يقتصر هذا الكتاب على دراسة المظاهر الغرائبية المتصلة بالمغرب والواردة في مؤلفات الرحالين الفرنسيين الذين زاروا المغرب أو أقاموا فيه لبعض الوقت. وينتمي هؤلاء الرحالة إلى فئات جد متنوعة تتّسع لتشمل السفراء والقناصل ورجال الدين والعبيد والضباط والجنود والمستكشفين والجغرافيين والتجار والموظفين والأدباء والصحفيين والسياح.. كما أن مؤلفاتهم هي كذلك جد متباينة وتتنوع بين الأخبار التوثيقية والمقالات التصويرية والذكريات والمراسلات وكراسات الأسفار والتحقيقات واليوميات إلخ...وتنتسب جميع هذه الكتابات، الجد مختلفة شكلا ومضمونا، والتي تتوزعها الانطباعات السريعة لمسافر عابر، والروايات الموضوعية الناجمة عن إقامة طويلة في البلد، إلى عنوان عام هو «أدب الرحلة». ويشار إلى أن معظم الفصول التي يشتمل عليها هذا الكتاب قد تمّ تحريرها انطلاقا ممّا دوّنه المؤلف عندما كان يعدّ دروسا ميدانية عن الأدب الغرائبي والكولونيالي كان يلقيها أواخر عشرينات القرن الماضي على طلاب معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط (كلية الآداب حاليا) . وقد أضاف إليها بعض العناصر الضرورية لاستكمال التدرج التاريخي للوقائع، والربط بين أجزائها المتفرقة، وتقديمها في شكل لوحة متناسقة. لقد أصبح شيئا مألوفا اليوم (1932) أن تضم البعثات السفارية إلى البلاد البعيدة الصحفيين والمصورين والسينمائيين إلى جانب رجال الأدب والرسامين الذين تعودوا في السابق مصاحبة السفراء المبعوثين إلى المغرب. ونحن نعرف أنه بهذه الطريقة قام الكاتب بيير لوتي بسفره إلى مكناس، كما نعلم كذلك أن الرسام أوجين دولاكروا سيصير أحد أعضاء سفارة م.دو مورناي إلى المغرب سنة 1832. ومنذ بعثة الكونت برونيون، تحت النظام القديم، كانت علاقاتنا مع المغرب قد انقطعت لأن الاهتمام كان منصرفا إلى أماكن أخرى. وفي سنة 1830، وقع حادث مهم هو احتلال الجزائر من طرف جيوشنا الذي أعقبه استقرارنا في هذا البلد. وكان الهدف المرسوم للسفارة التي كلف بها م.دو مورناي هو تحديدا الحصول من السلطان على حياده تجاه ردود الفعل الجزائرية، وأيضا محاولة إثنائه عن نواياه بصدد إقليمتلمسان. كان أوجين دولاكروا حينها في الثالثة والثلاثين من عمره، ومشتهرا (106) برسمه للوحتي «قارب دانتي» و»مذبحة سيو»، إلى جانب لوحات أخرى توطدت فيها موهبته كرسام حامل لحساسية جديدة. وهو لم يكن يفكر قطعا في زيارة المغرب عندما بلغه، عن طريق أصدقاء مشتركين، أمر هذه السفارة الرسمية التي سيقوم بها م.دو مورناي لدى السلطان مولاي عبد الرحمن. ولكن فضوله كفنان جعله يتشبث بهذه الفرصة التي ستسمح له بمشاهدة البلاد الإفريقية بأنوارها وألوانها وشخوصها، ومن هنا قبل بالانتساب إلى أعضاء هذه السفارة. وقد عاد دولاكروا من رحلته هاته، ليس فقط بعدد هائل من التخطيطات والرسوم التي ستصير فيما بعد موضوعا لتشكيل كبريات اللوحات وأشهرها، ولكنه أيضا حمل معه دفتر سفر سينشر بعد ذلك ضمن مذكرات الفنان. وإلى جانب ذلك كان قد بعث إلى أصدقائه بمجموعة من الرسائل من المغرب.