تحل علينا الذكرى الثانية لوفاة الناقد العربي الدكتور مصطفى ناصف لنستحضر جانبا من أفكاره التأويلية التي لم تحظ بالدراسات اللازمة من قبل النقاد والمهتمين و لعل ذلك راجع في اعتقادنا إلى صعوبة تلقي فكر الرجل الذي لم يكن ناقدا بالمفهوم المتداول للكلمة بقدر ما كان مؤولا يخوض غمارالنص الشعري بما رسخ في ذهنه من أفكار وتوجهات الفلسفة الظاهراتية يقدم الدكتور مصطفى ناصف مفهوما شموليا للنص، ويتحدث عنه كمعطى مختلف عن كافة المعطيات التي يتلقاها وعي المتلقي. وعندما نقول مفهوما شموليا فإننا نقصد بذلك عدم تحديده لمفهوم قار للنص. وهذا راجع عنده إلى تنوعه وعدم انحصاره في نمط إبداعي واحد، فالنص تارة له من السمات اللغوية ما يجعله مستودعا لخبرات واسعة، ومجالا لتحديد نمطية أدبية أو دينية تارة أخرى، تتعالى عن الإطار الضيق الذي يمكن للقارئ أن يحصره فيه. كما أن للنص من المقومات الذاتية والمضمونية ما يجعله منهلا ليس فقط للقارئ كذات، بل للإنسانية قاطبة وبالتالي ينفلت النص من قبضة الإطار أو السياق سواء كان تاريخيا أو ثقافيا. ولتوضيح ذلك يسم ناصف النص بكتاب الإنسانية المفتوح على كل الخبرات والمقاصدة، كما يصفه بالنص العظيم الذي يتعالى عن أي نزعة ضيقة وبالتالي فإن « كل نص عظيم ليس صورة لنفسية فرد، ولا مرآة لعقلية شعب،ولا سجلا لتاريخ عصر، إنما هو كتاب الإنسانية المفتوح، ومنهلها المورود. وبعبارة أخرى كل نص عظيم يتجافى عن المشارب والنزاعات الانعكاسية الضيقة .كل نص عظيم يتحدى إطار التاريخ أو يُقاومه..»(1). من خلال هذا النص نتساءل : كيف يمارس النص انفتاحه ؟ كيف يحقق عظمته ؟ وما مردُّ هذه العظمة؟ هل لمبدأ الانفتاح نفسه؟ أم لعناصره الذاتية والنوعية؟ تستطيع هذه الأسئلة مساعدتنا على بلورة مفهوم للنص كما حظي به التصور الناصفي إذ لا شك أن الارتقاء بالنص إلى مستوى الإنسانية قاطبة بل واعتباره موردها الرئيس، هو سعي لتخليص النص من أي نزعة علموية ضيقة. إنه ارتقاء بالنص إلى المراتب المقدسة التي تتعالى فيها عناصره على الانجذاب لأي منزع ظرفي أو مناسباتي لأن «الظروف والمناسبات قد تكون عدوانا على النص ...» (2) كما يؤكد هو نفسه طبقا لتصوره الفينومينولوجي. هكذا يفهم النص على أنه شيء معطى متحرر من سمات الواقع أو عدوان الظروف التي طالما أسست لخلود النص أو ساعدت في إيجاد منهجية لمقاربته. النص ... السؤال النص بهذا المفهوم غير ذاك الذي ندخله من بوابة الظروف المساعدة على بنائه، وليس هو ذاك المسيج بأسرار المؤثرات البيئية والثقافية، النص من المنظور الناصفي، هو منبت التساؤل ومنطلقه، وهو لذلك حي في أذهاننا نجِلهُ ونكبِّره ، ما دام يمارس حضوره فينا عن طريق إيقاظ جذوة السؤال لأن « إكبار النص لا علاقة له بفكرة المدح . الإكبار الحق هو المشاركة في التساؤل.(3). وكما أن النص العظيم يتجافى عن المشارب الإيديولوجية، أو ينأى بنفسه عن ما يُوصف بالمؤثرات الخارجية ليمارس حضوره في سيرورته الأزلية ، فإن وسْمَهُ بالجودة أو الرداءة، هو إضاعة له من جهة أنه « ليس هناك نص جيد ونص رديء .. »(4) فالنص يقدم نفسه باعتباره معطى ينطِقُ ويبوح، والقارئ يصغي وينحني، يحتفي ويُجلُّ. فالقراءة تبعا لذلك هي ما يوصف بالرداءة أو الجودة وليس النص كما يعتقد في الأدبيات النقدية .