كيف كانت أحوال العدالة في الدولة المغربية خلال القرن السادس عشر، علما أن كلمة «عدالة» موظفة مجازا في هذا السؤال؟ ما الأحكام التي كانت تصدر باسم السلطان ومن كان يحرك مسطرة المتابعة؟ وما الجرائم والجنح التي كان يعاقب عليها القانون؟ ما حكم القاتل وما الفرق بين «القصاص» و»الدية» و»التشهير؟ وكيف كانت تنفذ عقوبة الإعدام ومن كان مكلفا بذلك؟ وهل كانت هناك استثناءات في تنفيذ العقوبات؟ أسئلة تاريخية غزيرة تتناسل ويجيب عنها الإسباني فرناندو رودريغيث مِديانو المتخصص في حقول تاريخ المغرب ونخبه (القرنين 16 و17)، وفي الحماية الإسبانية في المغرب والعلاقات بين إسبانيا والإسلام في العصر الحديث، والعضو الباحث في «المجلس الأعلى للأبحاث العلمية» الإسباني و»مركز العلوم الإنسانية» بمدريد و»المدرسة الإسبانية للتاريخ والأركيولوجيا» بروما. مقال فرناندو رودريغيث مِديانو الرصين، الذي نقترح ترجمته على القراء، يقارب هذه الأسئلة انطلاقا من الوثائق والمصنفات التاريخية، وقد نشر، تحت عنوان «العدالة، الجريمة والعقاب في مغرب القرن السادس عشر»، في المجلة الفرنسية المتخصصة والشهيرة «حوليات، تاريخ، علوم إنسانية» (العدد الثالث من أعداد السنة الواحدة والخمسين، 1996). ومعلوم أن هذه الفصلية صدرت في البداية تحت عنوان «حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي» (1929) بمبادرة من المؤرخين الكبيرين مارك بلوخ ولوسيان فيبر، وأنها كانت وراء تأسيس مدرسة الحوليات في دراسة التاريخ، إحدى أهم مدارس الدراسات التاريخية في فرنسا والعالم. وقد عدنا، في هذه الترجمة، إلى المراجع الأصلية التي اشتغل عليها الكاتب، وبعضها مترجم إلى العربية، مستلين منها المقاطع التي استندت عليها الدراسة التي ننشر جزءها الثاني والأخير. الصمت والمطامير في الفترة المتراوحة بين 1549 و1554، دخل السعديون مدينة فاس مرتين. وإذا كنا قد أشرنا سابقا للدخول الأول الذي أدى، من بين ما أدى إليه، إلى قتل الونشريسي، فإن القمع الذي أعقب الدخول الثاني كان أكثر عنفا وذهب ضحيته آلاف الشخصيات المهمة في المدينة. ومن بين الضحايا، كان هناك أبو حسون، آخر السلاطين الوطاسيين الذي كان قد استعاد فاس من سيطرة محمد الشيخ نفسه أربع سنوات قبل ذلك. أما وجهة جثة أبو حسون النهائية، فهي معروفة: لقد رميت في مطرح الأزبال بباب السبع بعد فصل الرأس عن الجذع، ومكثت هناك ثمانية أيام قبل رميها في مطمورة المرس. فعلا، إن اختيار المكان الذي سيستقبل جثة آخر السلاطين الوطاسيين لم يكن اعتباطيا، وفي هذا السياق، كان ليون الإفريقي قد أشار، في وصفه لمدينة فاس، إلى مطامير ضاحية المرس العشوائية: «وإذا أراد حاكم فاس أن ينفذ حكم الإعدام على أحد بطريقة سرية، أمر بقذفه في هذه المطامير». ومن جهة أخرى، كان المرس مركزا للدعارة والانحراف، فضاء يعج بالحانات وملجأ للصوص والقتلة. «بحيث يمكن القول ، يضيف ليون الإفريقي، إن هذا الربض هو ظرف لجميع أقذار المدينة» .