كيف كانت أحوال العدالة في الدولة المغربية خلال القرن السادس عشر، علما أن كلمة «عدالة» موظفة مجازا في هذا السؤال؟ ما الأحكام التي كانت تصدر باسم السلطان ومن كان يحرك مسطرة المتابعة؟ وما الجرائم والجنح التي كان يعاقب عليها القانون؟ ما حكم القاتل وما الفرق بين «القصاص» و»الدية» و»التشهير؟ وكيف كانت تنفذ عقوبة الإعدام ومن كان مكلفا بذلك؟ وهل كانت هناك استثناءات في تنفيذ العقوبات؟ أسئلة تاريخية غزيرة تتناسل ويجيب عنها الإسباني فرناندو رودريغيث مِديانو المتخصص في حقول تاريخ المغرب ونخبه (القرنين 16 و17)، وفي الحماية الإسبانية في المغرب والعلاقات بين إسبانيا والإسلام في العصر الحديث، والعضو الباحث في «المجلس الأعلى للأبحاث العلمية» الإسباني و»مركز العلوم الإنسانية» بمدريد و»المدرسة الإسبانية للتاريخ والأركيولوجيا» بروما. مقال فرناندو رودريغيث مِديانو الرصين، الذي نقترح ترجمته على القراء، يقارب هذه الأسئلة انطلاقا من الوثائق والمصنفات التاريخية، وقد نشر، تحت عنوان «العدالة، الجريمة والعقاب في مغرب القرن السادس عشر»، في المجلة الفرنسية المتخصصة والشهيرة «حوليات، تاريخ، علوم إنسانية» (العدد الثالث من أعداد السنة الواحدة والخمسين، 1996). ومعلوم أن هذه الفصلية صدرت في البداية تحت عنوان «حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي» (1929) بمبادرة من المؤرخين الكبيرين مارك بلوخ ولوسيان فيبر، وأنها كانت وراء تأسيس مدرسة الحوليات في دراسة التاريخ، إحدى أهم مدارس الدراسات التاريخية في فرنسا والعالم. وقد عدنا، في هذه الترجمة، إلى المراجع الأصلية التي اشتغل عليها الكاتب، وبعضها مترجم إلى العربية، مستلين منها المقاطع التي استندت عليها الدراسة. في المجلد الثاني من «أرشيفات بربرية»، يصف لويس برونو لعبة كان يمارسها الأطفال في فاس تسمى «شفار-قمار» : يجلس مجموعة من الصغار، مكونين دائرة، ويرمون، الواحد تلو الآخر، بلاغيهم في الهواء. وحسب الشكل الذي تسقط به بلغة الواحد منهم (أي النعلين معا على الأرض، وجها البلغة الاثنين على الأرض أو نعل ووجه على الأرض)، يضطلع الطفل بدور سلطان أو وزير أو لص. وتستلزم قواعد اللعبة ألا يتعرض اللص للعقوبة إلا في حالة وجود سلطان أو وزير مسبقا، وفي هذه الحالة فإنه ينال ضربات متوالية بواسطة حزام جلدي أخمص القدمين من طرف السلطان. وفي المقابل، وعند عدم وجود لا سلطان ولا وزير، فإن اللص لا يتعرض للعقاب. وأخيرا، ومع انتخاب سلطان جديد، فإن السلف يُخلع من العرش بعد أن يقرعه الخلف بجلدة من سوط (نفس الأمر يحدث عند تعيين وزير جديد حسب مقال لويس برونو -م) ورغم بساطتها، فلعبة فاس تعبر عن العلاقة المتينة بين الارتقاء في دواليب السلطة وممارسة العنف، مثلما تؤشر على العلاقات الجدلية بين النظام والاضطراب، بين السلطة والفوضى. إن هذه الثنائية ذات طبيعة شبه إيديولوجية، وهي تؤدي، في آخر المطاف، إلى إقرار شرعية السلطة كمسؤولة على نظام متسام. إن السلطة، وهي تمارس العنف، تخلق خطابا وتُعدّ نصا سنده الجسد. ويتعلق الأمر هنا بخطاب بيداغوجي، خطاب يُعلم ويتحول إلى ذاكرة لأنه يقوم بذلك (التعليم) عن طريق آثار متعذرة المحو. أما مرجعيات هذا