و هذه المراسلات سوف تظهر بدورها في المكتبات. وعبر هذه الكتابات المتنوعة سنرافق دولاكروا في رحلته إلى طنجة و مكناس قبل مائة عام. كان الانطلاق من مدينة تولون في الأيام الأولى لشهر يناير من عام 1832، وبسبب سوء أحوال البحر كان العبور طويلا ولم يمكن الوصول إلى طنجة إلا بعد حوالي اثني عشر يوما. وأثناء الطريق اضطرت البعثة إلى التوقف بالجزيرة الخضراء حيث تذكر دولاكروا بشغف الرسام الإسباني غويا. وما إن حطت البعثة الرحال في طنجة حتى وجد دولاكروا نفسه مغمورا بالفرح والإثارة والحماس منذ مشاهدته الأولى. وقد تبدو لنا هذه المشاعر التي استولت عليه رومانتيكية نوعا ما، ولكن لا يغرب عن بالنا أن المغرب خلال هذه الحقبة كان ما يزال شديد الانغلاق على نفسه ويحتفظ بغرابة كبيرة. ولذلك كان دولاكروا يشعر بأنه يقوم باكتشاف حقيقي وهو يطأ هذه البقعة من أرض إفريقيا.(107) ومع أن الفرح كان يغمر عينيه في هذه اللحظات الأولى فإنه ظل يخشى عدم القدرة على استيعاب مشاهداته الجديدة والتعبير عنها. وهو وإن لم يكن قطعا يتوقع أن يعثر في ما يراه على مصدر للإلهام سيغذي حياته كلها فإنه كان يتوجس من أن تتلاشى في لحظة كل هذه المشاعر الجياشة وتذهب أدراج الرياح. يكتب في رسالة لصديقه بييري: «لقد جبت توا أطراف المدينة، وعدت وأنا دائخ مما رأيته..ينبغي أن يتوفر المرء على عشرين يد وثمان وأربعين ساعة في اليوم لكي يعطي فكرة عن كل ما يراه..إنني الآن أشبه ما أكون برجل يحلم ويرى أشياء يخشى أن تفلت منه». بعد ذلك ببضعة أيام سيكتب من جديد: «إن كل ما أستطيع إنجازه لن يكون سوى شيء قليل مقارنة بما يمكن القيام به هنا، في بعض الأحيان تتداعى ذراعاي من العمل، وأنا على يقين من أنني لن أعود من هنا سوى بالظلال.» ونحن نعرف أن دولاكروا، بعيد عن أن يحمل لنا ظلالا، فإنه نقل على أوراقه وعلى لوحاته متتالية مثيرة للإعجاب من المشاهد المغربية حيث تضاهي حرفة الرسام لديه موهبة الفنان.ولكي نقتنع بذلك ليس علينا سوى أن نلقي نظرة على ألبومات متحف اللوفر ومتحف الشانتيي التي أعاد فيها م.غيفري رسم لوحاته. كانت أحاسيس الفنان التي بدت مختلطة في البداية قد اكتست بالدقة والوضوح تدريجيا. وقد اضطرت السفارة إلى المكوث في طنجة وقتا أطول مما كان مقررا. لأنه كان عليها انتظار رسالة من السلطان قبل أن تتجه إلى العاصمة مكناس.وكما يسجل دولاكروا في مذكراته «فقد كان المسلمون كثيري التسويف.» ولذلك أقامت البعثة في طنجة إلى مستهل شهر مارس (1832) أي ما يربو عن الشهر. حيث نعم أعضاؤها بالراحة التامة بفضل أريحية قناصل الدول الأوروبية. وخلال كل هذا الوقت عاش دولاكروا حياة الفنان المأخوذ بما يراه في هذا العالم الجديد عليه مستلذا بتذوق جماله ومحاولة نقله وتثبيته على الورق. لقد كان يتلهف للتعرف (108) على كل مظاهر هذه الحياة البدائية التي ظلت عنده محتفظة بكل عظمة الأزمنة الغابرة. ولكن كل هذا لم يكن يتم بدون مصاعب كبيرة لأن « المغاربة كانوا يضمرون كثيرا من الأفكار المسبقة ضد الرسم والصباغة»، ولم تكن القطع النقدية التي يوزعها كافية لإثناء الناس عن موقفهم المناهض لما يقوم به. كان يخطط لمشاريعه في الشارع ولكنه كان يضطر إلى