كثيرا ما يحتاج خطاب السلطة العقابي إلى نور النهار، إلى الفضاء العام. لكنه يوظف، أحيانا، السرية وعالم الصمت، أو بالأحرى عوالم الهمس والوشوشة التي تجسد رسائل مسموعة بما فيه الكفاية يمكن استشعارها وتخمينها، مما يجعلها قادرة على التسلل، بمكر، إلى وعي المجموعة الإنسانية . هكذا يصبح من الممكن، في بعض المناسبات، ألا يكون مصير المخطئ هو الساحة العمومية، بل الأمكنة السرية والفضاءات الغير قابلة للتسمية، أي ما يمكننا وسمه، في آخر المطاف، ب»فضاء الذلة». ويرسم ليون الإفريقي جغرافية مختصرة للأمكنة المخصصة للتهميش والاحتجاز: انطلاقا من التاباكينوات (جمع تاباكينو) المسيرة من طرف رجال الشرطة أنفسهم والتي كان المنحرفون يمارسون فيها كل أنواع الزيغ في غفلة من سكان فاس النزهاء .، ووصولا إلى السجون والبيمارستانات، علما أن البيمارستان مستشفى للمجانين كان يُحتفظ بهم داخله مغلولي الأعناق بالسلاسل. ولاحقا، سيتم الجمع بين سجن النساء ومستشفى المجانين في بناية واحدة ، وهو ما وقع أيضا بالنسبة لمعقل النساء بمراكش. ومن جهتهم، كان المصابون بداء الجذام يحتجزون في إحدى الضواحي خارج فاس . وطوال فترة من الزمن، كان المعانون من مرض الزهري يودعون مع المصابين بالجذام قبل أن يسمح لهم، لاحقا، بالالتحاق مجددا بالحياة الجماعية. وتجدر الإشارة، في هذا المقام، إلى أن المغاربة كانوا يعتقدون أن مرض الزهري وفد عليهم من إسبانيا عن طريق اليهود المرحلين منها عام 1492. في رحم الإسلام، يوجد حقل فسيح من المفاهيم يحدد عالم الهامشي، وذلك عبر إقامة أنماط أدبية وقانونية تربط بين التسول، واللصوصية، والقمار والحشيش، الخ. ومع ذلك، فصعوبة اتخاذ موقف حازم (من قبل العلماء)، إزاء استهلاك الحشيش والتبغ، على سبيل المثال، تبين مرونة الحدود الفاصلة بين القانوني وغير القانوني، بين المعيار والهامشي. هكذا، وبعد تكريس الاحتجاز كشكل للتدبير الاجتماعي للجنون، نجد أن هذا الأخير (الجنون) صار مرتبطا بالقداسة، وذلك عبر البروز المكثف في المغرب العربي، انطلاقا من القرن السادس عشر، لشخصية المجذوب الذي سيصبح، منذ ذاك، إحدى الصور الأكثر تمييزا للمشهد الاجتماعي والديني لشمال إفريقيا، والذي يمثل عبد الرحمان المجذوب الأسطوري نموذجه المثالي. وبناء على ما سلف، فثمة فضاء للميتات السرية، وأمكنة لتفريغ الأزبال ومستشفيات للمجانين والمرضى، وهي جميعها أماكن توحي بيئتها بعالم النذالة، عالم يمثل عكس العالم الآخر، العالم المضيء والمرتب، عالم الشرعية. والحال أن الحدود التي تفصل بين هذين العالمين ليست خطا متعذر الاجتياز، بل هي على الأحرى فضاء للقاءات والأفعال المشتركة. إن مفهوم النظام الصارم المجسد من طرف الإمام الذي واجه السديم والفتنة، مفهوم يتخفف داخل حقل من العلاقات المتبادلة التي تنفي التناقض الجدلي البسيط. ويشكل حضور رجال الشرطة المدبرين لشؤون الحانات والمواخير، ومعه عادة طلبة فاس في العمل بإدارة البيمارستان قصد الحصول على مداخيل إضافية ، أمثلة تبرهن على أن العلاقة بين العالمين (القانوني والمنفلت من القانون) ضرورية. وقد كانت هذه العلاقة محكومة بمبدأ تراتبي يضمن الاستفادة من التدبير الجيد، وهي استفادة اقتصادية أولا، لكنها أيضا سياسية ورمزية .