يقتصر هذا الكتاب على دراسة المظاهر الغرائبية المتصلة بالمغرب والواردة في مؤلفات الرحالين الفرنسيين الذين زاروا المغرب أو أقاموا فيه لبعض الوقت. وينتمي هؤلاء الرحالة إلى فئات جد متنوعة تتّسع لتشمل السفراء والقناصل ورجال الدين والعبيد والضباط والجنود والمستكشفين والجغرافيين والتجار والموظفين والأدباء والصحفيين والسياح.. كما أن مؤلفاتهم هي كذلك جد متباينة وتتنوع بين الأخبار التوثيقية والمقالات التصويرية والذكريات والمراسلات وكراسات الأسفار والتحقيقات واليوميات إلخ...وتنتسب جميع هذه الكتابات، الجد مختلفة شكلا ومضمونا، والتي تتوزعها الانطباعات السريعة لمسافر عابر، والروايات الموضوعية الناجمة عن إقامة طويلة في البلد، إلى عنوان عام هو «أدب الرحلة». ويشار إلى أن معظم الفصول التي يشتمل عليها هذا الكتاب قد تمّ تحريرها انطلاقا ممّا دوّنه المؤلف عندما كان يعدّ دروسا ميدانية عن الأدب الغرائبي والكولونيالي كان يلقيها أواخر عشرينات القرن الماضي على طلاب معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط (كلية الآداب حاليا) . وقد أضاف إليها بعض العناصر الضرورية لاستكمال التدرج التاريخي للوقائع، والربط بين أجزائها المتفرقة، وتقديمها في شكل لوحة متناسقة. كانت قد تخلفت عن علاقة الغرام التي جمعت بين ملك فرنسا والآنسة دو فاليير، ولكنه اعترف بها كابنة شرعية بعد ميلادها بوقت قصير. وقد تميزت بجمال خارق ولطف مذهل تنافسَ شعراءُ البلاط في امتداحه، وعندما بلغت الرابعة عشر من عمرها قام الملك لويس الرابع عشر بتزويجها من ابن أخته الأمير دو كانتي. ولا يبدو أن هذا الزواج قد كان سعيدا، وقد فعل هذا الأمير خيرا عندما رحل عن عالمنا بسرعة، (82) وفي التاسعة عشر من عمرها استعادت الأرملة الشابة حياتها الاجتماعية المليئة بالمسرّات. وقد لقيت كل النجاح بفضل إتقانها الرائع للعزف والغناء والرقص، وتفنّنها في ارتداء فاخر الألبسة. وكان العديد من الخاطبين، من بينهم ابن ملك بولونيا وولي عهد الدانمارك، قد طلبوا يدها الجميلة دون أن تستجيب لأي أحد منهم. فهل كان لطلب سلطان المغرب أن يُستقبل بأحسن مما استقبلت به طلبات هؤلاء؟ وهل كان بوسع الأميرة دو كانتي أن تصير إحدى زوجات مولاي إسماعيل الرهيب؟ الأرجح أن الجواب سيكون بالرفض طبعا. وقد حدث أن رسالة السفير بن عيسى قوبلت بالضحك في قصر فيرساي. وفي البداية لم يرغب أحد في تصديق أن يكون هذا الطلب العجيب صحيحا. واعتقد الكثيرون أنه مجرد مزحة. ولكن كان لابد من الإقرار بالأمر الواقع. وعندها تصدّى أعضاء الحاشية، ومرتادو الصالونات والجرائد الصغيرة بالسخرية ممّن كانوا يسمونه «الحليف الإفريقي» أو «العاشق ذي اللون النحاسي». وجعلوا من هذا الحادث مادة للتفكه الشرقي، وهو اللون التعبيري الذي كان سائدا في تلك المرحلة، وتنافس الشعراء في نظم الغزليات الساخرة. وأكثر هذه المقطوعات شهرة تلك العائدة للشاعر جان-باتيس روسو. جمالك أيتها الأميرة العظيمة يرمي بسهامه القاتلة إلى أبعد الأصقاع المتوحشة حتى إن إفريقيا قد ركعت تحت أقدامك وغزوات عينيك مضت إلى أبعد مما وصلت إليه جيوش هرقل. إن الملاحظة التي نخرج بها من هذا الشعر هو (83) أن الحب الذي أضرمته الأميرة في القلوب جاوز حدود أوروبا ليمتد إلى بلاد المغرب. ولكن بأية عبارة رقيقة صيغت هذه الفكرة؟ وفيما يلي قصيدة أخرى لا تتوقف عند تقرير الواقعة، ولكنها تمضي إلى التحفيز على زيارة إفريقيا. وصاحب هذا النص هو ذوق نوفير: يا ابنة بطل فرنسا التي وهبتها السماوات كل كنوز الدنيا والتي نقلت تأثيرها إلى أقصى الأصقاع بعدا... ها هم الأبطال يرزحون في قيدك وها هو أمير يسعد بالعيش في أغلالك مانحا إياك مقاليد ملكه وقلوب أكثر الرعايا توحشا في الكون. اظهري له، يا ذات الجمال الأخاذ المعشوقة الأبدية في فردوسنا وسترين، بين يديك الأسرى وقد صاروا أضحيات وقرابين. وليس هذا المقطع سوى مقدمة لقصيدة طويلة. وكما نرى فالشاعر يتخيل رحيل الأميرة الشابة إلى إفريقيا حيث ستجد إمبراطورية متوحشة منقادة لمشيئتها. ونحن نعلم أن الواقع قد كذب ما حلم به الشاعر. ويبدو أن هذا الشاعر قد شذ شيئا ما عمّا كان شائعا في كتابات تلك الحقبة، إذ بالعكس كان الجميع يحتج على فكرة هذا الزواج بل يرفض قبولها. وقصيدة الشاعر سونوسي نموذجية في هذا الصدد، فهو يتصور أن فرنسا تتحدث إلى مولاي إسماعيل قائلة: ما الذي تطلبه أيها الإفريقي الهائل؟ أو حتى تجرأ على التفكير فيه؟ هل تظن أن كريمة الملك لويس ستقبل بالانحدار إلى مستوى سلطانة؟ وتتصاعد اللهجة بعد ذلك بقليل: وإذا ما نجح طموحك في اختطاف أميرتي فإن شعوبنا الثائرة سوف تسلّح من السواعد أكثر مما فعلت اليونان لأجل تخليص مَن هن أقل منها جمالا فما الذي تسعى إليه إذن؟ هل إلى استعباد هذه الغادة التي تعدّ مفخرة الإمبراطورية العظيمة وجعلها أسيرة النزوات البربرية لعربي متغطرس؟ لا وألف لا، فليست لي حاجة إلى عروش مغتصبة قابلة للانقراض في أية لحظة ولو شاء مليكي لحمل سيفه ومضى إلى غزوها. وبعد أن استحضر حرب طروادة، ها هو ذا يهدد بغزو مملكة المغرب بواسطة الأسلحة. غير أن الأبيات التالية تأتي أقل توترا، فهي تنصح المولى إسماعيل إذا ما هو أصرّ على مشروعه بالبدء في نشر المسيحية في إفريقيا، وعندما يتمكن من ذلك... فلربما بفضل الاحتدام الذي يعتصرك ونظراتك المثيرة للشفقة سيرضي ملكنا لويس بأن تتكرم أميرتنا العزيزة بأن تغمرك بالسعادة وهي تمنحك إحدى وصيفاتها لتجعل منها ملكة. إن هذه الأمثلة التي قدمناها تبرز نوعية ردود الأفعال التي صدرت عن النخبة الفرنسية في أعقاب علمها بطلب الزواج الذي تقدم به المولى إسماعيل. ولكن ما هو يا تُرى الجواب الرسمي الذي سيقدم له؟ سيكون الجواب بكل بساطة هو عدم الجواب. ذلك أنه فيما بعد سيُبلّغ ابن عيسى بأن الوزراء لم يجرؤوا على إطلاع الملك على فحوى هذا الطلب الذي كان يتعارض مع أعراف البلدين. وبذلك سينتهي هذا العارض الديبلوماسي.