التواري عن الأنظار عندما يرغب في وضع تخطيطات للوجوه. ومن حسن الحظ أن سفيرنا هناك المسيو دولابورت كان يساعده في مهمته بتسهيل لقائه بالأهالي الذين يقوم برسمهم. على أن معظم هؤلاء كانوا من اليهود الذين أظهروا نفورا أقل من العرب. ومن ذلك أنه كان يبدي إعجابا كبيرا بجمال النساء اليهوديات: يكتب في مفكرته: «اليهوديات كن مدهشات، أشبه ما يكن بلآلئ من جنة عدن.» وكان دولاكروا يهتبل حضوره في حفلات الاستقبال التي يقيمها على شرفهم أعيان المدينة لكي يقوم بتدوين ملاحظاته الغنية بالدلالات. وهكذا نعثر في يومياته على إشارات سريعة ولكن بالغة الدقة حول الأشياء والناس والألوان والحركات والإيماءات والألبسة والأثاث والمعمار..وسواء في مفكرة الرحلة أو في مذكرة الجيب كان الفنان يقوم برسم نماذج أو تسجيل ملاحظات توثيقية مما سيساعده فيما بعد على إعادة تشكيل مشاهداته في رسوم ولوحات. هاهو ذا في بيت باشا المدينة حيث يسجل: «كان الباشا يلبس قطعتي حايك فوقهما برنس..مخدة طويلة بألوان زاهية، وأخرى من شعَر، رسوم متعددة، أطراف أقدام عارية، محبرة من القرن وأشياء أخرى صغيرة مختلطة..» ثم يكتب بعد ذلك «كان السقف وحده مطليا، وكانت جوانب الدرابزين الداخلية مزخرفة بالخزف.وفي حجرة الباشا كان السقف مشعّا وعند مدخلها سواري صغيرة ملونة.» بعد ذلك يصف مدير الجمارك (109) وهو «يتكئ على مرفقه وذراعُه عارية..يلبس حايكا فضفاضا حتى رأسه فوقه عمامة بيضاء، وقماش من القطيفة يتدلى على صدره، متحرر من سلهامه وساقاه متقاطعان. كنا قد التقينا به على ظهر بغلة رمادية ونحن صاعدون. كانت ساقه تبدو بوضوح من سرواله ذي الألوان، السرج مكسو من الأمام ومن الخلف بقماش قرمزي اللون، وشريط أحمر يحيط بردف الحصان ويتدلى من الجانبين، وكذلك اللجام الأحمر..وكان مغربي من الأهالي يقود الحصان من عنانه.» إن الدقة الفائقة التي ينقل بها دولاكروا أصغر الجزئيات تدل على المدى الذي كانت تبلغه روح الملاحظة التي سنعثر عليها حتما في عمله الفني. ولأنه لم يكن باستطاعته رسم الناس بسبب امتناعهم عن ذلك، كان الفنان يقتصر على رسم الجياد. خاصة وأن إعجابه بالخيول العربية كان بلا حدود.وهو يحكي لنا مرة مشاهدته لمعركة بين جوادين، وهو نفس المشهد الذي سيشكل موضوعا للوحة سوف يعرضها سنة 1834 بعنوان «صدام فرسان مغاربة». ونحن نجد في مفكرة سفره ما يلي:»مشهد الجياد التي تتعارك: في البداية انتصب الجوادان على قوائمهما وراحا يتعاركان بضراوة جعلتني أرتعش..وأنا على يقين بأنني شاهدت بأم عيني ما اقتصر الرسامان كروس وروبانس على تخيله في لوحاتهما الفانطاستيكية المجنحة..كان الجواد الرمادي قد جعل رأسه فوق عنق خصمه بحيث مضى وقت طويل كان يستحيل فيه على هذا الأخير أن يفلت من قبضته..وكان الجواد الأسود يرفس بعنف وغضب بينما استمر الرمادي في عضّه بقوة..