من المفيد الإشارة، بدءا، إلى أن مطلب جعل القضاء سلطة، هو مطلب أثث الخطاب السياسي الذي حملته الأحزاب الوطنية والديمقراطية منذ بداية الاستقلال، وعلى الخصوص في الفترات التي أصبحت تعرف بسنوات الجمر التي استعمل فيها القضاء كوسيلة لمواجهة تلك الأحزاب، بل أحيانا لإعطاء شرعية قضائية لتصرفات مختلف الإدارات، وهو الأمر، اليوم، الذي لم يعد محل اختلاف بعدما وقفت عليه هيأة الإنصاف والمصالحة في تقريرها. ومن المفيد ثانيا، الإشارة إلى أن مطلب جعل القضاء سلطة هو ليس مطلبا دستوريا، وإنما هو في العمق مطلب سياسي محض، أي توجه ليس إلى إضافة كلمة «سلطة» في نص الدستور لتلحق بكلمة «قضاء»، و إنما هو يتوجه إلى الإرادة السياسية لجميع أصحاب القرار السياسي الممارسين لكل السلط في المجتمع من أجل أن تكون نظرتهم و تعاملهم مع القضاء، نظرة وتعامل مع سلطة لها نفس المرتبة التي لباقي السلط الأخرى. خير مقال يمكن أن يساق للتدليل على الفرق المتحدث عنه أعلاه هو أن الدستور الجزائري ، مثلا ، يتضمن جملة «سلطة القضاء» بينما الدستور الفرنسي يتكلم عن AUTORITE وهي من حيث اللغة قد تظهر أقل قوة من كلمة POUVOIR ، حسب المتداول من بينما في العمق قد يكون لكلمة AUTORITE وزنا أكثر لما تنصرف إليه من قوة معنوية و أخلاقية مقررة و فاعلة تتجاوز كلمة POUVOIR التي قد تنصرف الى نوع الاختصاص في التدبير اليومي. ومن المفيد الإشارة، ثالثا، إلى أن اللغة العربية لا تفرق بين كلمة سلطة AUTORITE وكلمة POUVOIR فهما معا تعنيان كلمة « سلطة «. فهل إضافة كلمة «سلطة» لكلمة «القضاء» في دستور المملكة المقبل من شأنه أن يغير ويشعر كل المعنيين بالعدل في المغرب بذلك التغيير من جهة، وفي أي اتجاه سيكون ذلك التغيير من جهة أخرى. بعد هذه الإشارات، يمكن ملامسة مفاتيح تناول هذا الموضوع من خلال محاولة الجواب على السؤال التالي: هل النقاش الدستوري لوضعية القضاء هو نقاش يخضع إلى منطق التعديل أم أنه نقاش يخضع إلى منطق التأسيس. علما أن أي نقاش، حول أي دستور، لابد له من التسلح بآلية و بمنطق و بمنهجية تكون بمثابة البوصلة التي توجه تفكيره. ومن المعلوم أن كتابة أو تعديل أي دستوري يخضع لمنطق آخر غير كتابة أو تعديل قانوني عاد كيف ما كان. ذلك أن الفكر الذي يشتغل علي القانون هو فكر يتجه إلى ضمان مصالح يومية للأفراد في المجتمع قابلة للتغيير في أي وقت من طرف البرلمان أو حتى قابلة للتفسير أو إعادة التفسير من طرف المحاكم أو من طرف الأطراف عندما تكون تلك القوانين غير عادلة. لكن عندما يتعلق الأمر بنص دستوري، فإن المشرع الدستوري لن يقبل منه أن يجرب في مجتمع ما، قواعد دستورية لا يعلم بالأثر الذي ستحدثه عند سنها و دخولها حيز التنفيذ. إذ أن نجاح مشرعي الدساتير يبرز من خلال مدى اطلاعهم على تجارب دول أخرى التي طبقت قاعدة دستورية معينة، ومدى علمهم ودرايتهم بالأثر المجتمعي الذي أحدثته تلك القاعدة في مجتمعات أخرى وما هو الأثر المحتمل عند تطبيقها في المجتمع المغربي الذي له ,مثل جميع المجتمعات خصوصيته. ويمكن أن نقول اليوم أن الأساتذة الأجلاء المعهود لهم بصياغة مشروع الدستور المقبل , وليس فقط بتحريره , فيهم , بحكم المستوى العلمي الرفيع المعروفين به والضمانة العلمية المشهود لهم بها , ما يضمن تحقق ما سبق الإشارة إليه . أن محاولة الجواب عن السؤال المطروح أعلاه يدفع إلى تفضيل القول بأن الاختيار بالارتقاء