لا أحد من المتتبعين للحقل الثقافي والجامعي بالمغرب يستطيع إنكار خصوبة الدرس الفلسفي وذلك عبر تأثيثه الرحب للندوات واللقاءات العلمية التي تنظمها شعبة الفلسفة. إن المسألة لا تتعلق بملء الفراغات ورتق البياضات المشتتة في قاعات الدرس الفلسفي بل إننا نعني استراتيجية فكرية وعلمية تؤول إلى ربط الفضاء الجامعي بأسئلة الراهن العربي والكوني. إن قراءة أولية للمناظرات والندوات الفكرية التي قامت بها، تفصح عن تلك الاستراتيجية. إن دعوة مفكرين كبار لهم أثر بين في الثقافة العربية الإسلامية، بل لقد تم ترسيخ هذا الأثر في حضوره وغيابه أي في الأسئلة التي طرحوها، وفي الموضوعات التي طرقوها وفي جهدهم العلمي الذي وشموه في كتاباتهم وناضلوا من أجل إضاءة العتمات ومساءلة المخبوءات وخلخلة المواضعات ... إلخ كالمفكر عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ومحمد سبيلا وعلي أومليل وعزمي بشارة. الآن تستضيف الشعبة مفكرا تونسيا من الطراز الثقيل، نعني بذلك ذ. هشام جعيط، ماذا يعني ذلك؟ قد نقول للوهلة الأولى إن هذه الدعوة ترتبط- في اعتقادنا- بالناظم الاستراتيجي الذي يؤسس دعوة المفكرين السابقين. إن المسألة هنا تؤول ليس فقط للنقاش العلمي لأعمال هذا المفكر أو ذاك، عبر إضاءة جديدة لأسئلته الفكرية والمنهجية في دراسة موضوعة من الموضوعات التي انشغل بها واشتغل عليها، بل في إعادة مساءلة مشروعنا الحداثي المتعثر، كأن الندوات السابقة التي نظمتها شعبة الفلسفة، تتضمن هواجسنا الراهنة، ليس فقط في علاقتنا بالغرب ولا في علاقاتنا بالحداثة، بل في تحريض الفضاء الجامعي، طلبة وأساتذة وجمهور ومثقفين الانخراط في المشروع الحداثي الذي يرسمه كل مفكر بطريقته الخاصة. إن القراءة الأولية لبعض كتابات هشام جعيط، تعيدنا إلى تلك الاستراتيجية التي تحدثنا عنها، ذلك أن القضايا التي يطرحها هذا المفكر من وجهة نظر المؤرخ المنفتح على الفلسفة والعلوم الإنسانية، هي القضايا التي نحياها ماضيا وحاضرا، إنه يقدم موضوعاته بجرأة نادرة، إن لم أقل صادمة في كثير من الأحيان من قبيل التراث، الحداثة، السلطة، المثقف، الثقافة، الديمقراطية، الدين..إلخ يقول هشام جعيط: «أنا المثقف العروبي، لا أستطيع أن أحب هذه الدولة الوطنية ولا تحثني أية وطنية على تأييدها وأشعر أنني مهان في انتمائي إلى دولة بلا أفق ولا طموح، دولة متسلطة، هذا إن لم نقل استبدادية، لا يوجد فيها علم ولا عقل ولا جمال حياة ولا ثقافة حقيقية. هذه الدولة تقمعني وأنا اختنق في هذا المجتمع الإقليمي المزيف والجاهل وأعيش كمثقف حالة عصاب، ومن الإنساني والمشروع أن أعكس قلقي على مجتمعي، لكن الانتفاضات الشعبية تشهد على أن هذا القلق ليس من صنع المثقف»1. أليس هذا الاعتراف هو ما يشكل الدافع لتفكيك الفكر العربي سواء في بداياته الأولى أو في مرحلته النهضوية والراهنة، أليس هذا التفكير هو بوصلة الجرأة التي يتميز بها أليس هذا طريق لتفكيك الآليات التي تؤسس وعي المثقف، ليس فقط في علاقته بعالمه الخاص، بل في قلب صورة الآخر التي تواضعنا على ربطها بالغرب الأوربي، عبر إضافة الثقافة الصينية باعتبارها الآخر، إنها ثقافة عريقة في القدم، بل إنها كانت أكثر أهمية من الثقافة الإسلامية في عصرها الذهبي، إنها ثقافة تضيء مغالق الأنا، لا عجب إذن أن يكون هذا البوح/ الاعتراف سبيلا لخلخلة الراهن العربي الذي تسوده خطابات تشحذ دغدغة عواطف الجماهير بدون تقديم مشروع مجتمعي. وبالتالي وجب الاستعانة بالسيكولوجيا لتفسير البنى التحتية للتسلط الاستبدادي، كأن هذه الدعوة نوع من سخريته على النظام الاستبدادي العربي. لكن ألا يشكل هذا البوح عزلة المفكر العربي التي تقاس بعزلة المفكرين السابقين، وإن كانت أهمية المثقف/المفكر العربي هي تعرية السلط، وخلخلة البداهات وتفكيك الصور، وهذا لا يتم إلا بنقد مزدوج توفق فيه مفكرنا بشكل كبير، فهو من جهة قام بتفكيك الاستشراق من حيث كونه معرفة غربية للعرب