وفيما بعد، ومن دون أن ينفصل أحدهما عن الآخر، سارا باتجاه النهر وسقطا فيه معا وهما ما يزالان في قتال متواصل.» وضمن رسالة كتبها في نفس اليوم نقرأ:»بعد أن تبادلا العضّ بكل الطرائق، متسلّقين بعضهما البعض وسائرين على قوائمها الخلفية مثل بني البشر،(110) انتهيا بالارتماء في مياه النهر حيث استمر النزال بينهما بعنف لا نظير له.» في لوحة الفنان نشاهد الحيوانين كما جرى وصفهما أعلاه بحيث اكتسب الرسم قيمة الشيء المرئي. في لوحة أخرى أكثر شهرة نعثر على نفس الميزة. يتعلق الأمر بلوحة «زفاف يهودي في المغرب» الموجودة في متحف اللوفر والتي جرى عرضها سنة 1841. وقد كان دولاكروا قد قام بوصفها في مقال ظهر له في نشرة فنية. وهذا ما كتبه بصدد الموضوع في دفتره سنة 1832:»الزفاف اليهودي. مغاربة ويهود في المدخل. موسيقيان. الكمان.الإبهام في الهواء. أسفل اليد الأخرى يغمره الظل. مضاء من الخلف. الحايك على الرأس. شفاف من بعض الأطراف.أكمام بيضاء.ظل في العمق..إلى جانب الكمان امرأة يهودية جميلة. صدرية. أكمام. مذهبة ومن قطيفة. يتوزع نصفها على الباب وعلى الحائط.قليلا إلى الأمام امرأة أكبر سنا مدثرة ببياض يحجبها كليا تقريبا..سارية داكنة يمتد ظلها إلى الأمام. النساء على الجانب الأيسر منتظمات كأصص الزهور. اللونان الأبيض والمذهب يهيمنان، وهناك مناديلهن الصفراء. أطفال على الأرض في المقدمة. إلى جوار عازف القيثار هناك اليهودي الذي ينقر على الطبل الباسكي. ظلال وجهه تغطي طرفا من يد عازف القيثار. في مواجهة باب السلم تجلس امرأة بمنديل بنفسجي على الرأس والعنق. يهود جالسون على الأدراج..في الأعلى هناك يهوديات يطللن، واحدة إلى اليسار، مكشوفة الرأس، شديدة السمرة، تبرز على الجدار المضاء بأشعة الشمس، حايك من وبر وعمامة تنحدر على جبينه. اللحية الرمادية على الحايك الأبيض. النسوة في الظل قريبا من الباب، ينعكس عليهن الضوء بقوة. (111)ومع أننا قمنا بحذف بعض العبارات من هذا النص على سبيل إيجازه فإن قراءته تكشف لنا عن دقة الملاحظة ووضوح الإشارة. وأنه بفضل هذه الإشارات التي تأتي مصحوبة بتخطيطات سريعة أمكن لهذه اللوحة أن ترى النور في وقت لاحق. إذا كانت طنجة والشهر الطويل الذي صرفه فيها دولاكروا قد أثارا حماس الرسام، فإن هذا الحماس سوف يتقوى أكثر بسفره إلى مكناس.وقد شهد يوم خامس مارس انطلاق السفارة. وكانت عشرة أيام ضرورية للبلوغ إلى العاصمة الشريفية قضوها على ظهور الخيل عابرين المراحل على الطريق المعتاد الذي يمر عبر الغربية فالقصر، ثم سوق الأربعاء، سيدي قاسم، زرهون ثم مكناس. كانت الملاحظات اليومية التي يسجلها دولاكروا مقتضبة، ونشعر بأنه كان يسطرها من أعلى سرجه أو في المعسكر عند حلول المساء. ومع أنها كانت كذلك، فهي تبدو شديدة الإيحاء. وفيها يجري سرد بعض وقائع السفر من قبيل: النزهات الطويلة عبر المناظر الطبيعية المتنوعة، المدن والقرى التي تعبرها السفارة، عبور نهر سبو (الذي سيقدم لنا عنه لوحة سنة 1839)، الأحداث الصغيرة في الطريق، استقبال زعماء القبائل، ألعاب الفروسية، الإقامة تحت الخيام، الأشخاص الذين يصادفونهم في الطريق... وعبر هذه الملاحظات المسجلة والتي تتخللها الرسوم والتخطيطات نشعر بابتهاج الفنان الذي يترجمه ما يخطه هنا وهناك:»جبال جرداء على اليمين، الشمس فوق، رجال تحت الأشجار، قرب نافورة، رجل يخيط شيئا ما في سرجه، برنس على رأسه مشدود بحبل..