يروم هذا المقال الذي يقترح ننشره في حلقات تحقيق خمسة أمور، أولا: التحذير من معارضة مطالب حركة 20 فبراير، بل وحتى من التشكيك في نوايا أصحابها. ثانيا: ركوبها لقضاء مآرب ذاتية، أو لتشويه أو تحريف أهدافها. ثالثا: تجنب استغلالها لطمس كفاح الحركة الوطنية التحريرية في عهد الحماية ونضالات الأحزاب الأصلية في عهد الاستقلال من أجل ترسيخ الفكر الديمقراطي وبناء نظام في الحكم أساسية ملكية دستورية. رابعا: تجنب استغلال هذه المظاهرات ومكوناتها للمس أو تشويه دور الأحزاب الديمقراطية واتهامها بالسلبية وبأنها متجاوزة. خامسا: وجوانب أخرى يترك للقارئ أمر استخلاصها. الشارع يتحرك أو تحرك الرواكد وانسياب الروافد شهدت كبريات المدن المغربية انطلاقا من 20 فبراير 2011 مظاهرات سلمية ضخمة اتسمت بالنظام والاتزان والشعور بالمسؤولية، وإن شابتها كأي مظاهرة اختلالات هي من فعل عناصر لا يمكن أن يكونوا محسوبين على الآلاف من المواطنين الواعين بخلفيات هذه المظاهرات وأهدافها. وبصرف النظر عما أثارته هذه المظاهرات ولا تزال، فإن الجانب المثير فيها ولو لم تنسب إلى تنظيم حزبي أو نقابي أو جمعوي هو ما رفعه المتظاهرون أو هتفوا به من شعارات ومطالب اجتماعية وسياسية واقتصادية، فكأنما نحن أمام استعراض نقابي أو تظاهرة حزب ديمقراطي، بل ولم لا نقول إنها نفس المطالب الاجتماعية التي طالما تقدمت بها المركزيات النقابية ونفس الإصلاحات السياسية والدستورية التي طالبت بها الأحزاب الديمقراطية وخاصة الفصائل التقدمية، وفي تلك المراحل التي أفضل تسميتها «مرحلة النضال العسير من أجل التغيير الجذري»، و التي يفضل غيري تسميتها «بعهد الرصاص»، وكيفما كانت تسمية هذه المرحلة فإنها عرفت نضالا مريرا لم يكن بغير تضحيات ودون مضايقات، بل واضطهاد واعتقالات طالت مجموعة واسعة من النشطاء السياسيين والنقابيين والجمعويين والذين ما كان ذنبهم إلا أنهم طالبوا بنفس ما طالب به المشاركون في مظاهرات 20 فبراير وما تلاها من مظاهرات. المبادرة الأولى لطرح المسألة الدستورية في عهد الحماية إن حركة المطالبة بالديمقراطية وبنظام ملكي دستوري ليست جديدة في المغرب، إنها حركة يرجع انطلاقها إلى مطلع القرن العشرين وبالضبط 1908، فباستقراء تاريخ المغرب وحصرا قبيل فرض عقد الحماية عليه نجد أن موضوع الإصلاحات العامة وفي مقدمتها الإصلاحات السياسية لم يكن غائبا سواء عن تفكير الحكام أو رجال الإصلاح، فقد كان هؤلاء معا يهدفون إلى إخراج المغرب من نظام مخزني تقليدي متجاوز، على أن هذا لم يكن في اتجاه إدخال تغييرات جذرية على نظام الحكم لا من طرق الحكام ولا من لدن دعاة الإصلاح، وكل ما هناك أن السلطان مولاي الحسن الأول مثلا شرع في القيام ببعض الإصلاحات كان القصد منها إنقاذ البلاد مما ألت إليه من فوضى وإخراجها من العزلة التي فرضتها على نفسها خصوصا في عهد السلطان مولاي سليمان ولظروف قاهرة لم يتمكن السلطان مولاي الحسن الأول من تحقيق مبتغاه، وهكذا إلى عام 1908 حيث تذكر بعض المصادر أن حركة المطالبة بالدستور ظهرت في هذا العام