في سياق عربي يطبعه الترقب والقلق المفتوح على كل الاحتمالات، تعيش الشعوب العربية محطة حاسمة ومفصلية في تاريخها الحديث. فإما أن تقطع مع الأنظمة الديكتاتورية التي عمرت لعقود بفضل إحكام سيطرتها وتحكمها في كل دواليب الحكم عسكريا، سياسيا واقتصاديا وتستنهض إرادتها وعزيمتها لتكسر شبح الخوف الذي لازمها لعقود، وتقررالتضحية بالغالي والنفيس من أجل سيادة الديمقراطية والحرية والكرامة في ربيعها العربي الديمقراطي، وإما أن تستمر في استسلامها وتقبل بالوضع كما هو. بعض السمات البارزة في الربيع العربي انفجر الغضب الشعبي العربي بدءا من تونس ليشمل مصر وليبيا و اليمن وسوريا، وإذا كانت مطالب هذه الشعوب قد اختلفت من دولة لأخرى، ما بين مطلب إسقاط النظام ومطلب الإصلاح، فإن بعضها التي تماطلت في الاستجابة لمطلب الإصلاح قد دخلت في دوامة لا يمكن التنبؤ بنتائجها في القريب المنظور، وفضلت في النهاية مواصلة استبدادها و ممارسة كل أشكال القمع الدموي، واستعمال كل أشكال آليات البطش بأرواح مواطنيها، متجاوزة في ذلك العهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، لدرجة أنهم فرضوا علينا كمتتبعين ومهتمين بما يجري عند إخواننا مشاهدة، الفضائيات التي تنقل المشاهد المؤلمة، حتى عادت تلازمنا ونحن حول موائد الأكل، وصرنا نتأكد يوما بعد يوم من أن هذا الوضع أضحى يشكل جزءا من النظام الدولي انطلاقا من ساحات التغيير: ففي تونس فهم بن علي منذ البدء أن الأمر غير قابل لأية مساومة فما عليه إلا التنحي، وفي مصر كانت 18 يوما كافية ليعلن الفرعون عن تخليه عن السلطة، بينما لم ينفع مع علي عبد الله صالح لا وعوده الكاذبة ولا تهديداته لإيقاف غضب الشارع اليمني فكان ما كان. غير أن الشعب السوري مصر على تحقيق التغيير بعد 6 أشهر من الغضب والصمود. كل هذا يطرح سؤال أفق هذه الثورات في غياب أي وضوح حول أي الخيارات أصلح؟ أهو الخيار العسكري أم الخيار السياسي؟ لأنه بقدر ما تصر الأنظمة على الاستمرار في سياسة القتل والتقتيل، بقدر ما يصر الشارع على المزيد من التضحيات بعدما أدرك أن الديمقراطية والحرية لهما ثمنهما الذي لا يضاهيه ثمن. سمات الظرفية الوطنية في ظل هدا السياق العام المتسم بالتحولات المتسارعة على جميع المستويات والتي تظل مفتوحة على كل التوقعات و ترهن مستقبل الديمقراطية في العالم كله، نستحضر الظرف الوطني الخاص، والمتميز للغاية، بالعودة إلى العشر السنوات الأخيرة التي عاشتها البلاد على إيقاع خاص، ذلك أن المغرب دخل مسلسل الانتقال الديمقراطي دون استراتيجية واضحة ونتائج محددة في الزمان، مما أدى إلى خيبة أمل، وبالتالي وجدت الأحزاب التي قبلت بالدخول في هذه التجربة (الإتحاد الاشتراكي) أمام نيتها الحسنة. حسب مثل عربي قديم (طريق جهنم معبدة بالنيات الحسنة)، مما أثر سلبا على المسيرة التنموية التي كان لها وقع عميق على طموحات وتطلعات المجتمع خاصة الشباب. إنه الوضع الذي فجر حركة شباب 20 فبراير في ربيعها الديمقراطي المغربي لتؤسس لوعي جنيني جديد من أجل ثقافة حديثة ترجمها في شعار الشعب يريد....؟ لقد رفعت حركة الشباب مطالب مشروعة وواقعية من قبيل إسقاط الفساد (الامتيازات، اقتصاد الريع وإبعاد المفسدين عن السياسة، و عدم الإفلات من العقاب...) بكل أشكاله كعنصر أساسي ساهم في إفساد الحياة العامة، في غياب عدالة اجتماعية حقيقية، حتى أصبحت الحركة تشكل نموذجا مغربيا بحكم التزامها بمبادئ التأسيس القائمة على السلم والمطالب الشرعية، دون اللجوء إلى العنف رغم كل الاستفزازات ومحاولات الاختراق، كما أن إيمانها بحقها في الاحتجاج والتعبير بهده الطريقة جعلها تكون في مستوى اللحظة، من حيث احترامها لأمن وسلامة واستقرار المواطنين على الرغم من أن ذلك لا يعفي المعنيين من القيام بدورهم في السهر على احترام القانون وضمان الشروط السلمية لكل المواطنين حتى يساهم الجميع في تحقيق التغيير والإصلاح. إن ملازمة الحركة للشارع، وعدم عدولها عن مطالبها، أبان عن عودة الثقة لدى الشباب المغربي في نفسه، بعد إزالة هواجس الخوف، والترقب والانتظار التي تحكمت في مستقبله ومصيره لعقود، ليجهر بمطالبه وفق أجندة نضالية واضحة ودقيقة شكلت القاسم المشترك بين كل