بالقضاء كسلطة يدفعنا للقول بأننا في منطق التأسيس للقضاء كسلطة , أي منطق نحاول به الجواب عن سؤال الاتصال و الانفصال بين القضاء و السلطات التنفيذية من جهة و السلطة التشريعية من جهة اخرى. فما هي إذن الأفكار المؤسسة لهذا الوضع الدستوري الذي نريده أن يكون جديدا في دستورنا ، وما هي التحولات التي من المنتظر أن يعرفها المشهد القضائي بعد دخول الدستور الجديد حيز التطبيق، علما و للتذكير، أن مؤسسة القاضي هي المؤسسة التي يمكن لها أن تفقر غنيا أو تغني فقيرا, أن تحرم مواطنا من حريته أو تحرمه حتى من حياته. مباشرة بعد النطق بكلمة : حكمت المحكمة.... فهذه السلطة الخطيرة هي نهاية المسار بين يدي شخص , مواطن, قد يخطأ وقد يصيب مثله مثل كل البشر فوق هذه الأرض، خصوصا وأن الاتجاه الجاري اليوم من طرف وزارة العدل هو الرجوع إلى القضاء الفردي,أي الرجوع إلى إرادة واحدة تحدد الحقوق والواجبات والتي لنا فيها رأي ليس هذا الموضوع مجالا له. أن أي متتبع للنقاش الدائر اليوم حول مشروع الدستور المقبل سيلاحظ أن النقاش ينصب كليا حول الاختصاصات, أي اختصاصات السلطات التنفيذية واختصاص السلطة التشريعية و رئيس الحكومة و غيرها من الاختصاصات. لكن، عندما يفتح النقاش حول القضاء, نلاحظ أن هناك تحولا جدريا، إذ أن ذلك النقاش لا يتعلق بالاختصاصات، وإنما يتعلق بتركيبة المؤسسة الممثلة للقضاء أو المتحدثة باسمه أو بأي صفة أخرى، ألا وهو المجلس الأعلى للقضاء. فهذا الفرق الجوهري بين نوعين من النقاش يتأكد ويتضح عندما نعود إلى قراءة المذكرات التي قدمت للجنة صياغة الدستور من قبل الأحزاب السياسية، و ممثلي القضاة وممثلي المجتمع المدني. و التي يظهر منها تعدد المواقف بخصوص تركيبة هذه المؤسسة ، بينما في المقابل قد نلاحظ أن النقاش حول اختصاصات هذه المؤسسة يكاد يكون غير حاضر. و يمكن تمييز المواقف التالية من خلال قراءة تلك المذكرات كما يلي: الموقف الأول ويتمثل في الأحزاب التي تريد أن تدخل تغييرا جوهريا على هيكلة المجلس، بعدما تبين أن هناك شبه إجماع حول ضرورة إبعاد وزير العدل من النيابة على جلالة الملك في رئاسة المجلس الأعلى للقضاء وتتلخص الهيكلة المقترحة من طرف هذه الأحزاب على الشكل التالي: -- احتفاظ جلالة الملك برئاسة المجلس الأعلى للقضاء - تعيين من طرف جلالة الملك، لشخصية خارج القضاة للنيابة عن جلالته في رئاسة ذلك المجلس. والأحزاب التي تقدمت بهذا الإقتراح هي: -الإتحاد الإشتراكي -حزب الإستقلال التجمع الوطني للأحرار جبهة القوى الأصالة والمعاصرة الإتحاد الدستوري جمعيات من المجتمع المدني التي نشرت آراءها في هذا الموضوع الموقف الثاني و يتمثل في : - احتفاظ جلالة الملك برئاسة المجلس الأعلى للقضاء إسناد مهمة النيابة إلى رئيس المجلس الأعلى، وهذه الأحزاب هي: التقدم والإشتراكية . الحركة الشعبية. الموقف الثالث، ويتمثل في هيكلة أخرى وهي: عدم رئاسة جلالة الملك للمجلس الأعلى وإسنادها لرئيس المجلس الأعلى والأحزاب التي قدمت هذا الإقتراح وهي: العدالة والتنمية. حزب الطليعة. غير أنه إذا كانت الأحزاب التي أتيحت لي الإطلاع على مواقفها، قد اختلفت حول النيابة على رئيس المجلس أو حتى حول رئيس المجلس، إلا أنها أجمعت كلها على ضرورة توسيع تركيبة المجلس، وذلك بفتحها في وجه شخصيات غير قضائية ولم تختلف مع كل الأحزاب إلا الودادية الحسنية للقضاة التي ترى أن هذا المجلس يجب أن