المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    ولي العهد يستقبل الرئيس الصيني    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34        المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروعه الثاني الكبير «مدخل إلى القرآن الكريم» و«تفسير القرآن».. معنى أن يصبح الجابري ابن رشد القرن العشرين
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 05 - 2010

الجابري رجل جدال.. والجدال هنا، ليس بالمعنى السفسطائي سواء في معناه اليوناني أو العربي، بل بمعناه الفلسفي، الذي يسمح بإنضاج فكرة وطرحها للتداول، الذي يخلق الموقف المتبني لها أو الرافض لها. في هذا الأفق، يمكن فهم، انخراطه المتواتر، بوعي وهدوء، في فتح مسارب تتعلق بالإطلالة علي قضايا فكرية ومعرفية عربية، تأسيسية، في ما يرتبط بهويتنا العربية الإسلامية ( وضمنها الهوية الحضارية المغربية). ومن بين أهم تلك المسارب التي فتح نقاشا واسعا حولها، وأنهى مشروعه المعرفي والبحثي فيها، هي مسألة « تفسير القرآن». ثم الدراسات التي شرع في نشرها مؤخرا، والتي لم ينهله الموت لإتمامها كمشروع متكامل في وعيه وذهنه، وهي تأويل واقع تكون وتشكل الهوية المغربية عبر التاريخ إلى اليوم. وهي الأطروحة التي، كم كان يأمل المرء لو أنجزها الراحل منذ سنوات، لما لها من اهمية قصوى في مغرب اليوم. المغرب الذي يعيش تحولات تاريخية كبرى في وجوده كدولة، كأمة، كمجتمع وكمنتوج حضارة، منذ أكثر من قرن من الزمان. بالتلي، فكتابته الأخيرة هذه، من موقعه كمفكر وباحث، كانت ستكون نوعا من التأويل، الذي ينير دروب القراءة والفهم لما نحن عليه اليوم ومن نحن وإلى أين يمكن أن نسير.
هنا، سنكتفي فوق بالوقوف عند مشروعه الكبير الثاني، بعد مشروعه الضخم الخاص ب «نقد العقل العربي» بأجزائه الأربعة. وبالنقاش الذي فتحه حول العقل البرهاني والعقل العرفاني، وانتصاره بوعي تاريخي أصيل، للعقل الرشدي المغربي الأندلسي، المنتصر للعقل على النقل، وللبرهان على العرفان. مشروعه الثاني الضخم هذا، الذي صدر بدوره في أربعة أجزاء الخاص بتفسير القرآن الكريم (إذا ما أضفنا إليه كتابه الأول «مدخل إلى القرآن الكريم»، الصادر عن مركز الدراسات العربية ببيروت سنة 2006، في أكثر من أربعمائة صفحة). إن أطروحة الجابري الجديدة هذه، بما صاحبها من ضجة إعلامية هنا وهناك، ومن تسرع في إصدار بعض المواقف بالمشرق العربي، لعل أكثرها غرابة بعض الموقف المصري، من داخل الأزهر، الذي ذهب باتجاه «تكفير» المبادرة المعرفية تلك، وهو الأمر الذي لم يلق صدى، حتى عند أكثر المدارس الإسلامية تطرفا في الخليج العربي، وفي الشام، وفي مصر، لأنها بعد التمحيص وجدت نفسها أمام معرفة رصينة بالنص الديني، وأن الأمر جد في جد، واجتهاد بين اجتهادات من داخل النص، ومن داخل المنظومة الحضارية للعرب والمسلمين. بل، هناك من ذهب إلى اعتبار مبادرة الجابري الجديدة، مجرد نوع من التجميع والترتيب لاجتهادات آخرين على مدى تاريخ العرب والمسلمين. وهو كلام مردود عليه، من حيث تأكيد الجابري نفسه، أنه في سياق دراسته للتراث العربي الإسلامي، ضمنه مشروعه لنقد العقل العربي، تجمعت أمامه معطيات ثرة، مرتبطة بالنص القرآني، سمحت له بتلمس ملامح تفسير