الذلة إن الإعدامات العلنية تطور، بالتتابع أو بالتناوب، «حركتين للاستغفار تكميليتين لبعضهما البعض، هما حركة التدنيس-اللعنة وحركة التطهير» (حسب مقولة م. بي- في كتابه «فرجة الإعدام في فرنسا النظام القديم»)، ويبرز هذان الجانبان بجلاء في قصص الإعدامات التي وصلتنا. ونظرا لكونه ليس عقوبة كافية في حد ذاته، فالموت يتراءى محاطا بطقس يوظف لغة الذلة ونزع طابع الانتماء للإنسانية الموجبة للعبرة، سواء مورس هذا الطقس على الجسد الحي أو الميت. وهكذا، فحين دخل المولى الرشيد إلى فاس سنة 1665، فإنه أمر بخوزقة الدريدي، أحد آخر طغاة المدينة قبل وفود العلويين، وسمح للشعب الفاسي بالتفرج على مشهد إعدامه مليا. وحسب ما يروى، فإن الدريدي صاح في المتفرجين عليه بينما هو مصلوب على المشنقة وعصا طويلة منغرسة في بطنه: «زْمانْ فُوقْ منكم، واليوم فوق منكم». إن هذه الحكاية تعرض طقسا للذلة عن طريق الفرجة، مثلما تسجل دراميا التباين بين مسلسل اللعنة الممارس ضد الدريدي وبين تعبيره الأخير والمثير للشفقة عن أنفته. تستعمل ذلة الضحية، ميتا كان أو حيا، تقنيات مختلفة ذات هدف واحد: الإخزاء عن طريق نزع طابع الانتماء للإنسانية، إخزاء يتخذ أحيانا سمات «الحيونة» (الحط بالإنسان إلى درجة الحيوان)، مثلما حصل للسلطان محمد المتوكل، المنهزم في معركة الملوك الثلاثة، الذي سلخ جلده وملئ تبنًا وطيف به في أرجاء المغرب (وذلك عقب العثور على جثته طافية على الماء في نهر وادي المخازن الذي غرق فيه بعد محاولته الفرار-م.). ويحصل بلوغ درجة الحيونة أيضا بواسطة التدمير الجسدي الذي ينتج عنه إتلاف كل صفة إنسانية يمكن التعرف عبرها على هوية الجثة، ومن أمثلة هذا ما حدث ليهودي يدعى سعيد عواد تعرض للاعتقال والإعدام بسبب خصومة مع مسلم سنة 1595، قبل أن يرجم ويحرق. وحين حضر أصدقاؤه لتسلم جثته (بعد دفع مبلغ مالي لعامل فاس)، وجدوا أنه «لم يبق منه إلا العمود الفقري في حالة تكور». أما جثة المغامر الفرنسي سان-ماندريي، الذي أعدم سنة 1626، فقد رجمت وأحرقت ورميت للكلاب، مما أدى إلى تدميرها «لدرجة لم تعد معها عظامها مرئية من بعد». وفي عام 1607، إبان الحرب الأهلية بين مولاي زيدان ومولاي عبد الله، لجأ بعض أنصار هذا الأخير عند العميل الفلندري بيتر مايرتنز كوي. وقد توفي العديد من الجرحى من بينهم عنده، مما دفع أصحابهم إلى محاولة دفنهم. لكن مولاي زيدان علم بالأمر، فأرسل رجاله لاعتقال اللاجئين هناك وإحراق جثت الموتى. وتتمثل تقنية أخرى للحيونة في توظيف فضاءات للذلة، وقد عرضنا سابقا، في هذا الإطار، حالة أبو حسون الذي رمي في مطامير