الخطاب، ومكوناته وتلميحاته، فهي تنتمي للغة مشتركة مفهومة من طرف العامة. وتسعى الملاحظات التالية إلى الكشف عن بعض سمات هذه اللغة، وخاصة تلك المرتبطة بالعقوبة وتقنيات استعمال العنف الإدارية. أما الإطار المنتقى، فهو المغرب السعدي (نسبة إلى الدولة السعدية-م) الذي يمثل نقطة تحول جذري في سياق تطور سياسي يكمن مؤشره الأكثر جلاء في قيام دول سلالات الشرفاء، وفي توظيف «البركة» النبوية، الموروثة عائليا، كعنصر مركزي في خطاب حيازة المشروعية. السلطة الوليدة من المعروف أن القانون الإسلامي يعتبر الجسد، الجراح وعمليات القتل (الدماء) قضايا تهم الأفراد لوحدهم وليس الله. ولذا، فوضعها القانوني مختلف عن الوضع المخصص للجرائم المتعلقة بالله حصريا (ومنها كما ورد في أحد هوامش المقال: السرقة، والزنا، والشرب والارتداد-م)، وعن وضع الأخطاء المتعلقة بالله والإنسان في ذات الوقت (ومنها كما جاء في هامش آخر للمقال: القذف-م). وبالنسبة لهذين الصنفين الأخيرين من الجرائم (المتعلقة بالله حصريا وبالله والناس في نفس الآن-م)، فإن العقوبات المحددة مقررة سلفا (الحدود). وبالمقابل، وبالنسبة للجرائم المتعلقة بالأشخاص فحسب، فإن تدخل الطرف المتضرر حاسم. ويتوفر هذا الطرف، للتعويض عن جرائم الدم المرتكبة ضده، على وسيلتين اثنتين لنيل حقه: إما تطبيق القصاص (شريعة المثل) أو الحصول على الدية (ثمن الدم). ومن نتائج تقييم عنصر العمد في عملية القتل، وإفادات شهود الأطراف المتنازعة وتحليل ظروف الجريمة، بلورة مجموعة من الحالات المعقدة التي تزخر مصنفات الفتاوى بنماذج جيدة منها. ونظرا لهذا الإدراك السائد لجريمة القتل في الإسلام، فإنها (الجريمة) تعتبر مسألة تنتمي أساسا للحقل الجماعي. وهي توضح وجود شبكة معقدة من أصناف التضامن، كاشفة عن المسؤولية الجماعية عن الجرم. ويصف ليون الإفريقي (الحسن الوزان)، في العديد من صفحات كتابه (وصف إفريقيا)، الطريقة المعتادة التي كانت تحسم هذه المنازعات بواسطتها في مغرب بداية القرن السادس عشر: إذا ارتكب أحد جريمة قتل واستطاع آل الضحية تصفية الفاعل، فإن القضية تعتبر قد سويت. أما إذا لم تتخذ الأمور هذا المجرى، فإن القاتل يُنفى لمدة سبع سنوات، ويمكنه، بعد انقضاء هذه الفترة، العودة إلى بيته، لكن شرط دفع مبلغ مالي لأسرة القتيل ، أو تنظيم مأدبة كبرى يستدعي لحضورها أعيان الجماعة. إن النفي، الذي يدرج كعقوبة نوعا من «الموت المدني» الرمزي الذي يقوم مقام الموت الجسدي (2 مكرر)، والمأدبة المؤدية للتصالح يجسدان الطابع الجماعي لجريمة القتل ولحلها. في «وصف إفريقيا»، يقوم ليون الإفريقي بإلمامة بالوضع في بداية القرن السادس عشر، وهو رصد يبرز التنوع الكبير للحلول المعتمدة لفك النزاعات. ويبدو أن هذا التنوع مرتبط بالتوتر القائم بين البنيات التقليدية والنموذج الإسلامي. هكذا على سبيل المثال، كان يوجد الكثير من الفقهاء ضمن آيت داود، لكن أهل القبيلة لم يكونوا يمتثلون لسلطتهم حين يتعلق الأمر بقضايا ذات أهمية بالغة. أما عند بني إفران، فالقاضي الوحيد المتواجد كان يهتم بقضايا الإرث والديون فقط، بينما كانت عقوبة الجرائم هي النفي. ومن جهة أخرى، فلا أحد كان مكلفا بالقضاء في جبل سَمِد، وكان الغرباء