أشجار على مقربة من كومة أحجار، جبال مخضرة وتراب أصفر في البعيد.» ولكن توجد هناك أيضا مشاهد أكثر تفصيلا، مثل مشهد الغربية:»القبيلة تتبعنا، فوضى، غبار، (112) يتعقبنا الفرسان، التنافس في إطلاق البارود، الخيول مغمورة بالغبار، الشمس في الخلف..» (نرى هنا مشاهد الفروسية التي أغرت كل الرسامين). في مكان آخر يخط ما يلي:»الدخول إلى القصر الكبير.حشد من الناس.جنود يضربون الحشد بأحزمة. أزقة سيئة المنظر، سقوف مدببة، لقالق فوق كل السطوح، فوق الصوامع، هذه الأخيرة أكبر من كل البنايات، يهود يطلون من كوات.» وأخيرا هناك مشاهد طبيعية كاملة في ضواحي زرهون:»الخروج في صباح مشمس جميل، السير بمحاذاة نهر صغير، الوجوه تضيئها من جهة الشمس المشرقة. جبال صغيرة تبرز على خلفية بيضاء..مواصلة السير بين جبلين ثم عبر ممرات تحفها خنادق عميقة..الوصول إلى هضبة والإشراف من بعد على زرهون. الانحدار إلى ضفة نهر جميل، ضفاف مكسوة بأزهار دفلى صغيرة. متابعة السير على منحدر جبلي وسط الأحجار والأطلال.» يوم الخامس عشر من مارس كان الوصول إلى مكناس والدخول إلى المدينة.وعند هذا الموقع صارت رسائله إلى بييري أكثر بيانا ووضوحا مما كان عليه الأمر في دفتر الطريق. يكتب مسافرنا:»إنها إفريقيا بكامل القوة الآن. كان دخولنا هنا بالغ الروعة، وينطوي على متعة يتمنى الواحد أن يستشعرها ولو مرة واحدة في حياته. كل ما حصل لنا هذا اليوم لم يكن سوى تتمة لما هيأتنا له الطريق..وفي البداية جرى اقتيادنا عبر أطول طريق لنطوف على محيط العاصمة، لنكوّن فكرة عن أهميتها. وكان الإمبراطور قد أمر الجميع بإظهار الفرحة وإقامة الاحتفال..الشيء الذي جعل جماعتنا الصغيرة تعاني كثيرا من المشقة لتبقى مجتمعة وسط الآلاف من طلقات البنادق (113) التي كانت ترسل في وجوهنا. كانت الموسيقى تملأ رؤوسنا وأكثر من عشرين راية يحملها فرسان على ظهور الخيول.كانت الموسيقى كذلك تعزف على ظهور الخيل: مزامير وطبول عالقة بأعناق الفرسان يوقعون عليها بالتناوب بواسطة عصي ومقرعات صغيرة. وكان كل ذلك يحدث ضوضاء تصمّ الآذان وتختلط بطلقات الفرسان والمشاة.» وحتى هذا التاريخ، لم نكن قد وقفنا في أخبار الرحالة على مثل هذه الأوصاف التي تستنفر في نفس الوقت حاستي النظر والسمع، وتعيد تركيب حركة الحشد المحيط بالموكب الرسمي. وهو الشيء الذي سنعثر عليه فيما بعد مصاغا بأقلام كتاب محترفين حيث الأوصاف مقدمة بطريقة أدبية ومعتنى بأسلوبها. ولكن دولاكروا لم يكن يكتبُ لكي ينشرَ. فقد كانت ملاحظاته عبارة عن وثائق لرسم لوحات وليس لتأليف كتب. وكانت رسائله التي كتبها بتلقائية توحي بانجذابه إلى المشاهد التي أخذت بلبّه وقرر أن يقوم برسمها. علاوة على أن هذه الأوصاف الملونة والمكتنزة بالحياة تعتبر الأولى من نوعها زمنيا التي أنجزت عن المغرب. وكان من حسن الحظ أن أول من خطها كان رساما. وكان مشهد استقبال السلطان في مكناس لأعضاء السفارة قد خضع بدوره للوصف من طرف دولاكروا على نحو جذاب. وهذه المرة ضمن يومياته. ومن تلك الملاحظات التي سجلها مباشرة سوف تخرج، سنوات بعد ذلك، إحدى أهم لوحات الفنان المسماة «حفل استقبال السلطان عبد الرحمن» والتي جرى عرضها سنة 1845 وتوجد اليوم في متحف تولوز.