متجدد للنص. وهو تفسير، إذا كان حقا، مندرجا في باب التفاسير الكبرى التي سبق وتوالى صدورها بعالمنيا العربي والإسلامي على مدى قرون وقرون (لعل أكثرها شهرة وبروزا هم تفسير الإمام العلامة، السيوطي)، فإن إضافتها النوعية، هي في أنها تموضع تجميع النص القرآني في سياقاته التاريخية للدعوة المحمدية، التي جاء بها الرسول الكريم، وتساءل تلك الوقائع التاريخية، انطلاقا من الإشكالات التي اعترضت ذلك التجميع. سواء على مستوى الإضافة والحدف والضياع. وهي قضايا جد دقيقة وغاية في الخطورة، معرفيا وتأريخيا ودينيا، كان السلف يمتلكون شجاعة معرفية للتداول حولها وطرحها وتمحيص الجواب الديني الفصل فيها. وكان كل اجتهاد يذهب حيث منطلقاته التي تكون إما عقلية أو نقلية. وما قام به الجابري في الأجزاء الكاملة لمشروعه الجديد هنا، هو أنه رتب ومحص كل تلك الإجتهادات ووضع لها سياقاتها التاريخية والمعرفية. والتمحيص والتجميع والترتيب، ليس تكرارا لجهد قام به الآخرون عبثا، بل إنه يسمح بخلق تأويل يساعد في فهم أعمق وأدق علميا لتاريخنا كعرب ومسلمين.
إن من القضايا الهامة التي يأخدنا إليها مبحث الجابري التفسيري هذا، من خلال البناء النظري المؤطر للمشروع ككل، والذي نجده أوضح في كتابه «مدخل إلى القرآن الكريم»، هي تمثل الواقعة الحضارية للمسلمين والعرب، بمنظار معرفي أكثر علمية، من حيث أنه يبني آليته التحليلة الخاصة، دون الإرتكان إلى محاولة البحث عن التشابهات مع تجارب حضارية أخرى. فسؤال الدين كما طرح في الغرب، ليس بالضرورة قدرا لإسقاطه على التجربة التي تحققت مع العرب والمسلمين. ومفهوم «العلمانية» الغربي، له سياقاته التاريخية، التي ليس قدرا أن تتكرر عندنا، دون أن يلغي ذلك واجب مصالحة التراث مع التنوير، عربيا وإسلاميا. وهذا من الأمور التي جرت نقدا على الجابري من بعض مثقفي اليسار في المشرق العربي.
وإذا كان الكثير من منظري التيارات الدينية بالمشرق العربي، خاصة من التيارات السلفية بالخليج، قد ناقشت مشروع الجابري، من موقع الموقف المسبق من العقل، وانتصارها للنقل والتأويل والتفسير الذي بناه الفقيه ابن تيمية، فإن من الدراسات التي تعاملت مع مبادرة الجابري بمقاربة علمية رصينة، هي تلك التي صدرت في لبنان وسوريا وتونس، من موقع التخصص الفقهي التفسيري للنص القرآني. وضمنها دراسة قيمة لأستاذ الشريعة بجامعة دمشق الأستاذ سامر رشواني، التي انتبهت إلى أن مبادرة الجابري لا يمكن فهمها بعزلها عن سياقات بحثه المعرفية السابقة عن ذلك التفسير. مؤكدا أن محاولة « الجابري هي أن يضع كتابه هذا في سياق التداعيات التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول وما تبعها من هجوم على الإسلام، فألف كتابه هذا «مدفوعا برغبة عميقة في التعريف به للقرّاء العرب والمسلمين وأيضا للقرّاء الأجانب، تعريفا ينأى به عن التوظيف الإيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي من جهة، ويفتح أعين الكثيرين ممن قد يصدق فيهم القول المأثور »الإنسان عدو ما يجهل«، على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى لحضارات وثقافات شديدة التنوع، بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل» (ص 14 من « مدخل إلى القرآن الكريم»).