العابرون للمنطقة هم من يقوم بدور القاضي أحيانا، وهذا ما حصل لليون الإفريقي نفسه خلال إقامته هناك. وفي هذا الإطار، فإقامة السلطة السياسية الحازمة تستند إلى حجة تطبيق العقوبات بتطابق مع تعاليم الإسلام. وفي هذا السياق، تشكل وثيقتان (تعودان لسنة 1512 مصنفا للتعليمات المفروضة من طرف يحيى بن تعفوفت، الحليف الشهير للبرتغاليين في آسفي، على بني حارث وقبيلة أخرى مجهولة. يبدأ أول النصين، وهو بدون شك الأكثر شمولية وأهمية، بالإشارة إلى أن يحيى بن تعفوفت قد قرر، بسبب الأخطاء المرتكبة من قبل أسلاف القبيلة، تطبيق تعاليم الإسلام الخاصة بالقصاص على كل من قتل أحد إخوانه المسلمين: «الروح بالروح، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن والسن بالسن». وبعدها، يحدد قيمة الدية الخاصة بمختلف الجنح والجرائم: عشر أوقيات بالنسبة للسارق (الأوقية كانت تساوي عشرة دنانير-م)، أوقية واحدة لمن ضرب شخصا آخر بحجر أو بعكاز، خمس أوقيات لمن حاول اغتصاب امرأة، نصف أوقية للمرأة التي تسب رجلا، الخ. أما الوثيقة الثانية، وهي أقل تفصيلا من الأولى، فإنها تتضمن تقريبا نفس العقوبات. أريد هنا التأكيد على الإشارة إلى « الأخطاء المرتكبة من قبل الأسلاف» ومحاولة إقامة نظام سياسي جديد قائم على التطبيق الحرفي للتعاليم الإسلامية، وهو ما يحيل على صورة مصلح التقاليد المعروفة في التاريخ المغاربي. يتعلق الأمر إذن، في هذا المقام، بخطاب للسلطة مؤسس على خطاب عقابي، بحيث تؤدي إدانة الوسائل التقليدية إلى بزوغ مشروع سياسي شامل. ومن ثمة، فلا دخل للصدفة في كون نونيو فرنانديث دي أتايد أرسل الوثيقتين المشار إليهما إلى البلاط البرتغالي كبرهان على أن يحيى بن تعفوفت سيرفض أداء الضريبة لبرتغاليي آسفي، وأنه سيدبرها بنفسه. إن المعطى الوارد في هذه الحالة، والمتعلق بالعلاقة الوثيقة بين تدبير العنف وتدبير الجبايات، معطى جد دال بكل تأكيد. السلطة الممارَسة خلف لنا لويس دو مارمول، في «الوصف الشامل لإفريقيا»، سردا مفصلا حول التقاليد العقابية في فاس خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر. وحسبه، فإنه «يطبق نفس النظام في جميع مدن بلاد البربر تقريبا». وفي النص ذاته، نعلم بوجود سجنين اثنين بالمدينة، واحد مخصص للمعتقلين في إطار نزاعات الديون والقضايا الأخرى غير ذات أهمية كبيرة، والآخر مخصص لمرتكبي جرائم القتل. وجرت العادة أن يسلم هؤلاء الأخيرين إلى أهل الضحية، في حالة وجودهم، إما لقتلهم وإما للعفو عنهم مقابل مبلغ مالي ، وهو ما يمثل، في آخر المطاف، تطبيقا للقصاص والدية. غير أن السلطان كان يبادر من تلقاء نفسه في مجال قضايا القتل عند عدم وجود الطرف المتهِم. ويكتب مارمول عن هذه الحالات: «إذا أرادوا إعدام رجل ولم يكن من ذوي الهيئات ساقوه عبر الأزقة وهو مكتوف اليدين، إلى مكان الإعدام، وهو دائما مكان مطروق بكثرة في المدينة. ويذكر هو نفسه بأعلى صوته السبب الذي من أجله حكم عليه بالإعدام، قائلا: هذا ما يستحق من ارتكب مثل هذه الجريمة! ثم يعلق من رجليه في مشنقة، ويذبح، ويترك هناك يوما أو يومين» (مرجع سابق، ص: 163). أما حين يكون الجاني شخصية مهمة، فإن ترتيب طقس إعدامه يتغير حسب مارمول:»لكن، إذا