فقط علينا أن ننتبه إلى قدرة النص على الحضور فينا عن طريق السؤال لكن من حقنا أيضا أن نسأل من أين للنص هذه القدرة؟ وما موادها الأولية؟ لا قدرة فوق قدرة النص على صناعة السؤال، أما القارئ فما عليه سوى الارتياب تارة والتعاطف والصبر تارة أخرى. وجدير بالذكر أن سؤال النص يأخذ صورا عديدة أبرزها: المحاورة ? فكل نص يتملك جوانب تغري نصوصا أخرى بأن تتقدم إليه، وبالتالي يصبح النص «خطاب يحرك سائر النصوص ويغريها بأن تتقدم إليه. ولذلك كان تفهم نص تفهما للخطاب المتبادل بين النصوص.. »(5). قريب إذن مفهوم المحاورة من مفهوم التناص كما نجده عند نقاد الغرب المحدثين لكن هذا القرب يجب أن يجعلنا محتاطين في الإقرار بحتمية تماثل المفهومين ، وذلك لسبب رئيس هو أن التناص في المفهوم النقدي هو نوع من «تقاطع النصوص والملفوظات في النص الروائي الواحد... »(6) . أما المحاورة في تصور مصطفى ناصف فهي امتلاك النص لخاصية الكلام، أي القدرة على ممارسة هذا الفعل انطلاقا من الزمن الذي أنتجه .لأن «النص صوت إنسان يحدثك من الماضي، ويأخذ مكانه بجانبك في هذا الزمان... »(7) فما معنى أن يأخذ النص القديم مكانه معك في الزمن الحاضر؟ إن الجواب عن هذا السؤال يحيلنا مباشرة إلى جوهر الفلسفة التي ينطلق منها التصور الناصفي لتحديد مفهوم النص، إنها الفلسفة الظاهراتية ... التي ترى أن حضور الأشياء ومنها النص الأدبي، هو حضور في وعي المتلقي، ومعنى ذلك أن الحضور هنا هو حضور في وعي القارئ،لأن النص يصبح جزءا من مكونات هذا الوعي، وعندما نقول « مكونات « فهذا يعني أن النص هو صورة هذا الوعي أي تجسيداته الفعلية، ومظهر من مظاهره العقلية ، وبالتالي بات من الواضح أن يكون النص من صناعة الوعي نفسه ف « نحن نصنع النص بعقولنا واهتمامنا ..(8). من جهة أخرى، إذا كان النص يمارس وجوده من خلال فعل المحاورة: أي النشاط التفاعلي الذي يحدثه مع نفسه ومع النصوص الأخرى، فإن هذا الفعل لا يصبح إجرائيا إلا انطلاقا من قاعدة رئيسية هي: السؤال ، الذي به ومن خلاله نقتحم تخوم النصوص الأخرى ومناطقها المنسية ، غير أن آلية السؤال لا تنشط إلا في حضور عناصر أخرى لا تقل أهمية في تحديد مفهوم النص عند ناصف. والتي منها : الكلمات النص ... الكلمات يرى ناصف أن النص يمارس حضوره من خلال نشاطه اللغوي لكن شرط عدم النظر إلى اللغة من زاوية النظام ومفاهيمه ، كالنسق أو التركيب مثلا. إن النص لا يكون إلا من خلال اعتبار اللغة مستودعا لخبرات واسعة وقد أشرنا سابقا أن النص هو كتاب الإنسانية المفتوح وأن انفتاحه رهين بمدى القدرة على استيعاب طاقته اللغوية « فكل نص عظيم يجعل اللغة ملكا له، إن النشاط اللغوي مغزاه أن فكرة الكلمات مقلوبة في أذهاننا ... »(9). إذن لتوصيف النص أو الخروج برؤية واضحة حول مفهومه يدعونا ناصف تبعا لمنظوره الفينومينولوجي إلى إعادة النظر في فكرة الكلمات وتصحيح ما يبدو لنا الآن بديهيا حولها. إن الأولى في النظر الناصفي التحرر من الرؤية المعتادة للأشياء، فالكلمات التي تكوِّن دلالة النص وتعلن هويته هي أيضا بؤر دلالية تمارس وجودها باعتبارها أنظمة مفتوحة، لكنها ممتنعة البوح عما تحمله من دلالات. ولا يمكن للنص أيا كان جنسه أن يؤسس لحضوره في ذهن المتلقي إلا بالإيمان بأن « النصوص تنشأ من أجل مواجهة كلمات ... »(10) وأن كل «نص يحيل بعض الكلمات على الأقل، إلى