وإن كان للمرحوم محمد حسن الوزاني رأي مخالف في الموضوع، (انظر الجزء الأول من مذكراته «حياة وجهاد» ص 75 وما بعدها) وحتى إن صح رأي الوزاني، فلا أحد يذكر أن الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي «دعا زعماء القبائل المجاهدة إلى عقد مؤتمر شعبي اعتبره بمثابة مجلس تأسيسي أو جمعية وطنية» وكان أول قرار اتخذه هذا المجلس هو تأسيس حكومة دستورية جمهورية (انظر الحركات الاستقلالية للمرحوم علال الفاسي ص 121). الحركة الوطنية والمسألة الديمقراطية وبالرجوع إلى الأبيات الحركة الوطنية نعثر على ما يفيد أن أحزابها طرحت مسألة الإصلاحات السياسية بعد أن يئست من استجابة الدولتين الإسبانية والفرنسية لمطالبها الإصلاحية في الإدارة والتعليم والقضاء... وهكذا فقد بادرت الحركة الوطنية في شمال المملكة (المنطقة الخليفية إذاك) التي كانت خاضعة للنفوذ الإسباني، إلى إصدار «ميثاق وطني» بمناسبة نزول الجيوش الأمريكية بشواطئ المغرب في 8 نوفمبر 1942 بأسابيع تضمن خمس نقط من بينها المطالبة بمنح المغرب الحرية والاستقلال وإقامة نظام ملكي إسلامي (أي شوري) (انظر مذكرات «حياة و جهاد» - 2 لمحمد حسن الوزاني ص 89). أما في المنطقة السلطانية أو الداخلية، كما كانت تسمى قبل الاستقلال، فقد بادرت الحركة الوطنية متمثلة في حزب الاستقلال إلى تقديم عريضة إلى كل من السلطان محمد الخامس رحمه الله وإلى الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب وإلى جهات أخرى... نقتطف منها ما نحن بصدده فقد جاء فيها بشأن السياسة العامة «أن يلتمس من جلالته أن يشمل برعايته حركة الإصلاح الذي يتوقف عليه المغرب في داخله، ويكل لنظره إحداث نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد الإسلامية في الشرق تحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب المغربي وسائر طبقاته وتحدد فيه واجبات الجميع»، و قد تبني الحزب القومي (الذي تحول إلى حزب الشورى والاستقلال) نفس العريضة بعد إدخال تعديلات جزئية لم تمس الجوهر، بل وأن هذا الحزب كان يضع المسالك الدستورية في المقام الأول ضمن مطالبه (الشورى ثم الاستقلال) وكان شعاره المعروف «الدستور يؤدي إلي الاستقلال على عكس حزب الاستقلال الذي كان شعاره الاستقلال الذي كان شعاره الاستقلال التام يؤذي إلى الدستور...» الطبقة العاملة والمسألة الديمقراطية ولا يمكن التحدث عن موقف فصائل الحركة الوطنية في عهد الحماية في المسألة الديمقراطية دون التذكير بمساهمة الطبقة العاملة المغربية في هذا الموضوع، من المعلوم أن العمال المغاربة كانوا محرومين من الانتماء النقابي وعدم السماح لهم بذلك، منعوا من تكوين نقابة خاصة بهم مما اضطرهم للانخراط في نقابات فرنسية كانت لها فروع بالمغرب ومنها الكنفدرالية العامة للشغل C.G.T و القوة العمالية F.O علما بأن أغلبية العمال كانوا منخرطين في النقابية الأولى C.G.T بتوجيه من أحزاب الحركة الوطنية لتوجهها التقدمي وتعاطفها مع مطالب الشعب المغربي. فبالرجوع إلى بيانات الحركة النقابية نستخلص فيما يرجع للمسألة