كان من ذوي البيوتات، يذبح في السجن، ويساق عبر الأزقة محمولا معكوسا على دابة، وهم يصيحون بنفس الشيء» (نفسه، ص: 163). وكانت هناك أيضا تقنيات أخرى لتطبيق حكم الإعدام، يضيف المؤرخ: «وإن كان ذلك (حكم الإعدام) لجريمة خيانة ذبح من خلف، أي من القفا، وأحيانا يشق بطنه شقا معكوسا ويترك هكذا إلى أن يموت. ومنهم من يخنقون في السجن، أو يشنقون علنا، ويقولون إنها عادة أدخلها القوط إلى إفريقيا حتى لا يعذبوا كثيرا في الموت» (نفسه، ص: 163). أما في حالة السرقات والديون والجنح الأخرى التي لا تستحق عقوبة الإعدام، فقد كانت العقوبة تتمثل في تعرض الجاني لعدد محدد مسبقا من الجلدات أمام القاضي، وعقبها طوافه عاري الجسم في أزقة فاس مع إجباره دائما على إعلان سبب عقوبته بصوت مرتفع . وبالإضافة للعقوبات الجسدية ، كان العامل يتوصل بمبالغ مالية كبيرة يجنيها من الغرامات النقدية المفروضة على مرتكبي جنح مختلفة (في هذا الصدد، يشير الكاتب في أحد الهوامش إلى ما دونه ليون الإفريقي وهو يصف «القضاة وكيفية الحكم والتسيير» بفاس: «ويستفيد العامل أموالا طائلة من الغرامات التي تفرض في كل وقت.» -م). وفي مكان آخر من كتابه، يصف مارمول التقنيات العقابية في مراكش، ساردا ما شاهده في سوق المدينة حيث: «توجد (...) كومة من التراب أعلى من الدكاكين والدور المحيطة بها، وفيها يقع إعدام الأشرار، وتشاهد بها دائما مشنقات، يعلق فيها بعضهم من أرجلهم ثم يذبحون، ويعلق آخرون هكذا دون أن يذبحوا حتى يموتوا على هذه الحالة، ويعلق بعضهم من الذراع والبطن مفتوح حتى يموتوا بهذه الكيفية. لكنهم لا يربطون أحدا أبدا إلى مشنقة وذراعاه مبسوطتان. هكذا يعامل المجرمون عند انعدام الخصم، ولكن، إذا كان هناك خصم فإليه ترجع العدالة، فيخنق المجرمين ويذبحهم، أو يطعنهم بالرماح أو الخناجر، أو يبيعهم كعبيد، أو يساعدهم على فداء أنفسهم بالمال». إن مثالي فاسومراكش يعتبران مكملين، إلى حد ما، تعاقب مراحل العقوبة: التطبيق الأولي للقصاص والدية، والتدخل الرسمي في حالة غياب الطرف المتهم ، والطواف العلني (التشهير) ثم الإعدام في الأماكن التي يرتادها أكبر عدد من الناس في المدينة. وكما رأينا ذلك سالفا، فقد يخضع ترتيب مراحل العقوبة هذا للتغيير حسب الوضع الاجتماعي للجاني. وهكذا، ينتج عن الوضع الاجتماعي السامي للمذنب تقليص عقوبته عبر إعفائه من فضيحة الطواف العلني (ويُذَكر الكاتب في الهامش الخاص بهذه النقطة بما ورد في الفصل السادس الخاص بالتعزير من كتاب «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» للماوردي: «تأديب ذا الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاء والسفاهة لقول النبي صلعم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.» ، مقارنا إياه بما جاء في «رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة»: «ولا يُقيل (صاحب المدينة) على أحد عثرة في معصية إلا لذوي الهيئات، فإنهم يُقالون للحديث: أقيلوا ذوي الهيئات. والتوبيخ لهم أنكل من الأدب.». إن مجرى العقوبة يبرز إذن تراتبية اجتماعية ذات علاقة بفئة الأشخاص المعاقبين من جهة، وكذلك بفئة الجلادين من جهة أخرى كما سنرى ذلك. وتتضمن شهادات أخرى فروقا