وكانت جرأة الرسام قد أفزعت جمهور ذلك العصر، ولكن بعض العقول النابهة،(114) ونسعد أن من بينها اسم الشاعر بودلير، فهمت أن الأمر يتعلق هنا بفن يفرض نفسه بكامل الجلال. وهذه ملاحظات المسافر بصدد هذه المقابلة الشريفية نسوقها بعد استبعاد المقطع الذي له علاقة بشخصية السلطان:»من خلال الباب العادي والعاري من كل زخرفة خرج في البداية وبفارق لحظات قصيرة فيلق صغير مشكل من ثمانية إلى عشرة جنود سود يعتمرون قلنسوات مدببة، اصطفوا يمينا وشمالا. ثم خرج رجلان مسلحان برماح. ثم جاء دور الملك الذي تقدم نحونا وتوقف على مقربة منا. كان له شبه كبير بلويس فيليب، ولكن أصغر سنا وله لحية كثة ويميل إلى السمرة. يلبس برنسا ناعما ومقفلا تقريبا من جهة الأمام. يضع فوقه حايكا يتدلى من على صدره حتى يغطي كلية تقريبا فخذيه وساقيه. مسبحة بيضاء ذات خيوط حريرية زرقاء تحيط بذراعه الأيمن الذي لا يبدو إلا قليلا. ركاب من فضة. بلغة صفراء لا تغطي مؤخرة كعبه. جهاز وسرج فرسه وردي وذهبي. جواد رمادي بعرف واقف ومدبب. مظلة ذات مقبض من خشب غير مطلي ينتهي بكرة ذهبية. لون المظلة أحمر من أعلى وأجزاؤها السفلى حمراء وخضراء.» وعلينا أن ننتبه إلى الطابع التصويري لهذه الملاحظات، ذلك أنها أهم شيء لدى دولاكروا، أما الباقي فهو مجرد «أدب». في أعقاب هذا الاستقبال، سيمنح السلطان لضيوفه الفرنسيين حظوة خاصة عندما سيسمح لهم بزيارة إقاماته وحدائقه. أي حظ سعيد بالنسبة للرسام الذي سيسارع إلى تخطيط جزئيات الهندسة المغربية والتجهيزات والمنشآت الداخلية. كل هذا سيصلح فيما بعد، إذ سينقله على هذا القدر أو ذاك من الدقة بحسب ما سيقع عليه اختيار الرسام. بعد نهاية الاستقبال الرسمي أصبح لأعضاء السفارة كامل الحرية في التجول داخل المدينة، أو من المفروض أنهم كانوا كذلك.وفي الحقيقة، (115) لم يكن بوسعهم الاستفادة من هذه الرخصة كما يروق لهم. خاصة دولاكروا الذي كتب بهذا الصدد:»كان لباس وسحنة المسيحي شيئا منفرا عند هؤلاء القوم، إلى درجة أنه كان عليه دائما أن يسير مخفورا بحراس، وهو الشيء الذي لم يمنع من حصول مشاجرتين أو ثلاث كان يمكن أن يكونوا مصدر إزعاج كبير..لقد قضيت ما تبقى من الوقت هنا فريسة ضجر بالغ بسبب استحالة أن أرسم بشكل علني ووفقا للنموذج الطبيعي حتى ولو تعلق الأمر برسم كوخ متداع. كما كان مجرد الصعود إلى سطيحة يعرضك للرجم بالأحجار أو لطلقات بندقية. كانت غيرة المغاربة مفرطة، خاصة لمّا كانت السطوح هي المكان المعتاد الذي تغشاه النسوة لتنشق الهواء والالتقاء مع بعضهن البعض.» وبالرغم من كل هذه المصاعب كان دولاكروا يخرج إن لم يكن للرسم فللمشاهدة. كان يشاهد بملء عينيه لكي يدوّن في المساء ملاحظاته في دفتره، أو يرسم في ألبومه بعض الخطاطات من الذاكرة. على أن هذه التذكرات كانت مع ذلك كافية لكي تسمح بأن يرسم سنة 1834 لوحته «في زقاق بمكناس». وقد حالفه الحظ، بالإضافة إلى ذلك، لسماع جوقة موسيقية يهودية شهيرة من موكادور جلبها السلطان خصيصا للاحتفاء بالسفارة. وقد استطاع