موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العالم العربي..إلى أين: في الحاجة إلى الجابري ؟
نشر في الوجدية يوم 09 - 04 - 2011

كلام الجابري حول هذه الأحداث التي تعرفها المنطقة العربية الآن كان سيرسم خارطة الطريق، من زاوية فكرية ونظرية، لكثير من الأسئلة التي تطرح اليوم أمام التونسيين والمصريين ومعهم كل العرب، ولعل أهمها على الإطلاق سؤال كيفية الانتقال «العربي» إلى الديمقراطية، وبما أن الجابري كان يكتب ويتحدث من موقع الدارس للفلسفة ولتاريخها،
والفيلسوف كما يقول أفلاطون هو من «يشاهد كل زمان وكل وجود»، فإن آراء مفكرنا الراحل حول «المسألة الديمقراطية» لن تفقد راهنيتها، وأمام غيابه المؤلم سنذكر القراء بمقتطفات «جابرية» من نصوص منتقاة ذات صلة بالوضع الإشكالي للديمقراطية بالوطن العربي، لعلها تعوضنا عن النقص والخصاص الهائل في التنظيرات الجدية التي تواجه أسئلة الواقع الفعلية وليس المفتعلة، هذه التنظيرات التي افتقدناها بحدة نتيجة رحيله المفاجئ والمفجع، يقول الجابري..
إن ما جرى في تونس ومصر وما يجري الآن في العديد من البلدان العربية يغري بالمتابعة خاصة لكل من يجد نفسه منشغلا ومعنيا بأسئلة الديمقراطية وقضايا حقوق الإنسان في المنطقة العربية، فلا شك أن التونسيين والمصريين هم بصدد صناعة حاضرهم، لكن في الآن ذاته يصنعون أفقا للمجتمعات العربية التي ستجد نفسها ملزمة بالتطلع إلى هذا الأفق، كل حسب طريقته وظروفه الزمانية والمكانية. وهنا بالتحديد تكمن الأهمية التاريخية لما جرى في هذين البلدين، وهي الإشارة التي التقطتها أكبر قوة في العالم لتقترح فكرة «المصاحبة» بالنسبة لتونس ومصر والمتابعة الدقيقة بالنسبة لباقي الدول العربية.
من هذا المنطلق فكل الديمقراطيين والحقوقيين العرب ملزمون بالانشغال الجدي والبعيد المدى بما جرى ويجري حاليا في البلدان العربية، وخاصة في تونس ومصر اللتين أصبحتا الآن أكثر أهمية، سواء من جهة التحولات السياسية الواعدة، أو من ناحية خصوبة النقاش الممكن فتحه، بكل وضوح وشفافية، حول مسألة هي من أمهات المسائل التي شغلت وتشغل العالم العربي منذ مدة طويلة، أقصد هنا: «المسألة الديمقراطية» وتحديد مسألة الانتقال إلى الديمقراطية ذات الميلاد العسير في منطقتنا.
لا ننكر أن الخطاب حول هذه المسألة قد فتح، هنا وهناك، بخجل وحذر باديين، ولذلك فهو خطاب يفتقر إلى الخصوبة اللازمة، لكن الأحداث الجارية الآن في المنطقة العربية ستحمل معها بالضرورة السؤال الأساسي التالي:
إلى أي حد يمكن أن يفتح هذا الورش الكبير والصعب في العالم العربي بكل الوضوح والشفافية اللازمين بعيدا عن كل أشكال الالتفاف المعلنة والخفية التي لازمت المحاولات السابقة؟
لا أدري، لكن لنحاول متابعة ما يجري بعين يقظة تصاحب أسئلة تونس ومصر الآن، وأسئلة باقي الدول العربية غدا، بخلفية ديمقراطية لا علاقة لها بالمصاحبة والمتابعة الأمريكية، سالفة الذكر، والمحكومة بخلفية استراتيجية مرتبطة بالصراع الإقليمي والدولي حول النفوذ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فالكل يراقب إذن ويتابع التحولات من أجل التأثير فيها بما يخدم مصالحه الإستراتيجية، لكن ما يخدمنا نحن هو المسار الديمقراطي الذي يمكن أن تفرزه هذه الأحداث، ولذلك لابد من إعادة طرح الأسئلة التي تهمنا وتساعدنا على الفهم والتحليل من قبيل: ما الذي حدث بالضبط حتى خرج المارد من قمقمه ؟ وما هذا الذي يجري داخل المجتمعات العربية الآن؟ وإلى أين يتجه العالم العربي؟ وما العمل حتى لا تخطئ الديمقراطية الطريق؟