منتبها إلى أن هذا لا يمنعنا من أن نضع المبادرة ضمن سياق المشروع العام للجابري أو سيرته الفكرية، فبعد إنجازه مشروع قراءة التراث الفكري العربي في أنساقه المختلفة، انتقل الجابري إلى قراءة الأساس والأصل الذي قام عليه هذا التراث، محاولا تطبيق نفس المبدأ الذي اعتمده في تناول التراث ألا وهو: »جعل المقروء معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في الآن نفسه«.
أما معاصرة النص لنفسه فتتم من خلال تطبيق المبدأ الذي نادى به كثير من علماء المسلمين، من المفسرين وغيرهم، وهو أن »القرآن يشرح بعضه بعضا«، وذلك دون إقصاء الروايات والمأثور، على أن يشهد القرآن لهذه الروايات بالصحة، ولا تقع في تصادم معه. والجابري في اعتماده هذا المبدأ لا يبتغي بعمله هذا أن يدون تفسير للقرآن، بل يقتصر هدفه على التعريف به، ولكن هذا التعريف قد يدعوه إلى قراءة القرآن نفسه، وتفسير بعض نصوصه. وأما معاصرة النص لنا، فإنما تتم كما يرى الجابري على صعيد الفهم والمعقولية لهذا النص، هذا فضلا عن صعيد التجربة الدينية المتحققة دوما.
وقد سمّى الجابري كتابه هذا مدخلا وتعريفا بالقرآن، إذ أراد من خلاله أن يكتب سيرة للقرآن، يرى أنها ضرورية جداً لفهمه، وضرورية لجعله معاصراً لنفسه. من أجل هذا جعل كتابه على ثلاثة أقسام: عرض في القسم الأول منها لقضايا تنتمي إلى التاريخ السابق على القرآن، بما هو رسالة إلهية موحاة، ودعوة نبوية جديدة.
من هذه القضايا مسألة التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الفكر الديني السابق على الإسلام، وهي قضية لم تزل مثارا للجدل بين المسلمين وأهل الكتاب من يهود ونصارى منكرين وجود مثل هذه البشارة (1) وقد أوضح الجابري أن المسألة لم تكن مجرد تبشير ب»الأمي« الذي اسمه أحمد أو محمد، على النحو الذي فهمه كثير من المفسرين، وحاولوا بناء عليه التنقيب في كتب اليهود والنصارى على دليل عليه بل مسألة التبشير مرتبطة بوجود تيار ديني توحيدي قام في وجه نظرية التثليث التي رسمتها المجامع الكنسية برعاية الإمبراطورية البيزنطية. ولعل أبرز من يمثل هذا التيار هو آريوس الذي قام بثورته في القرن الرابع الميلادي متبعا عقيدة »النصارى« الموحدين أو من أطلق عليهم أصحاب التثليث لقب »الأبيونيين« أي الفقراء نظريا وفكريا وعمل على نشرها في أنحاء عديدة من الإمبراطورية البيزنطية. ولكن المجامع المسكونية الرسمية قابلت مذهب آريوس بالرفض وبدَّعت كل من يرفض فكرة التثليث، فما كان من هؤلاء بحسب رأي الجابري إلا أن طرحوا فكرة النبي »المنتظر« الذي بشرت به نصوص بعض الأناجيل تصريحا أو تلميحا، أو على سبيل التأويل. وفي هذا الإطار يمكن فهم ما جاءنا من أخبار عن كثير من الرهبان يصرحون بقرب ظهور نبي جديد، وكذلك نفهم ظاهرة »الحنفاء« الباحثين عن الدين الحق، التي انتشرت في أرجاء جزيرة العرب.