المرس العشوائية بفاس. وفي هذا الصدد، يروي ليون الإفريقي كيف كان السلطان المريني، أبو الحسن، يلجأ إلى نفس الأساليب ضد بعض أعدائه السياسيين. لكن فضاء الذلة هذا يكون، أحيانا، فضاءا اجتماعيا يجعل الضحايا في علاقة مع فئات دونية اجتماعيا: اليهود، العبيد السود، النساء والأطفال. يجسد اليهود المثال الأكثر جلاء لوضع الذلة المفروض على بعض الفئات. إنهم يظهرون، في كثير من الأحيان، وهم يؤدون مهمة الجلاد المخلة بالشرف، وهي المهمة التي يبدو أنها خُصصت لهم في كل البلدان (بشمال إفريقيا-م) تقريبا. ويشاركهم هذه المهمة، في بعض الأوقات، العبيد السود والمسيحيون. هكذا، فإن نمطا من التعذيب، وصلتنا أخباره متأخرة، كان يمارس في عهد مولاي إسماعيل، ويتمثل في رمي جسم المحكوم عليه في الهواء، من طرف أربعة عبيد سود، بطريقة تجعله يسقط على رأسه أرضا مما يؤدي إلى كسر عنقه. وبالطبع، فتراكم التجربة لدى هؤلاء الجلادين كان يكسبهم المهارة الضرورية لكي يسقط الجسد بالشكل المرغوب فيه. ولنذكر أيضا، على سبيل المثال، بالمشهد الأخير من إعدام أبو الفهم على يد الزيري المنصور: بقر عبيد هذا الأخير السود بطنه، واقتلعوا كبده ثم التهموه. ومن جهتهم وفي كثير من الأحيان، يظهر النساء والأطفال كذلك في مشاهد العنف. ومن أمثلة هذا ما وقع لجنود جيش السلطان بعد أسرهم من طرف سكان سْگيم عقب مواجهة عسكرية بين الفريقين، «إذ أخذهم المنتصرون مغلولين إلى منازلهم، فمثلت بهم نساؤهم كعلامة على الإذلال الشنيع، وذلك لأن الرجال يترفعون عن قتل الأسرى ويضعونهم بين أيدي النساء» (ليون الإفريقي، مرجع سابق، ص: 187). ويشير نص آخر إلى أن رأس ابن أبي محلي المقطوع حُمل إلى مراكش حيث استعمله الأطفال كلعبة طوال عدة أيام. إن السلطة تنكشف عبر تلاعبها بفضاءات مادية أو مجموعات بشرية، وذلك بالموازاة مع إعمالها لفن خطابة متمحور حول النظام الاجتماعي، فن في خدمة الذلة ونزع طابع الانتماء للإنسانية، علما أن فن الخطابة هذا يعيد، في نفس الوقت وبالمقابل، تأكيد الموقع المركزي والثابت للسلطة التي توظفه. التطهير إن الإعدام العلني، تأسيسا على ما سبق، فرجة على الذلة، لكنه أيضا، على مستوى آخر، طباق للتطهير مثل ما هو الحال بالنسبة لحكاية ذلك السارق اليهودي التي تعود إلى نهاية القرن السادس عشر والتي كانت فاس مسرحا لها. أجل، لقد تجرأ الرجل على سرقة بيت القاضي عبد الواحد الحميدي نفسه، وكان، كلما اعتقلته الشرطة، ينال حريته بدعوى أنه سيعتنق الإسلام. وقد ظلت خدعته تسعفه إلى حين تعيين قاض جديد، يدعى يحيى، واستقراره في فاس الجديد، حيث أمر باعتقال اللص اليهودي، الذي عجز هذه المرة على الإفلات بجلده، وبعدها بإعدامه (وفق ما ورد في مصنف لنصوص تاريخية يهودية-مغربية أصدره ج. فاجدا سنة 1951 بباريس). هكذا شنق الرجل وأحرقت جثته، متعرضا بذلك «لأنواع الإعدام الأربعة التي تصدرها المحاكم»، يضيف فاجدا، مشيرا، بشكل علمي لا يخلو