أسئلة من هذا القبيل تفرض نفسها على كل متتبع قريبا كان أم بعيد. إن من يتابع ما حدث في تونس ومصر وما يحدث الآن في باقي الدول العربية يلاحظ عدة محاولات للإجابة عن هذا النوع من الأسئلة المعقدة، لكنه يسجل في نفس الوقت اقتصارها على مستوى ردود الفعل السياسية التي تكتفي فقط بمتابعة مجريات الأحداث والتعليق عليها دون محاولة رصد ملامح الفعل التاريخي للحدث، وهذا أمر يمكن تفهمه بالنظر إلى صعوبة تقديم تنظيرات مقنعة وإجابات عميقة تفتح آفاقا جدية للفهم. وترجع هذه الصعوبة إلى أننا أمام وضعية عربية مفاجئة وخاصة مع دخول «فاعل سياسي» جديد، معلوم ومجهول في نفس الوقت، وهو ما كان يسمى في الأدبيات السياسية ب «الجماهير الشعبية» أو «الشارع»، أقول وضعية كهذه تتطلب استحضارا مركبا للسياسة بخلفياتها ورهاناتها وللسوسيولوجيا بمعطياتها العلمية وللفلسفة بصرامتها المنهجية، وذلك بهدف الاقتراب من فهم ما جرى ويجري. هذا النوع من الاستحضار المركب للسياسة والسوسيولوجيا والفلسفة مازلنا نفتقده بحدة في مجتمعاتنا، وهذا ما يجعل الكتابة السياسية حول ما يجري الآن في العالم العربي مفتقدة للبعد النقدي والاستشرافي مكتفية بالتعليق على الأحداث ومتابعة تفاصيلها اليومية.
أمام متابعة هذه المحاولات للإجابة عن الأسئلة، سالفة الذكر، قفز إلى ذهني السؤال التالي: ماذا كان يمكن أن يقول المفكر الراحل محمد عابد الجابري؟ وكيف يمكن أن تكون قراءته لهذه الأحداث؟
مبرر هذا السؤال هو أننا كنا دائما نلجأ إلى الجابري عندما يستعصي علينا فهم الأحداث ونعجز عن فك رموز ما يجري، وعندما كنا نبحث عن مفاتيح تفسر ما يدور حولنا من تعقيدات لا ندرك خلفياتها ولا دلالتها، ولا آفاقها، ولا حتى الموقف الذي يمكن أن نتخذه إزاءها، ولا أعتقد أنني وحدي في هذا الإحساس، فقراؤه الأوفياء يدركون ذلك جيدا، وهم كثر على امتداد الوطن العربي، هم الآن في أشد الحاجة إلى مقالاته وتحليلاته، وهذا ما أشار إليه المناضل والمفكر الفلسطيني عزمي بشارة عندما وصفه، عن حق، في ليلة تأبينه قائلا: « إنه كان نموذج المثقف العربي المطلوب».
فعلا لم تكن تمر أسئلة السياسة والفكر في المنطقة العربية إلا وكان الجابري يدلي بدلوه فيها، فنقرؤه أولا، ثم يأتي النقاش بعده من أجل أن تتضح الصورة شيئا فشيئا، لقد كان مرجعا لقرائه في قضايا كثيرة، وهنا بالضبط تكمن فداحة الخسران ويظهر حجم الفقدان. فمازال قراؤه يتحسرون على آخر مقالة كتبها ونشرت بعد وفاته بيوم واحد، ضمن سلسلة سؤال الهوية، والتي ختمها بعبارة «للمقالة صلة»، لكن الصلة بقلمه انقطعت فرحيله كان أسرع، نقول ذلك وندرك صعوبة التعويض. وها هي الأحداث في تونس ومصر تذكرنا بهذه الخسارة، وبهذا الجرح، وستليها بالتأكيد أحداث أخرى في باقي الدول العربية تبعث فينا الحاجة إلى الجابري، لقد رحل وفي جعبته الكثير