تساؤل خصب، مبارك ... ومعنى ذلك أن النص يعيد تكوين الكلمات، وإخضاعها لسلطان قوي غريب. ولكننا دأبنا على أن نتصوره كوحدات ينضم بعضها إلى بعض انضماما سطحيا ... »(11). نستنتج من خلال ما سبق أن مفهوم النص في التصور الناصفي، يحتاج إلى وقفة تأملية، تعيد قراءة المفاهيم بشكل مغاير لما هو مألوف في الدراسات النقدية القديمة والحديثة. ومما يدل على هذا وفي السياق نفسه - سياق بلورة مفهوم ناصف للنص - تستوقفنا هذه العبارات التي تعكس هذا التوجه، والتي نعثر عليها في مقدمة كتابه «صوت الشاعر القديم « حيث يؤكد فيها أن « النصوص تتحدانا وتظل تعلق بعقولنا ... »(12). إذن فالكلمات هي آليات يتعزز بها وجود النص، فهي قلاع حصينة يحتاج مريدوها إلى القوة، والقدرة على النفاذ والاختراق: اختراق جدار الكلمة يعني الانخراط في سياقها الدلالي أي عالمها الكبير... ذي الالتواءات المتعددة.. إن النص إذن جمَّاع هذه البؤر وهذه القلاع، من هنا فهو يتحدانا بأن نقرأه قراءة نِدِّية، أي من نفس موقع القوة. فالأمر عند ناصف شبيه بحلبة مصارعة يراهن فيها كل طرف على قوته الذاتية.ذلك أن قراءة النص هي بمثابة منازلة بين طرفين حيث « ما أكثر ما تشبه القراءة بالمصارعة ... » (13). مفهوم النص الشعري عند مصطفى ناصف. لا نعثر- في ثنايا مؤلفات الدكتور مصطفى ناصف - على تعريف قار للنص الشعري، أي التعريف الذي بموجبه يتعين النص من خلال حَدِّهِ، أو عناصره ... ولكننا نستطيع مع ذك أن نستشف مفهومه هذا من خلال حديثه عنه في سياقات فكرية مختلفة ومتعددة. النص ... القصيدة اللافت للانتباه هنا، هو أن حديث ناصف عن النص الشعري لا يكون إلا من خلال توظيف لفظة « القصيدة» التي غالبا ما تتكرر في مجمل مباحثه، وذلك على حساب تعبير، « النص الشعري» . لكن بالرغم من هذا المنحى التخصيصي فإن أغلب تعريفاته لا تنصب سوى على الصفة بدل الموصوف. ومن مظاهر ذلك اعتباره « القصيدة عالم مكتف بنفسه، يحتاج إلى أن يطرق بابه طرقات متعددة، قارئ قوي رفيق معا حتى يؤذن له بالدخول ... »(14) حيث نستشف من هنا أبرز سمة يسم بها القصيدة بما هي كيان له وجوده الذاتي المستقل. إن القصيدة الشعرية عند ناصف عالم شاسع وكبير، لا يمكن حصره أو تحديده، ولا حتى إمكانية تسييجه في نطاق بنية نظامية محددة. ويعني هذا أن القصيدة تبني كيانها من خلال وجودها اللغوي من جهة، ومن خلال امتناعها عن أن تكون في متناول المتلقي على اختلاف مستوياته وأنماطه. غير أن شساعة القصيدة وامتدادها، لا يفسر أبدا اتساع رقعتها الدلالية إلى الحد الذي يعجز فيه المتلقي عن المواجهة، ذلك أن الامتداد ينطوي على صعوبة في مواجهة هذا العالم المجهول، إلى الحد الذي يمكن فيه الدخول إلى عوالم داخلية مغلقة وعسيرة. تحتاج إلى وجود قارئ قوي يستطيع اقتحام الجزر البعيدة والحفر في الصخور الملقاة في عمقها الباطني، ذلك أن «عالم القصيدة مغلق وعسير...»