مع ذلك من مبالغة، إلى أصناف الإعدام الأربعة التي تسنها القوانين التلمودية: الرجم، والحرق، وضرب الرأس والشنق. وإذا كانت هذه الواقعة قد خلقت متاعب شتى للطائفة اليهودية في فاس، فإن تعليق (فاجدا) الختامي عليها يكتسي أهمية كبيرة: «يقال إن هذا الرجل مات وهو يقدس الإله، و(قضى) وهو يتلو عبارة توحيد اسمه». المحكوم عليه بالإعدام يجسد رسالة في حد ذاته. وهو كذلك، أولا، بسبب الفرجة النموذجية التي يهبها جسده المعروض علنا والممزق أمام الملأ. مثلما هو كذلك، ثانيا، لأنه يتحول إلى صوت، إلى خطاب واضح. إن أحد المكونات الأساسية لأصناف التعذيب، إذا ما استحضرنا تجلي هذه الأصناف من خلال وصفها في كتاب مارمول، ليس سوى إعلان المتهم، أمام العموم، عن الجرائم التي ارتكبها. إن عليه، إلزاميا، الاعتراف بذنبه أمام الجميع، وتتمثل رسالته في ضرورة تحقيق الطقس العقابي لوظيفته، في إعادة ترميم النظام المهشم بفعل الخطأ المرتكب، وفي إنقاذ صفاء المحكوم عليه والمجتمع عقب الذلة التي تعرض لها الأول علنيا. هكذا يقضي لص فاس اليهودي، المرتد المضبوط في حالة عود عدة مرات، المنحرف الذي خلقت سرقاته مشاكل عويصة لطائفته، المعاقب إلى أقصى حد عبر الرجم، والحرق، والشنق وضرب العنق، هكذا يقضي وهو يقدس اسم الإله. إن رسالته الأخيرة، خطابه النهائي يتمم دورة العقاب. هكذا إذن، وعبر مسلسل الذلة-التطهير، تتم إعادة بناء النظام من جديد. ويروي لنا ابن عسكر قصة نموذجية حول هذا المسلسل المزدوج تتضمنها سيرة عبد الله الورياچلي، قصة يجب أن توضع في سياق التطابق بين صورة الولي وصورة السلطان (وهو تطابق يحجب، في الواقع، تناقضا هيكليا): ذات يوم، وجد الولي في مسجد القصر الكبير رجلا يزعم أنه المسيح. وكان المسيح المزيف، حينها، يقوم بأعمال خارقة أمام الجماهير المحتشدة، أعمال من قبيل جعل مئذنة الجامع تنطق وتعترف بنبوته. وفي حضرة هذا المشهد، اتخذ الورياچلي مبادرة الدنو من الدجال ليضربه ويأمر أتباعه بإمساكه من شعره وجره فوق الأرض. وفي الختام، قام الأتباع برمي الرجل على كومة من الأزبال وتركه هناك معتقدين أنه مات. لكن الورياچلي، بعد مرور بعض الوقت، سيلتقي صاحبَنا مجددا، وسيعترف له الأخير أنه كان مسكونا بجني، وأنه ظل كذلك إلى أن أنقذه الولي من هذا المس، وبعدها، سيصبح الرجل أحد أفضل أتباع الورياچلي. إن سرد هذه المعجزة يعيد إنتاج الخطاطة العقابية التقليدية، بما في ذلك الأزبال (فضاء الذلة) والموت (وهو مصطنع هنا). وفي الحالتين معا، فإن المسلسل الكامل، المشخص في هذه الحكاية على شكل متتالية: خرق للنظام- ذلة- تطهير- إعادة ترميم النظام، إن المسلسل الكامل يجد حله في إعادة إدماج المحكوم عليه داخل نسق عَقَدي. وفي هذه الحالة، مثلما هو الأمر في حالات أخرى، فإن التطابق بين العقوبات المطبقة من طرف السلطان وتلك التي تأتي من الأولياء (مباشرة أو عن طريق لعنة) جلي، مما يجعل السلطان والولي يترائيان، في الكثير