مما لم يقله بعد، ولن يشعر بحجم هذه الخسارة إلا من كانت تؤرقه وتزعجه أسئلة السياسة والفكر التي يفرزها الحراك السياسي والاجتماعي بالمنطقة العربية والتي تتطلب إجابات مؤسسة، نظريا وفكريا، من أجل بلورة الموقف المناسب بعيدا عن المواقف «الشعبوية» غير المؤسسة أو المواقف السياسية ذات اللغة الخشبية. لقد كان الجابري يدرك ذلك جيدا فبقي إلى آخر لحظات حياته يقوم بمهمته في تنوير الرأي العام العربي. ولتوضيح طبيعة هذه الحاجة إلى الجابري سأكتفي في هذا السياق بالتذكير ببعض اللحظات التي كنا نلجأ فيها إلى مقالاته التحليلية، فمثلا عندما كنا نتابع سلسلة المرحوم حول أزمة الرأسمالية العالمية، بمناسبة الأزمة المالية وانعقاد مؤتمر العشرين، فاجأنا بمقالات خارج السلسلة وهي عبارة عن رد وتعليق على حدث قال عنه في حينه أنه لا يحتمل التأجيل، يتعلق الأمر بخطاب «أوباما» في القاهرة، حينها طرح السؤال: هل هناك بالفعل ضرورة للحديث عن تحول في الإدارة الأمريكية للعالم؟ أدرك الجابري أن القراء يتساءلون، فقال كلمته وكتب مقالته ذات العنوان الدال:«خطاب إلى العرب .. غير خطاب أوباما»، كاشفا بذلك «منطقه اللاتاريخي وهاجسه الأمني» على حدة تعبيره المكثف والعميق الدلالة، ونفس الأمر يمكن قوله عندما اختلطت الأوراق في الشرق الأوسط وتناسلت الأسئلة من جديد: ماذا يجري؟ وما هو الموقف؟ في فلسطين بعد سلطة «اتفاق أوسلو» وفي العراق بعد الاحتلال وكذلك في لبنان المعقد دائما وأبدا. عالج المرحوم هذا النوع من الأسئلة بطريقته المعهودة، وهي الطريقة التي يقول عنها: «أنا لا أريد أن أسقط ردود الفعل السياسية من الحساب، ولكنني أريد أن أتعامل معها من منظور تاريخي.. أي أن أتجاوز ردود الفعل السياسية إلى رصد ملامح الفعل التاريخي». (مواقف، عدد 77، ص : 36)، ويضيف في مكان آخر: «ذلك في الحقيقة مظهر من مظاهر جدلية السياسي والثقافي في مسيرتي الفكرية: جدلية قراءة التاريخ بالسياسة وممارسة السياسة عمليا وذهنيا باستحضار التاريخ» (مدخل إلى القرآن ص: 9 ).
عالج الجابري هذه الأسئلة بأسلوبه وطريقته، من خلال مقالة إشكالية حول العلاقة بين الوطنية والديمقراطية، راسما بذلك الطريق للقراء لكي لا يتيهون في زحمة الصور والتعاليق المجهولة المصدر والخلفيات، فاصلا بذلك المقال فيما بين مفهوم الوطنية ومفهوم الديمقراطية من الاتصال، ونفس الأمر فعله بخصوص سؤال إشكالي آخر له تداعياته المعقدة في العالم العربي، وهو علاقة الديمقراطية بالإسلام، لينبهنا إلى سؤال آخر ضمني طرحه بصيغته: «ولم الإسلام بالتحديد؟» فاتحا بذلك أفقا رحبا للنظر إلى الموضوع والتفكير فيه، بعيدا عن المماحكات التي لا تقدم ولا تؤخر، وهناك أيضا قضايا وأسئلة أخرى أفرزها الحراك السياسي والاجتماعي في العالم العربي ولا يتسع المجال هنا لتعدادها وعرض آرائه حولها، فلم يبخل المرحوم على قراءه في كشف خباياها ورسم معالم الخروج النظري من مآزقها، سواء تعلق الأمر بالأسئلة ذات الطبيعة السياسية المباشرة أو ذات طبيعة فكرية لها آثار ونتائج في السياسة والمجتمع، فلا غرابة إذن أن يقول عنه الأستاذ بلقزيز في وصف لافت: « وإذا أردنا أن نحتج برأي فالحجة أنت وما ملكت إيمانك».