يكون مكونا فقط من القضاة الممارسين وحدهم. و بهذه المناسبة, فإن كل الفاعلين السياسيين والقضائيين لا يمكنهم إلا أن يرحبوا بسماع رأي قضاتنا الذين أصبحوا اليوم يعبرون بآرائهم حول القضايا الكبرى لبلادنا و هذا مؤشر على التحول و التطور الذي يعرف مجال الحرية لدى قضاتنا , يمكن الإشارة إلى أن القضاة كانوا ملزمين لأخذ إذن خاص من وزير العدل ليشاركوا في ندوة أو يكتبوا مقالا في جريدة. ومن الإنصاف القول كذلك إن هذا الاحتراز له من يدافع عنه ليس من منطلق سياسي، وإنما من منطلق قانوني , إذ حسب رأي هؤلاء, فإنه من الأحسن عدم الزج بالقاضي في أي نقاش سياسي أو مؤسسي أو حتى قانوني، حتى لا يعرف الناس رأيه في قضايا قد تعرض عليه للبت فيه.ا لكن، التحولات التي يعرفها العالم اليوم رفعت أي تبرير للوضع السابق حاليا . فما هي إذن محددات النقاش حول موضوعنا اليوم, وكيف سيرتقى القضاء إلى سلطة . في تقديري إن الحسم في أحسن وأمثل تركيبة للمجلس الأعلى بالنظر للمهمة التي سيكون عليها في الدستور المقبل، أي الارتقاء به كسلطة لا يتأتى إلا بالجواب عن سؤال مركزي وهو: هل هيكلة المجلس الأعلى وتركيبته هي التي ستحدد اختصاصاته كمجسد للقضاء كسلطة، أم أن هذه الاختصاصات هي التي ستحدد تلك الهيكلة وتلك التركيبة. إن النقاش حول تركيبة المجلس إذا ما انحصر في عدد الأشخاص و صفاتهم سيكون نقاشا قاصرا على تملك و استيعاب التحول الذي أسس له الخطاب الملكي عندما استجاب لمطلب الارتقاء بالقضاء كسلطة، خصوصا والكل متفق أن أعضاء المجلس الدائمين كانوا ولازالوا من خيرة قضاتنا تأهيلا و خبرة و يملكون من الصفات التي تؤهلهم لتدبير هذه المؤسسة الى جانب القضاة الممثلين لباقي الجسم القضائي. لكن، النقاش العميق يتجاوز , في المرحلة الأولى , التركيبة ليطرح إشكالية الاختصاصات التي تسند للمجلس الأعلى للقضاء بشقيه: قضاء الحكم و قضاة النيابة العامة، وكذا القضاء الاداراي. في المستقبل القريب , فهل ستنحصر اختصاصات المجلس في شقها الوظيفي : ترقية و انتقالا أم أن المجلس ستسند له اختصاصات تهم السياسية العدلية و السياسة الجنائية. إن المتتبع لما كتب في السنوات الأخيرة سيلاحظ أن هناك أصواتا رفعت تطالب بأن يسند وضع السياسة العدلية - السياسة الجنائية الى اختصاص المجلس الأعلى كعنوان لاستقلال فعلي للقضاء، وإخراجها من حضن المؤسسات التنفيذية ومنها وزير العدل. و هذا يدفعنا إلى التساؤل هل وضع السياسة العدلية والسياسة الجنائية هو من اختصاص السلطة القضائية, أم اختصاص السلطات التنفيذية ؟ وهل الجواب عن هذا التساؤل تكفي فيه المواقف النظرية أو حتى المنطقية, أم أن الجواب عن هذا الإشكال هو في كنهه وعمقه يطرح إشكالية فصل السلط وكيفية توازنها، أي هو جوهر النقاش الدستوري ومحتواه. قبل أن نبدي رأيا بخصوص محاولة تقديم جواب عن الإشكالية المذكورة من الضروري التذكير بما يلي: إنه من غير المنازع فيه أن أي مشرع لأي نص دستوري لا بد له , من أجل من وضع دستور لدولة ديمقراطية حداثية أن يجد لنفسه مدخلا لكيفية توزيع السلط بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية ، ذلك التوزيع الذي يتوقف عليه نجاح أي دستور في ضمان أمرين رئيسيين: هما الاستقرار السياسي وتحريك أنجع لعجلة التنمية الشاملة. فالمدخل الأساسي يكون , إذن , بالانطلاق من تحديد مصدر السلط وآنذاك يمكن العمل على توزيع تلك السلط بشكل يضمن