من المرات، بنفس القسمات. إن صورة الولي ليست صورة إنسان مسالم: فهو يبدو، على العكس، منافسا للسلطان في مجال استعمال الإكراه البدني. ولا يعود هذا التشابه إلى أسباب تخلقية (السعي إلى الشبه) فحسب، بل يبدو أنه يشكل ترضية لاستعمال لغة مشتركة تمتلك معجما رمزيا مفهوما من قبل الجميع، لغة تستعمل بشكل متطابق في مختلف مستويات العلاقات الاجتماعية. وهكذا، فالعقوبة، بوصفها لغة عنيفة لنظام ممارَس، تتبلور في نموذج كوني وشمولي. الرأس نظرا لكون العنف لغة كونية تستكشف الجسد بشمول، فإنه كثيرا ما يتم إعماله على مستوى الحنجرة حين تطبيقه، وذلك بشكل شبه استحواذي، علما أن التطبيق يعرف بعض الاختلافات المألوفة مثل الخنق والشنق، بالإضافة إلى الفصل التام للرأس عن الجذع ورمي كل واحد منهما في مكان مختلف (مثال أبو حسون، آخر السلاطين الوطاسيين، المشار إليه سابقا). ويعتبر موت محمد الشيخ مثالا بليغا في هذا المجال: في رحم القمع الذي تعرضت له فاس في 1554، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، كان من بين ضحايا السلطان السعدي العالم عبد الوهاب الزقاق، الذي لعن خلال تعرضه للتعذيب محمد الشيخ قائلا: «وأنت كذلك يقطع رأسك ولا يدفن معك «. وقد تحققت اللعنة، في النهاية، إذ بعد ذلك بمدة وجيزة، قطع رأس السعدي من طرف حرسه الأتراك ونقل إلى اسطنبول. لنسرد الآن، في نفس السياق، مثالا ثانيا حدث في فاس سنة 1620. كانت المدينة، أيامها، خشبة لحرب أهلية فعلية بين مكونيها الأساسين، الأندلسيين واللمطيين. وكانت الشخصية الأكثر شهرة ضمن الأولين هي عبد الرحمان بن محمد الفاسي، المدعو بالعارف وزعيم زاوية الفاسيين القوية، الذي أصدر لعنة في حق منافسه محمد بن سليمان الأقرع رئيس اللمطيين. في اليوم ذاته، وخلال مناوشة مع جنود السلطان، قطع رأس الأقرع: «مات ميتة جاهلية، حفظنا وحفظكم الله» (محمد بن الطيب القادري: «نشر المثاني» ) و»ميتة جاهلية» عبارة واردة في الأحاديث النبوية ضمن سياق محدد: من فارق الجماعة شبرا، وليس له إمام مطاع، إلاّ مات ميتة جاهلية، أي كموت أهل الجاهلية على ضلال، أو كعاص. إن مقتطف «نشر المثاني»، الذي أوردته، يحدد إذن، انطلاقا من التلميح للتقاليد، نظاما سياسيا متساميا (تمثله في هذه الحالة زاوية الفاسيين)، يغترف مشروعيته من المرجعية الإسلامية. السلطة، أو السلطان يمارَس في هذه الواقعة من قبل العارف الفاسي الذي يوظف ضد غريمه السياسي، ولو بشكل خارق، تقنية مماثلة للتقنيات التي يستعملها المخزن في سعيه لتجسيد إقصاء الضحية من النظام الشرعي عن طريق ضرب عنقه. يبدو إذن أن فصل الرأس عن الجذع، في لغة الذلة، يكتسي معنى سياسيا ودينيا، كما تشير إلى ذلك صيغة «ميتة جاهلية» والسياقات التي ترد ضمنها. وتفسر فظاعة الدفن بهذه الطريقة (الرأس في مكان والجذع في مكان آخر-م)، مثلا، المحاولات الحثيثة التي قام بها عرب قبائل الشرقية لاستعادة رأس أحد زعمائهم المتوفى خلال