الديمقراطية أن هذه كانت حاضرة في التوجه النقابي منذ تأسيس أول نقابة عمالية في المغرب وهي الاتحاد المغربي للشغل U.M.T (20 مارس 1955)، ففي أول بيان صدر عن هذه النقابة عقب اختتام أشغال مؤتمرها التأسيسي أعلنت عن عزم الطبقة الشغيلة على النضال من أجل احترام حقوق الإنسان وقيام نظام ديمقراطي. (من البيان الأول الصادر عن المؤتمر التأسيسي للاتحاد المغربي للشغل 20 مارس 1955 بالدار البيضاء). وبهذا البيان ستكون الحركة الوطنية بجميع فصائلها الحزبية والنقابية قد اعتنقت الديمقراطية كأسلوب للحكم وتدبير الشأن العام. بعد الاستقلال كان الإجماع على إقامة ملكية دستورية ديمقراطية أما في عهد استقلال فإن الحركة الوطنية واصلت انشغالها بالمسألة الديمقراطية وإن اختلفت رؤية فصائلها في مفهوم هذه الآلية. فليس من المهتمين بالمسألة الدستورية من لا يعرف أن العاهل المغربي المرحوم محمد الخامس عبر في مقابلة جرت بينه وبين رئيس جمهورية فرنسا يوم 6 نوفمبر 1955 عن رغبته في إنشاء حكومة مغربية لإدارة شؤون الدولة ولمفاوضة فرنسا، حكومة تتمثل فيها عناصر الرأي العام المغربي، وتكون مهمتها الأولى إعداد مشروعات إصلاحية تمهيدا لإنشاء دولة مغربية ديمقراطية ذات نظام دستوري (انظر كتاب «المغرب في طريق الاستقلال» لمحمد العربي الخطابي ص 119)، و هذا ما أكده في أول خطاب للعرش بعد عودته من منفاه، حيث جاء فيه «وستكون الخطوة الأولى بحول الله تأسيس حكومة عصرية مسؤولة تعبر تعبيرا حقيقيا عن إدارة الشعب سنقلدها ثلاث مهمات، المهمة الأولى مهمة تدبير شؤون البلاد، والمهمة الثانية وضع أنظمة ديمقراطية على أساس الانتخاب وفصل السلط في إطار ملكية دستورية قوامها الاعتراف لجميع المغاربة على اختلاف عقائدهم بحقوق المواطن وبالحريات العامة والنقابية، والمهمة الثالثة المفاوضات مع الحكومة الفرنسية (انظر المرجع نفسه ص 123). وذات الاهتمام بالجانب الديمقراطي هو ما جاء في تصريح أول حكومة مغربية بتاريخ 13 دجنبر 1955 بعد استرجاع المغرب لاستقلاله مباشرة، وقد جاء فيه وكما أشار إلى ذلك صاحب الجلالة ستباشر حكومتنا تدبير شؤون البلاد وإفراغ المؤسسات المغربية في قالب ديمقراطية منسجمة مسؤولة أمام صاحب الجلالة (نفس المرجع ص 161). ثم وهل ينسى نشطاء الأحزاب الوطنية أن أول مؤتمر عقده حزب الاستقلال مباشرة بعد استرجاع المغرب لاستقلاله والذي انعقد في شهر دجنبر 1955 حيث تضمن البرنامج، الذي تمت الموافقة عليه، مشكل الحكم الديمقراطي، ومما جاء فيه في هذا الشأن «ومع ذلك فريثما تتم المفاوضات التي ستفضي إلى نظام ديمقراطي على أساس الملكية الدستورية». وهل لا يتذكر هؤلاء النشطاء أن حزب الشورى والاستقلال قدم في نفس المرحلة إلى جلالة الملك محمد الخامس رحمة الله، مذكرة جوابية عن استفساره عن رأي الحزب في كيفية تسيير البلاد جاء فيها: «وسيقوم النظام الجديد على الملكية الدستورية المرتكزة على أساس ديمقراطي وستؤسس مؤسسات ديمقراطية نتيجة الانتخابات الحرة، وسترتكز هذه المؤسسات على مبدأ فصل السلط داخل ملكية دستورية