بسيطة مقارنة مع ما كتبه مارمول. وفي هذا السياق، يسجل تقرير إنجليزي يعود إلى سنة 1604 ويبدو أنه من إيحاء روبرت سيسِل (رجل دولة بريطاني كان مكلفا بأمن الدولة، وهو أول كونت لساليسبوري، ولد في 1 يونيو 1563 وتوفي في 24 ماي 1612-م)، يسجل التقرير الطابع العجول لقرارات الحاكم القضائية، إذ بمجرد اعتراف المتهم بارتكاب الجريمة، يتم قطع رأسه. ووفق نفس التقرير، فإن الحكم بالإعدام عقوبة ينالها القاتلون واللصوص والزناة، ومعهم حملة السلاح. ويسجل تقرير إنجليزي آخر، مؤرخ في 1638 ومجهول الكاتب، كذلك السرعة التي تطبق بها الأحكام التي ينطق بها الحاكم، وهي أساسا أحكام ضرب العنق. ومن جهة أخرى، يصف جون موكي، في 1606، كيف قطع القاضي وأعوانه رأس معتقل بمجرد إلقاء القبض عليه. أما توماس لوجوندر، فيقترح علينا مشهدا أكثر لباقة احتضنته مراكش سنة 1665: رُمي المحكوم عليه فوق قضبان حديدية معقوفة وضخمة، وظل هناك إلى حين موته. أما إذا لم تخترق القضبان أي عضو حيوي في جسمه لسوء حظه، فإن احتضاره قد يستمر عدة أيام. وكان الحاكم يتوفر أيضا، لتكتمل ترسانته، على سيوف لضرب الأعناق وعصي لإنزال العقوبات بمقترفي الجنح غير الجسيمة. رغم أن القانون الإسلامي لم ينتج إطلاقا خطابا متطورا حول العقوبة باستثناء تطبيق القصاص والدية، فإن السلطة السياسية، من جهتها، أظهرت قدرتها العقابية عن طريق تدخلها من تلقاء نفسها عند غياب الطرف المتهِم، وهذا أمر بديهي. ويبدو، في الواقع، أن النظام القضائي كان يتطور في اتجاه إقرار فصل بين النزاعات المدنية التي يختص بها القاضي، وبين النزاعات الجنائية التي يؤول أمرها للحاكم الذي يصدر الأحكام باسم السلطان ، علما أن اختصاصات هذا الأخير ذات طبيعة عسكرية حسب ما يمكن ترجيحه. إن إقامة السلطة كعقوبة تستلزم، بالإضافة إلى إنشاء هيئة قضائية خاصة، تنظيم جهاز مهني للشرطة. وفي حالة فاس، فقد كان رجال الشرطة ينالون مبلغا ماليا مقابل كل سجين، يمنحه إياهم طائفة من الصناع والتجار. وكانت إحدى الممارسات المألوفة للشرطة تتمثل، من جهة أخرى، في تسيير «تاباكينو» (الكلمة إيطالية وتعني بائع التبغ، ويبدو أنها حرفت في إحدى الترجمات لأن التبغ لم يكن قد دخل المغرب حينذاك-م)، وهو فضاء مخصص لاستهلاك الكحول، والدعارة وممارسات غير شريفة أخرى. وتعرض هذه العلاقة الوثيقة بين الأنشطة القانونية وغير القانونية، بين النظام والفوضى، نفسها على أساس كونها ضرورية، بمعنى أن السلطة توظف اللغة الجنائية والعقابية للتعبير عن نفسها كسلطة ممارَسة، كمصلحة، كنظام. ويتعلق الأمر هنا بلغة دامغة، غير قابلة للاستئناف، منفلتة من الشك، تتحدث بصوت مرتفع وتؤدي وظيفة تعليمية. أجل، من اللازم أن يتعرض النص المكتوب على جسد المحكوم عليهم للتشهير العلني في الأزقة، وأن يعرض في الأماكن المرتادة من طرف الناس بكثرة والأكثر منظورية، مثلما هو الحال بالنسبة لكومة التراب الواقعة وسط سوق مراكش والتي يفوق علوها ارتفاع الدور والدكاكين المحيطة بها. إن الأجساد المصلوبة والمعروضة فوقها، تلك الأجساد الممزقة، تتحدث من تلقاء نفسها، بكل بداهة، عن النظام القائم والسلطة الممارَسة. الأثر القانون الإسلامي لا يعرف تطبيق التعذيب، تلك