أصبحت مسألة الديمقراطية ضرورة مجتمعية غير قابلة للتأجيل، في ظل الصراع السياسي مجتمع - دولة الذي تعرفه اليوم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقية، ويظل مفتوحا على كل الاحتمالات، لا أحد يمكن له التنبؤ بنتائجه حتى ألان، ما دم أن موازن القوى متحركة وغير مضبوطة ولا يمكن التحكم فيها من الجانبين. صحيح أن الديمقراطية لا يمكن تحقيقها دفعة واحدة، وليس هناك نموذج ديمقراطي قائم ومكتمل يمكن تطبيقه في كل زمان ومكان، بل الديمقراطية تحتاج إلى التدرج في مستوى الممارسة الفعلية بأبعدها الأفقية والعمودية. لكن لم يبقى من حقنا سواء كدولة تواقة إلى الاستقرار، ولا كمجتمع تواق إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، اخطأ الطريق نحو الوصول إليها ( أي الديمقراطية)، حيث لم يبقى أمام الدولة أي وسيلة لتحقيق الإجماع الوطني، ولم يبقى أمام المجتمع ما يكفي من الوقت للدخول في تجارب فاشلة، وهو يتشكل في أغلبيته من جيل متحرر ومنفتح يتأثر بالصراع الخارجي أكثر من الصراع الداخلي، ويريد إسقاط التجارب الخارجية بشكل مكنيكي على واقعه، دون قيامه بقراءة موضوعية لموازين القوى الموجودة حوله، لأنه منذ البداية وجد نفسه كجيل خارج قوانين اللعبة السياسية الكلاسيكية، والتي تنتج في غالبيتها خارج النص الدستوري. ومن منطلق أنه ليس هناك فوق الأرض من هو متخلف، بل هناك من هو متأخر عن التقدم، انطلاقا من شروطه الموضوعية والذاتية، وهذا ما يجعلنا نميز بين تاريخ الشعوب، لكن في المرحلة الحالية نعيش كشعب فرصة مواتية، من أجل الإقلاع والتقدم، حيث أن موقعنا الجغرافي الاستراتيجي، وإمكانيتنا الذاتية والموضوعية الناتجة عن ما راكمنه في ممارسة اللعبة السياسية ،تجعلنا مرشحين أكثر من كل الشعوب التي تدور في فلكنا للتقدم، والقطع مع زمن اللاديمقراطية وإنتاج الفعل السياسي من خارج النص الدستوري والدخول إلى زمن الديمقراطية، حيث تسود فيه ديكتاتورية الحق والقانون، لخدمة الأهداف المشتركة، والتي توجد محل إجماع وطني، وهي تقتضي أولا دمقرطة آليات الحكم، والرقي بها إلى مستوى تحقيق المنافسة بين المشاريع المجتمعية. وتاريخنا نحن كشعب ابتداء من لحظة اختيارنا الحفاظ على بنيات المؤسسات الديمقراطية، التي تركها المستعمر، هو تتابع الاختيارات من أجل إيقاف الولادة القيصرية لديمقراطيتنا، وهذا يجعلنا قادرين في المرحلة الحالية على اختيار مصيرنا الديمقراطي بأنفسنا، وليس كما كان مفروض علينا في السابق، ويتوقف ذلك على ما سنقدم عليه من اختيارات مستقبلا، حيث أن الجهود التي أثمرت بالأمس، والتي تبذل اليوم، والتي نعتزم تقديمها غدا، يجب أن تتوخى بلوغ غاية واحدة: هي تحقيق التغيير الذي ينتظره المجتمع، وإذا كانت تبدوا الخيوط متعددة الألوان، فإن الهيكل واحد لا يتغير. وهذا الهيكل ( أي هيكل السلطة ) يبدوا أقل وضوحا في نظر المواطن، مما كان عليه في السابق، لحظة تنبأ به بحدسه الفطري، فالمواطن اليوم يضيع أحيانا في مواصفات المشاريع التي تبدو له معقدة ، ويضيع أحيانا أخرى في ضجيج المصالح الخاصة التي يكشف الواقع عنها، ويضيع أحيانا بسبب بطء تحقيق هذا الإصلاح، أو ذاك، ويبقى من حقه أن يفهم سبب الإخفاقات والنجاحات، ومن الواجب على المسؤولين أن يقدموا إجابة لأسئلته مهما كانت محرجة. وأي تحليل للاختيارات المطروحة علينا اليوم، والتي يمكن أن يضيع فيها المواطن، يجب أن تنطلق قراءتها من المرحلة السياسية التي كانت فيها المعارضة الوطنية تقدم تصورا للديمقراطية كغاية ووسيلة، حيث أن الهدف منها (أي الديمقراطية) ليس الوصول إلى السلطة فقط، بل باعتبارها مشروعا مجتمعيا في حد ذاته، بتعدد جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كمسلسل جدلي يدفع بعملية التطور الاجتماعي، ويبني النضال من أجل إعادة بناء المجتمع المغربي. لكن التراجع الذي عرفته لعبتنا السياسية