(15). من جهة ثانية يرى ناصف أن القصيدة تنطوي على مستويات نمطية مختلفة فمنها القصيدة البسيطة التي يسهل إدراك دلالتها، ومنها التي كلما ازددت تمعنا فيها ازددت خبرة وإلماما بمكوناتها وعلى رأسها المكون اللغوي. وحدة القصيدة وسواء كانت القصيدة ذات حمولة دلالية ثقيلة، أو لم تكن كذلك، فإن المهم بالنسبة للتصور الناصفي هو اعتبارها وحدة متكاملة متجانسة الأجزاء، مترابطة الأطراف، يحكمها تيار واحد يقوم بوظيفة الربط بين العناصر المتباينة. إن للقصيدة لحمة دلالية واحدة، وهذا على الرغم من وجود الأجزاء المتناقضة (أغراض ومواضيع) داخلها، ذلك أن التناقض هنا هو مجرد تناقض شكلي، والأولى بالنسبة لناصف الإمساك بتلابيب الدلالة وتجاوز التقسيمات الشكلية التي قد تقتل الجسم الإبداعي الواحد. والطريف هنا هو تأكيده على مبدأ الترابط الدلالي بين الأجزاء المتباينة بالرغم من وجود تباعد بين هذه الأطراف، فقد تكون هناك صلة دلالية قوية بين رأس القصيدة وقدمها أي بين (غرض وغرض) حتى وإن كان الظاهر يمنع ذلك، فالشكل الذي تبنى عليه لحمة القصيدة غير مهم وغير ذي جدوى ،الأهم عنده هو باطن القصيدة وما يحمله من دلالات. لقد «أهملنا ما قد يصحب الأجزاء المتباينة من تشابك بعيد في إيقاع المعنى نفسه. أليس من الممكن أن تقع أقسام القصيدة المتباينة في معناها المتبادر المألوف في أحضان معنى كلي أوسع ... »(16). فالمتأمل في هذا النص يدرك تماما الرؤية التي ينطوي عليها مفهوم القصيدة عند ناصف، لأنه يصيب عمق تصوره، لما ينطوي عليه من أفكار أبرزها، وجود تشابك دلالي عميق يجمع بين أغراض القصيدة بالرغم من تباين هذه الأغراض التي تبقى في النهاية مجرد أشكال يضطر الشاعر للخضوع إليها تلبية لقانون إبداعي سائد وسواء اعتبرنا القصيدة الشعرية عالما ممتدا وشاسع العمق أو اعتبرنا هذا العالم كيانا بلا حدود، فإن الأهم بالنسبة لنا هو ضبط الرؤية الفلسفة/النقدية التي يصدر عنها ناصف والتي تتلون من خلالها كافة إنتاجاته المعرفية في مقاربة النص الشعري. إنها الرؤية الهيرمونطيقية التي تتفتح على الحقيقة سواء كانت مستترة في القصيدة الشعرية أو شملت الوجود بأسره ، التي تعني مظاهر الحضور الفلسفي الوجودي الهيدغري الذي تأثر به ناصف وكذلك الفلسفة الفنومينولوجية التي تلاقحت مع التأويل وعملتا جنبا إلى جنب على ميلاد المفاهيم القرائية التي حظيت بها الرؤية الناصفية للقصيدة الشعرية القديمة. ويبقى مفهوم القصيدة الشعرية هنا على رأس هذه المفاهيم ، فقد رأينا من قبل أن الكلمات في النص هي سياقات متداخلة تكوّن في اجتماعها بؤرا دلالية نابضة بالحياة ، وأكدنا من خلال ذلك على الطابع المتحرك للنص، فالنص ليس معطى جامدا بل هو عالم تتحرك بداخله كافة المكونات البلاغية والدلالية. يتبين مما سبق أن مفهوم النص عند مصطفى ناصف هو مفهوم أقرب إلى الفلسفة منه إلى النقد الأدبي ، لهذا يحتاج إلى المزيد من الدراسات و الجهود لكشف النقاب عن ناقد فذ عاش بعيدا عن الأضواء ومات كذالك... هوامش 1 - اللغة والتفسير والتواصل: مصطفى ناصف، ص: 77. 2 - محاورات مع النثر العربي، مصطفى ناصف، ص 09 ، عالم المعرفة ع 218 فبراير 1997 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت. 3 - نفسه . 4 - نفسه 5 - نفسه . 6- القراءة وتوليد المعنى تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي: حميد لحميداني ، المركز الثقافي العربي، ط1، سنة 2003، ص 23. 7 - محاورات مع النثر العربي ، ص: 09. 8 - نفسه ، ص: 08. 9 - اللغة والتفسير والتواصل ، ص: 76.. 10 - نفسه. 11 - نفسه 12 - صوت الشاعر القديم : مصطفى ناصف ، ص: 06.. 14 - اللغة والتفسير والتواصل ، ص: 295. 15 - قراءة ثانية لشعرنا القديم : مصطفى ناصف، ص: 06. 16 - نفسه..