الرسام أن يجد متسعا من الوقت لكي ينجز تخطيطات ستمكنه فيما بعد، بالعودة إلى مسوداته، من رسم لوحة تسجل هذا الحدث ستعرض في صالون 1847. بعد مرور حوالي خمسة عشر يوما، سيقرر السفير الفرنسي، وقد أعياه انتظار جواب من السلطان بصدد مهمته، مغادرة مكناس والعودة إلى طنجة. (وفي هذا الوقت بالذات سيصله الجواب الشريفي طبقا للأعراف الديبلوماسية). وسيكون خط السير أثناء الإياب هو نفسه كما في المجيء. وهنا أيضا سيشير دولاكروا في يومياته إلى بعض الأحداث الطريفة التي اعترضتهم في الطريق (مثل تقديم الحليب لهم من طرف النساء القرويات)،(116) وهو يخط بسرعة بعض المشاهد الطبيعية، مركزا ملاحظاته بصدد الظلال والضوء، ليس فحسب على السهول ومنحدرات الروابي، ولكن أيضا على أبسط الأشياء المحيطة به مثلما تؤكده هذه السطور:»ملاحظة الظلال التي تشكلها ركابات الفرسان وأرجلهم، وهي ظلال ترسم وتحدد دائما محيط الفخذ والساق تحته، حيث يظهر الركاب دون أن نرى الحزام.» عند عودته إلى طنجة، وكانت ألفته قد زادت بالمغرب، أصبح بوسع دولاكروا أن يعمل بهدوء وينعم بالسكينة. ذهبت حمى البداية والقلق من أن لا يستطيع أداء كامل مهمته، واغتنت ألبوماته بتخطيطات أكثر تطورا، وجوه (خاصة وجوه النساء اليهوديات)، مآثر، مشاهد طبيعية. ومن أجل رسم هذه الأخيرة سيقوم بنزهات إلى الضواحي. وذات يوم حصلت له مغامرة أوشكت أن توقعه في ورطة. كان مستغرقا في رسم عين للمياه في الريف حيث كانت فتاتان تغسلان الثياب. وبما أنهما كانتا وحيدتين فإنهما لم تحتجبا عن أعين الغريب بل يبدو أن إحداهما زادت من جرأتها بحيث تطوعت للوقوف أمام الرسام كاشفة عن شيء من محاسنها..وعلى حين غرة سُمعت أصوات غاضبة وظهرت جماعة من المغاربة مزبدين ومرعدين. ولم يسلم دولاكروا من هذا المأزق إلا بفضل خفة فرسه الذي كان قد بقي، لحسن الحظ، على مقربة منه. وقد ظل هذا الرسم المائي من جراء هذه الواقعة دون إتمام. إلا أنه أمكنه التعويض على هذه الخسارة فيما بعد وإن على نحو مختلف. فقد أتيح له ذات يوم شهود موكب لطائفة عيساوة وكان مختبئا، طبعا، وراء خصاص نافذة. ومن هذه الرؤية ستنبثق لوحته الغريبة المسماة «مختلجو طنجة» (1838) (117)وقد صرفته هذه التخطيطات المتنوعة عن مواصلة كتابة الرسائل واليوميات التي أهملها. على أننا واجدون في هذه الأخيرة تأملات للرسام تعود إلى هذه المرحلة وتكاد تمثل روح الصورة المغربية كما تشكلت في أعماقه. وهو يبدأها بملاحظة حدث بسيط من الحياة اليومية:»يخرج الأطفال بلوحاتهم المدرسية حاملين إياها بتبجيل، وهذه الألواح الخشبية مطلية بالصلصال ويُكتب عليها بقطعة من القصب وبمادة صمغية يسهل محوها.» تأتي بعد ذلك ملاحظة من مستوى عام أثارها لديه هذا المشهد: «هذا شعب شديد العتاقة». ولتأكيد هذه الفكرة يقيم تقاربا مع ملاحظات أخرى يحتفظ بها في ذاكرته: «هذه الحياة الخارجية والبيوت الموصدة والنساء المحتجبات..». إنها مظاهر العتاقة التي يلتقطها وسوف تترسخ في ذهنه بتوالي المشاهد وتعدد الأشخاص المغاربة الذين يلاحظهم. يتابع التسطير في دفتره:»كان قائد القافلة يجلس على عتبة المنزل بينما