مكوناتها، إنها المطالب التي تجاوب معها الدستور روحا ومنطوقا (الباب 12 من الدستور الفصول: 154 155 156 157 158) . وفي ظل هذا الحراك المتواصل، جاء الخطاب الملكي التاريخي ل9 مارس يؤكد على الإرادة السياسية في الإصلاح الحقيقي من خلال ركائزه السبع، مما أجج أكثر حماس الشباب الذي أضاف له (الخطاب) جرعة جديدة من اليقين في شرعية مطالبه ليلتحق بالشارع حشود من المتظاهرين الجدد. في ظل هذا الحماس يصبح المواطن على موعد غير مسبوق لإعادة صناعة تاريخه الحديث، وتجديد بناء مجتمع المواطنة. هكذا انطلقت أشغال اللجنة الاستشارية الخاصة بإعداد دستور جديد دامت ثلاثة أشهر، أمضتها وهي تصغي إلى كل الفرقاء والفعاليات المتعددة التوجهات والرؤى، وظلت تعمل تحت ضغط الشارع الذي واصل احتجاجاته ملتزما ببرنامجه، وضغط الخارج المتمثل في الاتحاد الأوربي (الوضع المتقدم) إضافة إلى ضغط المحافظين، فكان على اللجنة أن تعد دستورا يستجيب لكل التطلعات. اعتقد الجميع أن فاتح يوليوز تاريخ الاستفتاء سيكون حاسما في دور حركة 20 فبراير غير أن الرياح جارت بما لا تشتهي السفن. وهنا تجدر الإشارة إلى الدور الايجابي والبارز لوسائل الإعلام خاصة السمعية والبصرية التي فتحت نقاشا واسعا وحرا حول وثيقة الدستور، وسمحت للجميع بالتعبير عن رأيه والجهر به بما فيه المقاطعين والرافضين لهذا الدستور، وشكلت هذه الدينامكية الإعلامية بحق لحظة نقاش عمومي بامتياز. لقد شارك المواطنون بنسبة مشرفة في عملية الاستفتاء، إذ بلغت 73 في المائة صوت منها بنعم على الدستور 98 في المائة حسب النتائج الرسمية، و كلهم أمل على أن يقطع الدستور الجديد مع كل السلوكيات والممارسات التي حالت دون ترسيخ ديمقراطية حقيقية، وليتم التفعيل الجيد لمضمونه لتجاوز المخاطر الأولى. غير أن عملية التصويت الايجابي على الدستور لن توقف الجدل بشأن هذه الوثيقة، لأن النقاش العميق هو الذي سيباشر بعد التنزيل، وربما سيشتد الصراع حول القوانين التنظيمية والنصوص التشريعية المستمدة من روح هذه الوثيقة لتسهيل عملية الأجرأة والابتعاد عن كل تأويل غير ديمقراطي، قد يسمح لأي كان بتجاوز القانون تحت أية طائلة أو مبرر. ولا شك أن هذا سيشكل الخطوة الأولى نحو عودة ثقة المواطن في الإدارة الترابية والمؤسسات المنتخبة، وتحفيزه للتصالح مع صناديق الاقتراع، ونبذ كل الممارسات الانتخابوية المعهودة. و رغم ذلك سيظل الوضع مفتوحا على كل السيناريوهات في ظل الإبقاء على العمال والولاة وأعوانهم، الذين عرفوا بتورطهم في الاستحقاقات الماضية وإفسادهم للمشهد السياسي.إن المدخل الأساسي لإحداث تصالح حقيقي يكمن في كل الجوانب ذات الصلة بالدستور، كالتقطيع الانتخابي الذي ظل يرسم خرائط سياسية متحكم فيها وفق أجندات معينة، إضافة إلى اعتماد البطاقة الوطنية كوثيقة واحدة ووحيدة في التصويت. إن الجميع ينتظر التفعيل الأمثل لمضامين الدستور، يعتبر المحك الحقيقي لإعادة بناء علاقات جديدة تقوم على الثقة بين المجتمع والدولة وكل مكوناتها، إذ كان من الممكن أن يكون قد تحقق لو تم التعامل مع المواطنين بالمفهوم الجديد للسلطة الذي كان من شأنه إحداث ثورة حقيقية في المجتمع منذ عشر سنوات خلت. وخلاصة القول إنه رغم تمتيع الشعب المغربي بدستور متقدم يرسم آفاقا جديدة للممارسة الديمقراطية، فإن كل الإصلاحات على أهميتها، ستظل دون جدوى إن لم يتم: 1) تحريك المساطر القضائية ضد المفسدين عامة إعمالا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما هو وارد في الباب الثاني الفصلان 157 - 158 من الدستور. 2) العمل على تغيير العقليات والسلوكيات لدى أفراد المجتمع بإحداث ثورة ثقافية جريئة وهادئة يتحمل فيها المجتمع المدني دورا أساسيا في التحسيس والتوعية والتتبع والمراقبة الفعلية حتى لا تعود جيوب مقاومة الإصلاح للاستقواء، لأن الخطر كل الخطر هو إجهاض حلم الربيع الديمقراطي. فهل يستطيع المجتمع المدني أن يلعب هذا الدور رغم ما يلف بعض مكوناته من غموض وعدم الوضوح؟ هل ستفرز أحزابنا الوطنية الديمقراطية اليسارية نخبة جديدة بإمكانها مواكبة مقتضيات الدستور الجديد،لتكون في مستوى اللحظة، والتحديات الراهنة والمستقبلية؟ (*) عضوة المجلس الوطني [email protected]