معركة مع برتغاليي آسفي. وقد نجح نونيو فرنانديث دي أتايد في تحويل رأس الزعيم الميت إلى موضوع للتفاوض الذي أدى إلى عقد هدنة مع القبائل العربية. (وحسب الهامش المخصص لهذا المعطى، فهذا الحدث جد معبر نظرا لأنه لم يكن من عادة المسلمين استرجاع جثت رفاقهم القتلى خلال المواجهات مع البرتغاليين-م). ونظرا للاعتقاد السائد لدى المسلمين والذي مفاده أن فصل الرأس عن الجذع يمنع من دخول الجنة، فقد استعمل كتقنية لإثارة الرعب من طرف بعض المعمرين الفرنسيين في الجزائر. وبناء عليه، ينجلي أن السلطة الاستعمارية كانت توظف اللغة المستعملة من قبل المجتمع الخاضع لها، مستفيدة من نفس تقنياتها بذريعة فعالية الاستغلال. ومن جهة أخرى، فإن وجود مجموعة من المفاهيم التي تربط بين الموت والحنجرة معطى معروف في الإسلام، وذلك انطلاقا من طقس الأضحية (علما أن البتر التام للعنق خلاله محظور)، ووصولا إلى تطوير مجموعة من التقاليد الأُخروية التي تجعل من الحنجرة المكان الذي تخرج منه الروح لحظة الوفاة. ولنذكر، في هذا الإطار، بالآيات القرآنية ذات العلاقة ب»ملك الموت»: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» (سورة السجدة، الآية 11)، علما أن الروح تبلغ الحلقوم لحظة الوفاة (سورة الواقعة، الآية 83). وعلاقة بموضوع الرأس المستحوَذ عليها، والتي يتم تطويفها وعرضها علنيا، ثمة قصة الثائر الريفي، الحاج العباس، الذي هزم سنة 1287. وقد طيف برأسه المقطوع في كل أرجاء المملكة، ليعلق بعدها في مراكش، بينما علق جذعه في شمال البلاد بمدينة المزمة (يصف ليون الإفريقي-الحسن الوزان هذه المدينة كالتالي: «كانت المزمة مدينة كبيرة واقعة فوق جبل صغير على ساحل البحر المتوسط بالقرب من حدود إقليم كرط. يقع في أسفلها سهل كبير عرضه نحو عشرة أميال وطوله ثمانية وعشرون ميلا من الشمال إلى الجنوب، ويمر نهر نكور في وسطه فاصلا بين الريف وكرط... وكانت هذه المدينة قديما في غاية الحضارة، كثيرة السكان ودار مقام لأمير هذا الإقليم. لكنها دمرت ثلاث مرات. خربها أول مرة خليفة القيروان الذي غضب على أمير المزمة حين امتنع عن أداء الخراج المعتاد فسقطت المزمة في يده ونهبها وأحرقها وقطع رأس أميرها وأرسله إلى القيروان على رأس رمح عام 318 للهجرة. وظلت المدينة مهجورة خمسة عشر عاما قبل أن يقوم بعض الأمراء بإعادة تعميرها... والمزمة الآن خربة لكن أسوارها قائمة سالمة ويرجع تاريخ تدميرها الأخير إلى عام 872 للهجرة»-م). ونظرا لهذا، صار فضاء المملكة محدودا برأس وجذع يشكلان معلمين في جغرافية البلاد عبر استنساخ الطواف المعيب والعرض العلني (لرأس وجذع الحاج العباس بن صالح الصنهاجي-م) على مستوى الدولة. إنه، في نهاية المطاف، الجسد المهشم الذي صار تخما يحدد فضاء العقوبة، أي فضاء السلطة. وفي رحم المسافة الفاصلة بين الرأس والجذع، يتملك جسد سياسي جديد معناه غير القابل للانفكاك أو الانفصال، هذه المرة، عن رأسه، السلطان.