توازنها. ففي الأنظمة الديمقراطية يكون مصدر السلطة هو الشعب وهذه الخلاصة المتقدمة هي التي نجدها مضمنة في الخطاب الملكي ل 9 مارس الذي ورد فيه أن الحكومة التي سيعهد بها تدبير الشأن العام ستكون حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية , فالخطاب الملكي يربط بين الإرادة الشعبية , في تمثل لمبدأ التفويض الذي يقدمه الشعب لمنتخبيه , ذلك التفويض الذي بمقتضياته تصبح للحكومة شرعيتها تؤهلها لإتحاد الإجراءات المفرحة وكذلك المؤلمة لتلك الإرادة الشعبية. غير أن الخطاب الملكي لم يكتف بسن هذه القاعدة الجديدة في الدستور المقبل , والتي لا وجود لها لا في دستور 1960 ولا 1970 ولا 1972 ولا 1992 ولا 1996, وإنما ربطها بقاعدة دستورية أخرى لصيقة ولازمة لكل بناء للدولة العصرية الديمقراطية وهو ضرورة تلازم ممارسة السلطة والمسؤولية بالمراقبة والمحاسبة. إن الخلاصة الأساسية للقاعدتين الواردتين في الخطاب الملكي هي : - إن الإرادة الشعبية هي المقررة في انبثاق الحكومة. - إن ممارسة السلطة مرتبط بالمراقبة والمحاسبة إذا كانت هذه القواعد أصبحت غير منازع فيها و ستشكل احد أعمدة البناء للدستور المقبل ، فإلى أي مدى يمكن إعمال هاتين القاعدتين في بناء القضاء كسلطة.. عندما نريد أن نجمع القضايا الكبرى في كل ما سبق بيانه أعلاه سنجد أنفسنا أمام الإشكال المحوري التالي: فهل السلطة التي ستضع السياسة العدلية والسياسة الجنائية يجب أن تكون سلطة خاضعة للمراقبة والمحاسبة. قبل تقديم جواب عن هذا الإشكال في علاقته مع الوضع في المغرب، من المفيد , إعمالا لما سبق بيانه, أن نطلع كيف تم الجواب على هذا الإشكال - السؤال في الدول الديمقراطية خصوصا منها الأوروبية، التي هي كذلك لازالت إشكالية السلطة المكلفة بوضع السياسة العدلية والجنائية معروضة للنقاش عنده. إن الحديث على مفهوم السياسة العدلية والمناسبة لا يطرح فقط إشكالية تعريفها والذي يمكن الاتفاق عليه أو الاختلاف حول مضمونه وإنما يطرح بالأساس تساؤل حول الجهة المؤهلة لوضعها. وكما هو معلوم لم يسبق في تاريخ المغرب القضائي والسياسي أن أعلن رسميا عن وجود أو حتى الحديث عن السياسة العدلية والجنائية للدولة,فهل هذا يعني أن الدولة المغربية لم تكن لها سياسة عدلية وجنائية. إنه خلافا لما قد يذهب إليه البعض, فإن الدولة المغربية كانت دائما لها سياسة عدلية منذ بداية الاستقلال، ومما يعزز هذا القول هو التعديل الذي أدخل على قواعد المسطرة الجنائية منذ 1953 و 1974 و 2003 . أن السياسة العدلية والجنائية هي ذلك التصور الذي تضعه السلطات التنفيذية لتأطير الحريات الفردية و الجماعية في كل المجالات من أجل خدمة أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية . إن البحث عن جواب عن الإشكال المذكور فرض على الفكر الحقوقي والسياسي الأوروبي أن يمر عبر مدخل لابد منه وهو الفصل في الخلاف العام حول دور النيابة العامة في تدبيرها للسياسة العدلية والجنائية و تأثير التدبير على العملية العدلية والقضائية بالنظر إلى أن الوضع القانوني للنيابة العامة في علاقتها مع السلطات التنفيذية وبالأولوية في علاقتها مع وزير العدل بسبب التسلسل التراتبي القانوني مع هذا الأخير من جهة مقابل صلاحيات لتحريك المتابعات و حفظها وتدخلها في القضايا ذات الطبيعة المدنية الأخرى. بل لاحظنا حتى الدور الذي تلعبه النيابة العامة في هيكلة المحكمة العليا.