2 - هكذا تكلم الجابري
إن كلام الجابري حول هذه الأحداث التي تعرفها المنطقة العربية الآن كان سيرسم خارطة الطريق، من زاوية فكرية ونظرية، لكثير من الأسئلة التي تطرح اليوم أمام التونسيين والمصريين ومعهم كل العرب، ولعل أهمها على الإطلاق سؤال كيفية الانتقال «العربي» إلى الديمقراطية، وبما أن الجابري كان يكتب ويتحدث من موقع الدارس للفلسفة ولتاريخها، والفيلسوف كما يقول أفلاطون هو من «يشاهد كل زمان وكل وجود»، فإن آراء مفكرنا الراحل حول «المسألة الديمقراطية» لن تفقد راهنيتها، وأمام غيابه المؤلم سنذكر القراء بمقتطفات «جابرية» من نصوص منتقاة ذات صلة بالوضع الإشكالي للديمقراطية بالوطن العربي، لعلها تعوضنا عن النقص والخصاص الهائل في التنظيرات الجدية التي تواجه أسئلة الواقع الفعلية وليس المفتعلة، هذه التنظيرات التي افتقدناها بحدة نتيجة رحيله المفاجئ والمفجع، يقول الجابري:
- «إن التاريخ العربي لم يعرف قط ظاهرة الصراع من أجل الحد من سلطة الحاكم الفرد أو فرض قيود عليه.. ومن هنا كانت الأدبيات السياسية في الإسلام لا تتعدى من ذلك النوع المعروف ب «نصيحة الملوك».. ما أردناه من التذكير بما تقدم هو لفت الانتباه إلى الحقيقة التالية هي، أننا عندما نطالب بالديمقراطية في الوطن العربي، فإنما نطالب في الحقيقة بإحداث انقلاب تاريخي لم يشهد عالمنا لا الفكري ولا السياسي ولا الاجتماعي ولا الاقتصادي له مثيلا، وإذن فلابد من نفس طويل ولابد من عمل متواصل وأيضا لا بد من صبر أيوب» (الديمقراطية وحقوق الإنسان، ص: 51 - 52).
- «فما دمنا نحن العرب والمسلمين لا نؤمن بضرورة قيام الشريك في الحكم والسياسة إيماننا بضرورة نفيه في ميدان الألوهية، فإننا لا نستطيع أن نعطي للديمقراطية معنى ولا لمضمونها أبعادا فكرية واجتماعية واضحة، لنسجل أولا أن من جملة مظاهر الانقلاب التاريخي المطلوب من الديمقراطية إحداثه في وطننا العربي انقلابا على صعيد الفكر والمعتقد، انقلابا في الوعي، انقلابا قوامه الفصل فصلا تاما ونهائيا بين الوحدانية في ميدان الألوهية والتعدد والشرك (المشاركة) في ميدان الحكم والسياسة». (ن م ص: 57 ).
- «لنسجل ثانيا إذن أن من مظاهر الانقلاب التاريخي المطلوب من الديمقراطية إحداثه في الوطن العربي انقلاب قوامه إحلال الولاء للفكرة وللاختيار الإيدولوجي الحزبي محل الولاء للشخص، حيا كان أم ميتا، شيخا لقبيلة كان أو رئيسا لطائفة، وإحلال التنظيم الحزبي المتحرك محل التنظيم الطائفي والعشائري الجامد . كل ذلك وصولا إلى انتقال سليم للسلطة بمعناها الواسع» (ن . م ص: 60) .
- «إن الصراع في الوطن العربي، وفي بلدان كثيرة أخرى، هو صراع من أجل السلطة والطرف الذي يتكلم، بل أقول الذي يحس ويشعر ويتألم من موقع المحكوم المضطهد المغلوب على أمره، يجب أن يبدأ من البداية، من المطالبة بحق «طلب الكلمة»، ذلك أن مأساتنا في الوطن العربي هي أننا لسنا فقط محرومين من الكلمة، بل وأيضا من حق طلب الكلمة، والحق الذي من دونه يفقد الإنسان هويته كإنسان«والكلمة لا تعطى والحقوق لا تمنح وإنما تؤخذ ويجب أن نأخذها، يجب أن نفرض الديمقراطية فرضا، طال الزمن أم قصر ويجب أن ندفع الثمن صغر الثمن أو كبر» (ن. م ص: 67 - 68).
- «إن الانتقال إلى الديمقراطية يطرح من الناحية العملية أحد اختيارين إما «التدرج»، وذلك بالعمل من جهة على فسح المجال للقوى الديمقراطية في المجتمع لتنمو وتترسخ وتهيمن، والقيام من جهة أخرى بدمقرطة الدولة بالانتقال بها إلى دولة مؤسسات تمثيلية حقيقية، مع ما يتطلب ذلك من فصل للسلطات وإطلاق للحريات.. إلخ. وإما سلوك طريق آخر، غير سبيل التدرج، وذلك إما بحمل الحاكم على التنازل تحت ضغط القوى الديمقراطية، وإما بإزاحته من طرف هذه القوى بنفسها. والمشكل في هذا الاختيار الأخير (الإزاحة) هو أن القوى الديمقراطية لا تتمكن عادة من إسقاط الحكم إلا إذا تحولت إلى قوى غير ديمقراطية كأن تتحول إلى قوى منظمة تنظيما سريا وثوريا (عسكري الطابع)، أو إلى قوى عائمة هائجة غير منظمة في صور تحرك جماهيري واسع وعصيان مدني... إلخ » (ن. م ص: 83)
- «هل يعني هذا أن التدرج أسلم وأضمن؟ هو من الناحية المبدئية كذلك غير أن المسألة هنا مسألة تطبيق المبدأ، والتدرج يتطلب وقتا ومراحل، فكيف يمكن ضمان عدم تمييع التدرج وبالتالي تمييع العملية الديمقراطية ذاتها؟ وكيف يمكن السير بالتدرج سيرا منظما إلى غايته وتلافي انقلابه إلى مؤقت دائم؟ ثم من يضمن عدم التراجع خلال عملية التدرج نحو الديمقراطية إلى الوضعية اللاديمقراطية السابقة؟» (ن. م ص: 83).