تعترف بجميع المغاربة على اختلاف عقائدهم بحقوق المواطن ومزاولة الحريات العامة والنقابية، والنظام الديموقراطي الذي سيتأسس في المغرب سينفي كل ميز عنصري، وسيستمد روحه من التصريح العالمي لحقوق الإنسان» (المرجع السابق ص9). وفي الذكرى الأولى لتأسيس الاتحاد المغربي للشغل (20 مارس 1956) أعادت هذه المنظمة تذكيرها بالمسألة الديمقراطية، حيث تضمن البيان الذي أصدرته بالمناسبة الفقرة التالية: «هذا هو الضبط الدور الذي اختارته منظمتنا النقابية، إن الاتحاد المغربي عليه أن يطالب الحكومة توجيه سياستها فعلا وفق نهج عماده الحرية والديمقراطية» (بيان 20 مارس 1956). وذات الاهتمام أيضا هو ما أولاه المقاومون للمسألة الديمقراطية، ففي شهر غشت 1956 انعقد المجلس الوطني للمقاومة فأصدر مقررا عاما من بين فقراته «وإن نظاما مبنيا على أساس اللامسؤولية وطغيان السلطة واستغلال النفوذ والتملق ليس بقادر على تسيير الشؤون العامة بكيفية مرضية وبالأحرى أن يحقق المتمنيات الوطنية، لأجل هذا فإن المجلس الوطني للمقاومة يستنكر الوضع الراهن الذي تسير عليه البلاد، وتوجه نداءا حارا إلى الشعب المغربي كي يحقق وحدته المقدسة حول الأهداف التالية: في الميدان الدستوري أ- نظام ملكي دستوري يتلاءم مع مبادئ الإسلام الصحيح. ب- احترام حقوق الإنسان كما حددها الميثاق الدولي الخاص بها (مطبوع أصدرته جمعية المقاومة والتحرير بمناسبة العيد الوطني للمقاومة الشعبية 1958 - الطبعة الثانية ص 36). التجربة الأولى: المجلس الوطني الاستشاري وهكذا وقع الإجماع على إقامة دولة مغربية ديمقراطية في إطار الملكية الدستورية، دشنت أولى تجاربها بصدور ظهير ملكي صدر بتاريخ 3 غشت 1956 بمقتضاه تأسس أول مجلس وطني استشاري بطريقة التعيين، حيث وزعت المقاعد على الأحزاب وغيرها من الهيئات الاجتماعية، حسب نسب تقديرية، كانت لحزب الاستقلال الأغلبية في هذا المجلس، مما نجم عنه انتخاب المرحوم المهدي بن بركة رئيسا، والمرحوم المحجوب بن الصديق نائبا له. ولمعرفة قيمة هذا المجلس نرجع إلى ما نص عليه الظهير المؤسس بمقتضاه، وهو ظهير 3 غشت 1956 فقد نص على ما مضمونه أنه مجلس وطني: 1 - استشاري تقريري أو تشريعي. 2 - مرتبط بالسلطة التشريعية والتنفيذية الممثلة في جلالة الملك، وللملك أن يوقف دورات المجلس وأن يعفي الأعضاء أو يحل المجلس بأكمله. 3 - يمثل الرأي العام عن طريق الاختيار والتعيين، فأعضاؤه الستة والسبعون يقسمون على الهيئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الموجودة آنذاك وهي التي تقدم قوائم من ضعف عدد المقاعد التي حددها الظهير إلى جلالة الملك، وهو يختار منها ممثليها في المجلس كما أن للملك حق تعيين الشخصيات التي لا تنتمي إلي هيئة سياسية أو اجتماعية كالعلماء والمحامين مثلا...