،2011.
يعتبر كتاب «سيمياء الكون» النواة المركزية في البرنامج العلمي للوتمان «كون الذهن»،وقد امتد العمل فيه بالتعديل والإضافة من 1966 إلى 1984،ليستكمله بعمله العمدة «الانفجار والثقافة»(1992).وتعد ترجمته اللبنة الأولى في مشروع الأستاذ نوسي عبد المجيد الذي ينكب بوعي ومسؤولية على نقل الأعمال المتأخرة للوتمان إلى اللغة العربية.الصفحات المحددة داخل النص تحيل إليه.
2-LOTMAN (J) and OUSPENSKI (B), On the semiotic mechanism of culture, New Literary History, 9(2), 1978, P: 211-232.
-LOTMAN (J), OUSPENSKI (B), IVANOV(V), TOPOROV(V),PJATIGORSKIJ (A), Theses on the semiotics study of culture (As applied to Slavic texts), In Jan van der eng and Mojmir grygar (Ed), Structure of texts and semiotics of culture, Paris/ The Hague, Mouton, 1973, P: 1-28.
3- FONTANILLE (J) et ZILBERBERG(C) (1998), Tension et Signification, Liège, Mardaga, 1998, P : 143-144.
4- » noo « كلمة تنتمي إلى اللغة الإغريقية القديمة، وتعني «الذهن».
6- LOTMAN (Y), On the semiosphere, tra Wilma Clark, SSS, 33, 2005, P: 206.
6 -ALEXANDROV (Vladimir.E), Biology, semiosis, and cultural difference in Lotman?s semiosphere, Comparative Literature, 52/4, 2000, P: 339-362.
7 - KOTOV (Kai), The semiorphere: A chemistry of being, SSS, 30. 1, 2002, P: 41.
8 - أورد الرسالة الباحث كول في دراسة خصصها للبحث في التصور البيوسميائي عند لوتمان، ويشهد للرجل تدقيقه للعلاقات بين مفهومي الكون السيميائي ( لوتمان) و الكون الذاتي ( اوكسكول) :
- Kull (k), towards biosemiotics with Yuri Lotman, Semiotica, 127, 1/4, 1999, P: 115- 131.
- للتوسع في باب التأثيل : 9
- عبد الرحمن ( طه)، فقه الفلسفة -2- القول الفلسفي ? كتاب المفهوم والتأثيل، الدار البيضاء ? بيروت ، المركز الثقافي العربي، 1999.
ii-إن الترجمة، من منظور نظرية سيمياء الكون ،تفاعل بين أنساق معرفية، حيث لا تعد الترجمة اللغوية سوى جزء من نسق الترجمة العام (الفن ،العمارة، الموسيقى، الملابس، التكنولوجيا.....):
- ANDREWS (E),MAKASINOVA (E),Semiosphreric transition : A key to modelling translation,SSS,26.2,2008,P :259-269.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.