- «فالتدرج نحو الديمقراطية يعني السير قدما في نزع امتيازات النفوذ والثروة من طبقة بأكملها، أو مما يشبه الطبقة، أو مما يندرج تحت اسم الطائفة والعائلة والحزب الوحيد، فمن يضمن «تفهم» أصحاب الامتيازات وبالتالي عدم قيامهم بردود فعل تعرقل عملية التدرج أو تجهضها بالمرة؟ هذه التخوفات والتساؤلات ذات الطابع الإحراجي ليست مصطنعة، ولا مجرد افتراضات تشاؤمية، كلا، إنها تعبر عن وقائع وتجارب شهدتها محاولات الانتقال إلى الديمقراطية في كثير من أقطار إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية ومازالت تشهدها.. لنكتف بالإشارة إلى أن التخوفات التي أدلينا بها بصدد «التدرج» نحو الديمقراطية لا تعدم أمثلة تبررها وتزكيها في الوطن العربي.» (ن م ص: 84 - 85).
- «إن الظرف التاريخي القائم اليوم يفرض نوعا من التأجيل، لمدة قد تطول أو تقصر، لكل طموح إلى التعميم الإيدولوجي الذي يقوم به عادة كل ذي إيديولوجيا، والاتجاه نحو تأسيس وتأصيل عمل جماعي، ضمن مشروع الوطن ككل، يجعل من المصلحة الوطنية والعمومية العليا المرجعية التي تنحني لها المرجعيات الأخرى، ولعل ما يجري الآن ((2005 في فلسطين، وما قد ينتهي إليه الأمر في كل من العراق ولبنان والسودان ومصر.. مؤشر على أن الأمور في العالم العربي أخذت تتجه إلى تدشين مسيرة جدية أكثر تلاؤما مع العصر، نحو قيام مجتمع مدني وتحقيق تحول ديمقراطي« (في نقد الحاجة إلى الإصلاح ص: 30).
- «إن الإصلاح الذي تتطلبه الوضعية الراهنة في العالم العربي الإسلامي، وفي بلدان أخرى كثيرة، لن يكون له معنى على «صعيد السيادة» ومتطلبات حفظها، كما على صعيد دمقرطة السلطة ومتطلبات عدالتها، إلا إذا اقترن بإبعاد كل من دور «الخارج» الذي يعني بكل صراحة ووضوح «حفظ المصالح القومية الأمريكية في منطقتنا»، ودور «الداخل» الذي يعني بالدرجة نفسها من الصراحة والوضوح: «حفظ المصالح الشخصية للفئة الحاكمة». (ن م ص: 234).
- «إن كل كلام في الديمقراطية، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في غيرهما، لن يكون له أي مضمون واقعي إلا إذا كان عنوانه يتضمن عبارة «القطر الفلاني نموذجا»، وبدون هذا يكون الكلام هروبا إلى التعميم.. ويجب أن نعترف أن ما يفتقده الفكر العربي الحديث والمعاصر هو سلوك «استراتيجية الخطاب» المناسبة لكل موقف وحال، وهذا ما عبر عنه القدماء بقولهم : «لكل مقام مقال»، فالمقام أي «الوضعية» هو الذي يحدد القول وكيفيته ومنهجه، وفي فلسفة العلوم يقولون: «طبيعة الموضوع هي التي تحدد طبيعة المنهج»، ومن هنا كان أهم نواقص الخطاب العربي حول الديمقراطية وغيرها إرسال الكلام في على عواهنه أي بدون نقد للرسالة ولا التفكير في المرسل إليه وردود فعله». (مواقف عدد 60 ص. 31 - 32).
أستاذ الفلسفة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.