سنة 2002 بتعيين وزير أول من خارج الانتخابات، رغم أن صناديق الاقتراع جددت الثقة في حكومة التناوب التوافقي، والتي احتلت فيها الأحزاب الوطنية والمشاركة في الحكومة آنذاك، مرتبة الصدارة، وعلى رأسها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، وأحد مهندسين التناوب التوافقي، جعل المواطن يضيع في قواعد اللعبة السياسية، التي لا تحترم إرادته في الاختيار، والأمر الذي جعله يرفضها برمتها، ليبرهن لنا على ذلك بالملموس فيما تلاها من الاستحقاقات التي ارتفعت فيها نسبة العزوف. ويبقى العنوان البارز لتلك الانتكاسة السياسية هو إعادة إنتاج النظام لنفسه من جديد، كي يضل متحكما في اللعبة السياسية بما فيها التمثيلية الانتخابية التي تناقش من فوق، ويعني هذا في جل ما يعنيه لذا المواطن، أن التناوب التوافقي لم يكن سوى غطاء شفاف لانتقال الحكم بشكل سلس، على أكتاف نخبة سياسية تتمتع بثقته. ولهذا عرفت مسألة الانتقال الديمقراطي في تجربتنا تراجعا كبير حيث لم يصل بنا الأمر إلى مستوى نظام التوزيع الواسع والعادل والتنافسية المسؤولة الذين يحسمها التخلي عن احتكار الحقيقة مرجعيا، والقرار السياسي والاقتصادي سياسيا، لكن عندما يكون الخطاب الرسمي هو نفسه شرعنة لاحتكار الديمقراطية، يصعب أن يكون هذا الخطاب مقياسا للديمقراطية، ومعه لا تصبح هناك حدود بين الوعود واللغة الاشهارية والقاعدة القانونية التي لا تحترم. وتأتي خطوت إدماج الشباب في المرحلة الحالية وفي سياق موسوم بالتشنج السياسي، ليس تأكيدا على توجه النظام نحو الديمقراطية التمثيلية المفتوحة على الفئوية، بل هو حل مؤقت للزحف على الحركات الشبابية التي ترفض اللعبة السياسية الحالية، وتريد تأسيس لعبة سياسية جديدة، بقواعد جديدة ومنطقية، وهو في نفس الوقت تطعيم للعبة السياسية الرسمية، مما يتناقض مع هدف الحركات الشبابية المنادية بالتغيير والتي فرضت على النظام التعامل معها كقوة سياسية للسير نحو نظام ديمقراطي وليس ترسيخ نظام الكوطة، الذي يهدف إلى تفتيت هذه القوة كي يظل النظام مسيطر عليها، وعلى الأحزاب التي يعاملها كمؤسسات إيديولوجية، لا تخدم مسألة الديمقراطية لأنه يفرض عليها آليات سياسية لا تنتج أغلبية حاكمة وأقلية معارضة من خلال سيادة صناديق الاقتراح، لتظل ممارسة السلطة العليا أي سلطة التوجيه والحسم، تمارس خارج هذه اللعبة السياسية. والتعددية الحزبية التي يريد النظام خلق بجانبها تعددية فئوية مصطنعة، والتي يتحكم في حركاتها، لا تخدم الديمقراطية، بل تعبر عن ممارسة سياسية نخبوية، تعمل على تضخيم جسم النخبة السياسية المنتفخ وغير المنتج، في ضل مجتمع بلغ حجما لا يسمح للسياسة النخبوية احتواءه وتطوره، ويتناقض مع الطبيعة الشمولية للنظام القائم، وأصبح يعبر عن رفضه للسياسة النخبوية، والتي لا يمكن إنكار أنها جنبت المغرب في الماضي مجموعة من الأزمات والمنعرجات. ليبقى الاختيار الديمقراطي هو صمام الأمان والحل الوحيد والأوحد لتحقيق استقرارنا المنشود، حيث يسمح بالتفاعل الايجابي بين المجتمع والدولة من خلال التداول الفعلي على السلطة النابع من صناديق الاقتراع، كحكم أول وأخير بين الأحزاب بطرق مشروعة وتحترم القانون والإرادة الحرة للمواطنين. وتقديم الإجابة الحقة عن هذا الخيار، ينطلق من نتيجة التجربة، حيث أنه لا يرتبط بظروف أنية فقط، وإنما هو تصميم حيوي سيتفاعل في إطاره المجتمع المغربي بكل تلاوينه واختلافاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وتتجلى فيه اختيارات أخرى، واتجاهات جديدة، ولدي قناعة راسخة بأن المشروع المقترح لو عرض على المغاربة عرضا واضحا، أي مشروحا دون غموض أو تحايل، فإن أغلبية ساحقة ستختار مجتمعا حرا ومتطورا، وهو وحده القادر على تأسيس مرجع مغربي، يستند إليه ويمنحنا رسالة ابتكار الأفكار. (*) باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية