كان رجال الدين هؤلاء يحطون الرحال بسلا بعد أن يكونوا قد حصلوا على إذن بالمرور من قبل السلطان. ثم إذا لم يسعفهم الحظ في الحصول على مساعدة من الإمبراطور، فإنهم يلتحقون بمكناس مستعملين وسائلهم الخاصة، مثلما حصل لبعثة الآباء دو لاميرسي سنة 1704. وعند وصولهم إلى العاصمة الشريفية يكونون أمام أحد أمرين: فإما أن يمرّوا عبر قناة اليهود أو شركائهم من التجار الذين يبدون اهتمامهم بهذا النوع من الصفقات، أو يتاح لهم لقاء السلطان مباشرة. وفي الحالة الثانية، كما في الحالة الأولى، فإنه يكون عليهم أن يقدموا هدايا، ذلك أن الوسطاء الرسميين أو الشخصيين لم يكونوا يتساهلون في الحصول على أتعاب مهمة، وعندما يتاح لرجال الدين أخيرا أن يقابلوا السلطان شخصيا لا يكون قد صار تحت يدهم سوى القليل مما جلبوه معهم من هدايا. كان الاستقبال الذي يخصهم به الشريف غاية في البساطة. وقد كان من عادة المولى إسماعيل أن يقتبل الأوروبيين في الهواء الطلق. ولم يكن القنصل بيدو دو سان-أولون قد حظي باستقبال يختلف عن ذلك الذي ناب أعضاء بعثتي دو لاميرسي أو دو لاترينيتي. كان السلطان يجلس على الأرض محاطا بالمقربين إليه، بينما يقرفص الوزراء ذات اليمين وذات الشمال، ويمضي في الاستماع إلى الخطب الموجهة إليه، وقد يردّ عليهم بعد ذلك من دون أن يتخلى عن إسداء موعظة صغيرة يسوقها في نهاية كلامه يحضّ فيها المسيحيين على الاعتراف بحقيقة الديانة المحمدية. بعد ذلك ترفع الجلسة، ويكون على المبعوثين مناقشة تفاصيل مهمتهم مع الوزراء المعنيين. وكان هؤلاء الأخيرون متشددين في مطالبهم بحيث يشترطون مقابل كل أسير مسيحي ثلاثة أسرى مغاربة، أو يرفضون المبالغ المقترحة كفدية (38) وعندما كان المبعوثون يلتمسون لقاء السلطان من جديد للحصول على شروط أفضل يصير ذلك مستحيلا لأنه لم تعد لديهم هدايا يقدمونها. ولأجل ذلك فقد كانت المساومات المضنية تطول ولا تؤدي في النهاية سوى إلى الإفراج عن بعض البؤساء القلائل بينما كان الأمل الذي يراود البعثة هو التوصل إلى تحرير أكبر عدد من الأسرى. وعندها تعرض صفوفهم على أنظار الآباء، كنت تراهم يُقبلون عليهم منبطحين وهم يقبّلون ذيول أثوابهم، ولأنهم يأملون في إثارة شفقتهم تجدهم يحرسون على أن تبدو عليهم علامات الشيخوخة، والمرض، والعجز، ذلك أن المغاربة لم يكونوا يسمحون برحيل سوى أولئك الأسرى الذين تدهورت صحتهم، أو أصيبوا بعاهات، أو جعلهم طول إقامتهم في الأسر يفقدون قدرتهم على العمل والإنتاج. وأخيرا تأتي لحظة أداء الفديات، التي يعقبها انطلاق القافلة الحزينة في طريق العودة يشيّعها أنين ونواح أولئك الذين كتب عليهم المكوث في الأسر. ولم يكن هذا نهاية الأمر، فقد كان يستوجب دفع بعض المال للوسطاء على كل رأس يجري افتداؤه، وفي الميناء قبل الإركاب كان عليهم كذلك أن يدفعوا واجبات مغادرة تراب المغرب (5). وفي الحقيقة، كانت توجد هناك طريقة أخرى للتحرر من الأسر، وهي الفرار. فقد كانت معاناة البؤس واليأس من عدم الافتداء تدفع بالكثير من الأسرى إلى محاولة خوض كل الأخطار للخلاص من قبضة معذبيهم. غير أن التضييق على حراسة المطامير والأوراش، والحراسة المشددة التي كانت مضروبة على الشواطئ (39)، تضاف إلى ذلك قساوة العقاب المرصود لكل مَن سوّلت له نفسه محاولة الهرب..كل ذلك لم يكن يمنع الأسرى من المجازفة بالمحاولة. ولأجل ذلك كان الأسير يبدأ باذّخار قطع الخبز التي يقوم بتيبيسها ليقتات بها حلال رحلته، ثم عندما يقدّر أن مخزونه من الخبز قد صار كافيا، يقرر الفرار بالتواطؤ مع رفاقه الذين يقومون بطمره في أحد الخنادق، مع الإبقاء على رأسه مغطى بالأعشاب بانتظار حلول الظلام الذي يشكل فرصة مواتية لمغادرة المكان مسترشدا بالنجم القطبي ومستعينا بالرعاية الإلهية. وقد كان كثير منهم يقعون في قبضة الحراس ويتعرضون للتعذيب. غير أن بعضا منهم كان يتمكن فعلا من النجاة.