التقنية المستعملة في العالم الغربي كوسيلة للإثبات التدريجي والمتزامن لحالة الإجرام والعقوبة ، والتي تعتبر جسد المتهم مادة شمولية للتعذيب. هكذا، وفي حالة القانون المالكي، فإن إثبات الإجرام يستلزم أساسا تدخل الشهود، أما سرعة تطبيق الأحكام بالإعدام، فهي تكشف غياب الاستكشاف المؤلم للجسد الذي طورته أوربا. ويبدو أن هذا التحفظ إزاء اللجوء للتعذيب مرتبط بنفور القانون الإسلامي من بتر الأعضاء، وذلك إذا ما استثنينا حالة قطع يد السارق التي تظل حالة فريدة. وفي هذا الإطار، فإن فتوى يتضمنها كتاب «الجواهر المختارة» للزياني تشكل مثالا جد معبر عما سلف ذكره، وهي فتوى منسوبة لمحمد العربي الفاسي. حين سؤاله حول موضوع تطبيق المسلمين لنفس العقوبة التي يطبقها البرتغاليون ضد أتباع محمد، أي بتر الأذن وإلحاق جروح بالوجه، حين استفساره عن تطبيق المعاملة بالمثل ضد الأسرى النصارى الذين يحاولون الفرار، أجاب محمد العربي الفاسي بالسلب. وتتضمن رسالة بعثها ألفارو دي نورونيا إلى ملك البرتغال، إيمانويل الأول، حوالي سنة 1519 موقفا مماثلا لمضمون الفتوى السابقة الذكر: «أما الطريقة التي يأمر سموك بمعاقبتهم بها، فهي غير مستعملة لدى العرب، ذلك أن طريقتهم الوحيدة في العقاب تطال الممتلكات، وهم يؤدون مبلغا ماليا حسب طبيعة جرمهم. وحين تعرض أحد أقاربهم لقطع الأذنين أو للجلد، يتولد لدى العرب رعب يفوق بكثير الرعب الناتج عم حجز مجموع ثروة القريب المعني». ومع هذا، فإن «تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية» المجهول الكاتب، يروي أن محمد الشيخ المهدي، حين حاصر فاس لأول مرة في 1549، بتر جزءا من أذن الفاسيين الذين حاولوا الفرار من المدينة للعودة إلى معسكرهم. وبفعل ذلك، صار أثر جسدي يكشفهم في حالة العود، مما يترتب عنه إعدامهم. وتذكر هذه الرواية بإحدى أساطير حملة عقبة بن نافع الأسطورية على شمال إفريقيا، إذ أمر الفاتح الأسطوري، حسب البكري، بقطع أذن، أو أصبع أو أنف الملوك الواحد تلو الآخر بعد هزمهم حتى لو استسلموا طوعا، وذلك كي لا يرغبوا البتة في الانتفاض ضد الإسلام مجددا . ورغم فظاعة بتر الأعضاء والآثار الجسدية المترتبة عنه- أو ربما بسبب هذا؟- فإن السلطة تعبر عن نفسها بواسطة بصمات غير قابلة للانمحاء، بصمات تحول الجسد إلى ذاكرة لا يطالها المحو. وعن طريق روايته حول الفاسيين المبتوري الأعضاء، فإن صاحب «تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية»، المعادي بجلاء للسعديين، يبين الطابع اللا يطاق للاستبداد الذي كان سيؤسس في المدينة. وعقب هذه الحكاية، وفي مكان آخر من نفس النص يتعلق بحدث اغتيال عبد الواحد الونشريسي من طرف عصابة من اللصوص (السياب) مسخرة من طرف محمد الشيخ، يحكي المؤرخ المجهول كيف قطع القاتلون إحدى يدي العالم خلال المواجهة. إن مشهد بتر يد الونشريسي من قبل لصوص (علما أن قطع اليد كان عقوبة السرقة)، يجسد، في الواقع، قلبا فعليا للنظام، قلب يعبر من خلاله الطابع غير المشروع والعنيف للحكم الجديد عن نفسه. ويمكننا التساؤل أيضا إلى أي حد يجسد تدخل السلطان في مجال بتر أعضاء الضحايا، في الواقع، محاولة للحلول محل الخالق بوصفه متحكما في المادة، وفي الجسد والرفات.