(عبد الكريم غلاب التطور الدستوري والنيابي في المغرب من سنة 1908 إلى 1977). وإذا كان من تعبير يساق لتبيان قيمة هذا المجلس فهو ما جاء في خطاب الملك الذي افتتح به أولى جلساته في 12 نونبر 1956 حيث قال: «ونحن لا ندعي لهذا المجلس أكثر من كونه خطوة أولى نحو الهدف المنشود» وهو فعلا خطوة ولكنها لم تمكن المجلس من تحقيق الديمقراطية التي تصورتها الحركة الوطنية و«هو بالتالي لا يستجيب للشق الثاني من وثيقة المطالبة بالاستقلال» (كما عبر عن ذلك عبد الكريم غلاب في كتابه المذكور ص 1958). وإذا كانت هذه الخطوة لم ترض النشطاء السياسيين، فإن جلالة الملك تعهد بتطويرها إلى ما هو أفضل حيث قال في نفس الخطاب «أما الهدف الذي لن نذخر جهدا في العمل على إبلاغ شعبنا إليه فهو حياة نيابية بالمعني الصحيح تمكن الشعب من تدبير الشؤون العامة في دائرة ملكية دستورية تضمن المساواة والحرية والعدل للأمة أفرادا وجماعات حتى يتم بذلك خلق ديمقراطية مغربية بناءة». ونفس الفكرة أعلن عنها جلالته في دورة المجلس الخريفية المنعقدة في 8 نوفمبر 1958، وقد كان لإلحاحه على هذه الفكرة دور كبير في اطمئنان الفاعلين السياسيين إلى أن الملك نفسه لم يكن مطمئنا إلى الاستغناء بالمجلس الوطني الاستشاري عن حياة ديمقراطية ومجلس وطني نيابي منتخب تتفق اختصاصاته مع الديمقراطية الحقيقية (غلاب نفس المرجع ص 160). محمد الخامس يعد بحياة نيابية صحيحة ولكن الذي وقع هو تعثر نشاط المجلس الوطني الاستشاري بعد هذه الدورة حيث لم يجتمع إلا في دورة استثنائية في يناير 1959، ثم دورة في الربيع لمناقشة ميزانية تلك السنة وبعدها توقف عن نشاطه لصعوبات سياسية ترتبت عن مناقشة هذه الميزانية في جانبها السيادي، كما شاع آنذاك، ولم يلبث أن أعلن عن انتهاء مهمته بتاريخ 23 ماي 1959 . وقبل الاستمرار في تتبع ما استجد من محاولات حول الفكرة الديمقراطية في المغرب ما بعد الاستقلال أدعو إلى التأمل جيدا في الخطاب الملكي المشار إليه وخاصة المقطع الذي ضمنه كلمتي «حياة نيابية» والتي استنتج غلاب منها أنها تعني تحول المجلس الوطني من مجرد هيئة استشارية إلى مجلس وطني نيابي منتخب تتفق اختصاصاته مع الديمقراطية الحقيقية... فهي ذات قيمة دستورية لا زالت إلى اليوم من بين الإشكاليات السياسية والدستورية التي لم يحسم في شأنها مما لم يساعد على الوصول لاتفاق يضع حدا لخلافات طلت لأكثر من ستة عقود تشغل الجميع عن قضايا تتعلق بنهضة البلاد وتقدمها... مبادرات أخرى فاشلة وإلى جانب هذه التجربة وموازاة معها عرفت البلاد مبادرات هي إرهاصات أكثر منها إقامة مؤسسات ديمقراطية حقيقية، وقد تمثلت هذه المبادرات فيما أطلق عليه آنذاك العهد الملكي الذي أعلن عنه في خطاب ملكي ألقي يوم 8 ماي 1958 بمناسبة تكوين حكومة جديدة برئاسة الحاج أحمد بلافريج، ومما جاء فيه «الاستقلال ليس غاية، وإنما هو وسيلة لتحقيق إصلاحات جوهرية وتزويد البلاد بأنظمة ومؤسسات سياسية ودستورية سليمة(...) وذلك بإقامة مؤسسات سياسية دستورية يشارك فيها الشعب مباشرة في تسيير الشؤون العامة...» وقد نص العهد الملكي على أن السيادة للشعب، لكن الذي يجسدها هو الملك، وعلى التمييز بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وعلى إقرار مبدأ حقوق الإنسان والحريات العامة بقانون، ونص أيضا على تشكيل مؤسسات دستورية يراعى