خادم المطبخ يقتعد كرسيا إلى جواره ولم يبد سوى انحناءة صغيرة ليفسح لنا الطريق. وقد بدت لي هذه البساطة محملة بشيء جمهوري. كان كبار القوم ينتحون جانبا من الزقاق وهم يجلسون القرفصاء تحت الشمس مستغرقين في الحديث، بعضهم يجثمون عند أبواب الحوانيت..» إن مضمون هذا المقطع يقترب مما كتبه في رسالة سابقة إلى صديقه بييري:»تصور يا صديقي، ما معنى أن ترى شخصيات قنصلية من مستوى رفيع ممددين تحت أشعة الشمس، أو متجولين في الأزقة، أو منخرطين في ترقيع نعالهم. ولم يكن ينقصهم شيء بما في ذلك نظرة الاستخفاف الذي تميز علية القوم. ولم يكن أحد منهم يملك سوى (118)رداء يتيم يسير به وينام فيه وسوف يكفن به. وكانوا يبدون راضين تماما على وضعهم. إنها العتاقة التي ليس أجمل منها شيء..» وكانت بعض التخطيطات تصاحب نص الرسالة على سبيل التوضيح، ثم يضيف المؤلف:»وكل ذلك باللون الأبيض مما يظهرهم مثل شيوخ مجالس روما أو أثينا..» هذا هو العالم العتيق الذي اكتشفه دولاكروا في خلفية الحياة المغربية. وفيما بعد، عندما سيرسم شخصيات إغريقية أو رومانية سينفخ فيها الروح التي تنقصها مستمدا إياها من ذكرياته عن المغرب ومن تسجيلات وتخطيطات رحلته إلى طنجة ومكناس. فمن هذه المصادر كان يغذي لوحاته اللاحقة التي كانت تبدو من النظرة الأولى غير ذات علاقة بإقامته في المغرب. ويؤكد كتّاب سيرته بأنه رجع من سفره «محملا بكنوز لم تكن حياته كلها تكفيه لكي يستنفدها.» وبدون شك فقد عاد دولاكروا من هناك بلوحات مغربية خالصة، وكانت لها قيمة شخصية لا يجادل فيها، ولكن من جهة أخرى كان من الأوائل الذين كشفوا عن المظهر العتيق للعالم الشرقي، وهذا هو أكبر شيء استوحاه دولاكروا من المغرب، يقول قبل مغادرته طنجة: «هنا اليونان والرومان على مرمى البصر، وقد ضحكت من أولئك الذين رسمهم دافيد.الآن أنا على معرفة تامة بهم.» بعد ذلك بعدة سنوات سيقول أيضا: «إن مشاهد هذا البلد ستظل ماثلة بين عيني، وأناسه سيظلون يتحركون على الدوام في ذاكرتي. ذلك أنني عبرهم اكتشفت حقا العالم القديم.» عند عودته إلى فرنسا، بعد قضاء بضعة أيام في إسبانيا، حيث شاهد كما يقول كل ما تركه خلفَه عند المغاربة،(119) فكّر دولاكروا في أن ينشر بنفسه رحلته إلى المغرب مصحوبة برسوماته. ولكن هذا الكتاب لم ير النور بسبب الانشغالات المتعددة للفنان. ولم يتبق لنا سوى رسائله ودفتر يومياته والألبومات التي تشتمل على تخطيطاته. نشرت رسائل المغرب من طرف م.بورتي سنة 1888، ضمن المجلد الذي جُمعت فيه مراسلات الفنان. وأدمجت مذكرات سفره في مجموع يوميات أوجين دولاكروا الذي نشره بول فلات سنة 1893. ولكن بما أنه قد جرى انتزاع الملاحظات التي كانت ترافق رسوماته وتخطيطاته ونشرت مستقلة فهي لم تعد متيسرة الفهم لأنها وضعت أصلا بأسلوب تلغرافي بغاية توضيح المسودات والتخطيطات وليس لتقرأ مستقلة. لنذكر مرة أخرى بهذه المناسبة بأن دولاكروا لم يذهب إلى المغرب من أجل الكتابة، ولكن من أجل أن يرسم ويصور، وبأن غنيمته الحقيقية لا تمثلها الملاحظات ولكن الرسوم الحبرية والمائية..فلنسعد بما حصلنا عليه أيضا من يومياته ومراسلاته.