وقد حاول الجابري أن يؤكد على أن العلاقة التي تحكم الإسلام بكل من اليهودية والمسيحية هي علاقة تحكمها شجرة نسب واحدة، جذعها المشترك هو إبراهيم شيخ الأنبياء. وهذا كلام لا إشكال فيه، لولا أن السياق يقتضي التفريق بين اليهودية (2) أو المسيحية الأصلية الحقة وبين اليهودية التاريخية أو المسيحية البيزنطية التي انحرفت وانجرفت بعيدا عن أصل التوحيد الإبراهيمي. والكلام الذي أسلفه المؤلف يقتضي هذه التفرقة أصلا.
يطرح الجابري بعد هذا مسألة »النبي الأمي« ومفهوم »الأمية« على بساط البحث والنظر، وهي مسألة كثيرا ما طرحت في العصر الحديث، وقد وافق فيها الجابري آراء كثير من المعاصرين من المستشرقين والمسلمين. حيث ذهب إلى أن المعنى الذي ألصق بكلمة »الأمي« وأنه من يقرأ ولا يكتب، معنى لا يسنده أصل لغوي سليم، ولا استعمال عربي معهود، ولا واقع تاريخي صحيح. فهذا اللفظ »الأمي أو الأمية« لم يستعمله العرب قبل الإسلام، بل هو معرَّب، ومأخوذ عن اليهود الذين كانوا يطلقون على غيرهم ممن ليس لهم كتاب منزل لفظ »الأمم«، وعليه فإن »الأمي« مشتق من »الأمة « كما يقول الفراء وليس من »الأم« كما يقول الزجاج وغيره من المتأخرين. كما أن كثيرا من الدلائل تشير إلى معرفة العرب بالكتابة والقراءة، فضلا عن إلمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بها.
وعليه فإن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في أنه قد جاءهم بكتاب، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، بل المعجزة أو فلنقل المنة كانت في إنزال كتاب سماوي على رجل أمي من أمة أمية لم يسبق لهم علم بكتاب سماوي، فأصبح العرب بهذه المعجزة »القرآن« أمة من أهل الكتاب، بعد أن كانت أمة أمية لا كتاب لها.
ثم تطرق الجابري لحدث الوحي، ومفهومه، وللاتهامات التي وجهتها قريش لدعوى الوحي، إذ لم يكن مفهوم الوحي، بالمعنى القرآني، معروفا في معهود العرب اللغوي والثقافي، بل إن مفهوم النبوة أيضا لم يكن من معهودهم، فهذه المفاهيم مما نشأ مع الإسلام، وقد استطرد الجابري بعد ذلك في عرض نظرية النبوة ومفهومها عند المسلمين من المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة والمتصوفة والشيعة، كما تعرض لمفهوم الوحي في اليهودية والمسيحية، مبينا تميز مفهومه في الإسلام عنهما.
أما القسم الثاني من كتابه، فقد خصصه الجابري لبحث مسارات الكون والتكوين للقرآن. واعتمد في بنائه، وفي تخطيط ما سيليه من بحثه على المفاهيم التي عبَّر بها القرآن عن نفسه، مع ملاحظة السياق التاريخي الذي جاءت فيه.
فقد لاحظ الجابري أن القرآن أولَ ما نزل، عبَّر عن نفسه بلفظ »الذكر« ولفظ »الحديث«، حينها لم يكن قد نزل من القرآن إلا سور معدودة قصيرة، ومع انتقال الدعوة إلى المرحلة العلنية، وبدء المواجهة مع المشركين، وتكاثر السور حتى بلغت نحو ثلاثين سورة، ظهر لفظ »القرآن«، ليشير إلى أنه كلام تقوم طريقة تلاوته وترتيله بتأثير ينقل موضوع الذكر والحديث إلى مشاهد صوتية منغمة، تقرر وجودا يحمل معه برهانه، فيستغني عن برهان العقل: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر:21، وقد استقر هذا الاسم علما على الوحي المحمدي، وأصبح »الذكر« و»الحديث« أوصافا للقرآن، وعلى نحو أدق أصبح المراد بالذكر جزءا مخصوصا من القرآن، وهو آيات القصص، والوعد والوعيد.
أما لفظ الكتاب فقد بدأ مع سورة الأعراف {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الأعراف:2، التي تستحق أن توصف بأنها كتاب بحد ذاتها، فهي أطول سورة نزلت بمكة، وإطلاق اسم »الكتاب« على القرآن عملية ذات مغزى، فهي أول إشارة إلى انتقال العرب من وضع أمة أميَّة لا كتاب لها إلى وضع أمة لها كتاب، وفي الوقت نفسه تضع حدا لاحتكار اليهود والنصارى للقب »أهل الكتاب«، وسورة الأعراف على وجه الخصوص، تضع بين ناظري العرب تاريخهم الخاص على مسرح النبوة والرسالات السماوية، أي أنبياء العرب »البائدة« عاد وثمود ومدين وغيرهم.
هذه هي اللحظات الثلاث في سيرة القرآن، لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، ولحظة القرآن/الذكر:القص، ثم لحظة القرآن/الكتاب: عقيدة وشريعة وأخلاق. وقد عرض الجابري في كتابه هذا اللحظتين الأوليين وترك اللحظة الثالثة للجزء الثاني الذي وعد به القراء.
أما لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، فقد عرض فيها لمسألة الأحرف السبعة والقراءات، وجمع القرآن، وما أثير حوله من القول بالزيادة والنقصان، وترتيب المصحف، وترتيب النزول. وقد مسَّ الجابري هذه المسائل المشكلة مسَّا خفيفا، فلم يحلَّ إشكالاتها، ولم يأت بما يشفي الغليل، بل اكتفى بسرد بعض الآراء التي ذكرت في كتب علوم القرآن حول هذه المسائل، مع الميل إلى المشهور وما عليه الجمهور من هذه الآراء.
وكان من الواضح أنه يريد بإيراده هذه المسائل تقرير بعض الأسس التي سيستند إليها في فهمه للقرآن، لاسيما التسليم بصحة المصحف العثماني وما ثبت من القراءات المتواترة، كما انتهى إلى أن ما ينسب إلى المصادر الشيعية من القول بنقصان شيء من القرآن فهو ليس إلا انعكاسا لموقف سياسي احتجاجي.
أما فيما يتصل بترتيب النزول فقد اهتم الجابري بهذه المسألة اهتماما بالغا، إذ إن هذا الترتيب لا بد منه لرسم المسار التكويني للنص القرآني. وقد لاحظ الجابري التقارب والتشابه بين لوائح ترتيب السور التي نقلتها كتب علوم القرآن عن ابن عباس وجابر بن زيد وغيرهما. كما عرض لاجتهادات المستشرقين في ترتيب السور. وخلص إلى القول بأن «القرآن كتاب مفتوح، يتألف من سور مستقلة تكونت مع تدرج الوحي، والسور نفسها مكونة من آيات مرتبطة في كثير من الحالات بوقائع منفصلة هي أسباب النزول. من أجل ذلك كان من غير الممكن التعامل مع القرآن كنص معماري مهيكل حسب ترتيب ما» (ص243).
بهذا المعنى، يكون الجابري، قد دخل بمشروعه الفكري الثاني هذا، إلى خانة العالم الفقيه، بذات الحمولة الكلاسيكية للفقيه في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، أي منتج الأفكار وموجه العقول من خلال امتلاك حجية الاجتهاد. وهو الاجتهاد الذي تكون قوته آتية من اتساق معارف المجتهد وأيضا من جرأته في الانتصار للعلم والحق والعقل. بذلك يكون فعلا محمد عابد الجابري، قد بصم لاسمه صيرورة أبدية، بصفته فعليا «ابن رشد القرن العشرين».. على الأصح، جابري الفكر العربي الإسلامي.. فالرجل أصبح علما وأيقونة ومعنى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.