فيها الواقع التاريخي الوطني وعلى أن تسير الديمقراطية السياسية سيرا موازيا لبناء ديمقراطية اجتماعية واقتصادية. كما أقر العهد «توقيتا تقريبيا لإنجاز المؤسسات التمثيلية ابتداء بانتخاب مجالس بلدية وقروية وصولا إلى انتخاب مجلس وطني تقريري من بين أعضاء هذه المجالس على أن تكون اختصاصاتها محدودة انتهاء بتأسيس مجلس وطني ينتخب انتخابا عاما..» لكن الذي وقع هو تأخر تشكيل المؤسسات المومإ إليها في العهد الملكي باستثناء صدور قانون الحريات العامة (15 نوفمبر 1958) أما المجالس البلدية والقروية وقانون الانتخابات فلم يصدر بشأنها شئ إلى 1959 بالنسبة لقانون الانتخابات، و1960 بالنسبة للانتخابات البلدية والقروية. ومن الملاحظ أن العهد الملكي قد صدر بعد انعقاد اللجنة السياسية لحزب الاستقلال بتاريخ 20 أبريل 1958 والذي أصدر بلاغا طالب فيه بجملة من الإصلاحات كشرط لاستمراره في تحمل المسؤولية في الحكومة ومنها ما له صلة بموضوعنا وهو الديمقراطية، فقد رهن مشاركته في الحكومة بالعمل على توفير مؤسسات تتيح للشعب مشاركته في وضع وتنفيذ التصميمات وتمكنه من تنفيذها ومراقبتها، وذلك بواسطة إيجاد المجالس القروية والبلدية ومجلس وطني منتخب يراقب تطبيق بنود الدستور ويراقب سير الحكومة ويحاسبها على أخطائها، إذا ما ارتكبت أخطاء، ويحقق التوازن المنشود بين الحاكمين والمحكومين...(من خطاب ألقاه المرحوم المهدي بن بركة بتاريخ 31 يوليو 1958 بتطوان بعنوان «نحو بناء مجتمع جديد»). ومن بين هذه المبادرات صدور قانون الحريات العامة في تاريخ 15 نوفمبر 1958 الذي تميز بتكريس تأسيس الجمعيات وحرية الاجتماعات العمومية، وإصدار الصحف وحرية الطبع والنشر وترويج الكتب، وهي مجالات كانت في الواقع ممارسة من قبل ولاسيما بعد استرجاع المغرب لاستقلاله... ولكن رغم ما في هذا القانون من إيجابيات، فإن الآليات الأخرى التي طالبت بها الهيئات السياسية والاجتماعية، ونص على بعضها العهد الملكي لم تظهر للوجود، وذلك لأسباب يكتفى بالتذكير بما هو أساسي منها، وهو نشوء خلاف بين جناحين في حزب الاستقلال كانت ظرفية الكفاح ضد الاستعمار وبعدها الانشغال بترتيب شؤون البلاد ووضع اللبنات الأولى لبناء الاستقلال، وأمور أخرى حساسة تؤخذ بعين اعتبار، ولكن ما إن تم تنصيب حكومة بلافريج حتى بدأ ما كان خفيا من خلافات بشأن عدة أمور أبرزها مسألة العلاقة بين المؤسسة الملكية والحزب، وستزداد حدة هذا الخلاف عندما استبدلت حكومة عبد الله إبراهيم بحكومة بلافريج في دجنبر 1958، التي تألفت من وزراء أغلبهم محسوبون على الجناح التقدمي في حزب الاستقلال، وسيحسم هذا الخلاف حين قام هذا الجناح بمبادرة عرفت بانتفاضة 25 يناير 1959، التي تحولت في فاتح فبراير من نفس السنة إلى تنظيم أطلق عليه اسم «الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال» (وللتدقيق فإن هذا التنظيم تكون بعد وقوع عدة انتفاضات حدثت في كثير من المدن ما بين 25 يناير و31 منه، والتي عقدت اجتماعا بتاريخ 1 فبراير تم الاتفاق فيه على تشكيل هذا الحزب الجديد). يتبع