وللإسلام، مثلما وجه نقده للتراث العربي، وليس فقط من حيث الآليات التي تتحكم فيه والسلط الثاويه خلفه، بل في المخاطرة الفكرية التي ركبها في قراءة النص المؤسس للتراث العربي، لا من وجهة نظر فلسفي، بل من وجهة نظر المؤرخ الذي يشتغل على الأرشيف والذاكرة مثلما يشتغل على الوثيقة والأثر. نعني بذلك مشروعه النادر حول القرآن والنبي. يكتسي هذا المشروع النقدي أفقا لمساءلة المقدس، ليس من حيث الرغبة في تقويضه بل في جعل هذا المقدس سؤالا راهنيا يخلخل الخطابات التي تؤسس عليه مشروعها الإيديولوجيا، مثلما لا يقدم هذه المساءلة جسرا لإيديولوجيا مفترضة، إنه يضعه موضع بحث علمي ومعرفي، مؤسس على مرجعيات علمية معاصرة كالأنتروبولوجية وسوسيولوجيا الأديان والفلسفة...إلخ، وهو بهذا يدخلنا إلى فضاءات جديدة تقوم على زعزعة تصوراتنا المدرسية ومقروئنا الرسمي والكليشيهات التي تنبت كما الفطريات في مجالنا العمومي. وبالجملة فهو مشروع نقدي يستنطق بموجبه المرويات والسير كما يستنطق القرآن. إنه يستكشف لنا التاريخ والجغرافيا معا، المكتوب والطقوس...إلخ كأن مقصدية المفكر تنم عن التنقيب في الأرشيف عبر نفض الغبار عنه. إنه بحث جينيالوجي يبحث في الغبار الذي يسكن هذا الأرشيف المتسع والمترابط كطبقات من الكتابات الرسمية. صحيح أننا - هنا- لسنا في قراءة هذين الكتابين أو قراءة أعمال هذا المفكر بقدر ما أننا نريد إشاعة خبر استضافة شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية- ابن مسيك الدارالبيضاء لهذا المفكر، ولأن الأمر كذلك فالحديث عنه يفترض مقام الندوة، مثلما يفترض الإشارات المتقدة والتي تطلب من القراء والمثقفين مناقشتها عبر تمثل عميق لآليات اشتغاله. لقد قلنا سابقا أن المفكر التونسي هشام جعيط من المفكرين الكبار في العالم العربي، أي مفكر من العيار الثقيل، وهذا ما يمثله مشروعه التفكيكي الرصين والمدهش، ليس فقط في القضايا التي طرقها في كتابه «في السيرة النبوية....» بجزأيه وخصوصا حول الوحي والنبي والإعجاز والطقوس الدينية من الزواج والحج والأضحية ونظام القرابة واللغة... إلخ. بل في القلب الذي يمارسه على المفكرين العرب (المؤرخين منهم) وقرائه، أي في الحوار الذي يقيمه بين مستجدات الفلسفة والعلوم الإنسانية والنص المقدس دون إغفال مفكرين ومستشرقين يستدعيهم لا لقتلهم بل في التحاور معهم حوارا نقديا يضيف للمعنى شساعة وخصوبة وثراء إنه قلب معرفة القارئ الرسمي، القارئ الذي تعود على قراءة النص الديني كنص مقدس تتحكم فيه تأويلات رسمية دقيقة. إن هشام جعيط هنا لا يبحث في القضايا التي اشتغل عليها المؤرخون سابقا من رواة السير إلى ...... بل في البحث عما لم يطرحوه، أو ما تم نسيانه، أو بعبارة أخرى في ذلك الذي لم يفكر فيه. وهذا لا يستقيم إلا بصرامة العالم وبتمثله العميق للمناهج الجديدة في العلوم الإنسانية مثل تمثله العميق للتراث العربي. لكن ما الذي يفيدنا به هشام جعيط من هذا الكتاب بجزأيه؟ خصوصا وأنه من بين المفكرين القلائل في العالم العربي الذين يصرحون- بدون نفاق- بركوب قطار التاريخ الكوني والمدافعين عن الحداثة الكونية، أي «ليس هناك حداثة غربية وحداثة إسلامية وأخرى صينية وأخرى هندية أو إفريقية، فهي واحدة في جميع أبعادها، أن يجري الكلام على الخصوصيات لدحض قيم الحداثة فهذا نفاق كبير وتضليل عظيم»2. واضح من هذا القول شجاعة هذا المفكر، الذي لا يقامر بأوراق متعددة بل لا يجيد سوى هذه الصراحة العلمية التي لا نستطيع سوى قبولها، مثلما نقبل خطاب أحد عمالقة الفكر العربي المعاصر عبد الله العروي. لكن أليس العودة إلى التراث عبر الدعوة إلى القطع معه تثير الاندهاش والمساءلة؟ ألم تكن هي نفس الدعوة لعبد الله العروي؟ لنفترض ذلك ولنفترض- بقليل من المكر- أن تلك العودة إلى التراث هي نوع من تمثله وإعادته إلى الأرشيف الموضوعي في المكتبات والمتاحف دون البحث عن وهم يفيد العودة إليه عبر استثمار المضيئة والمنيرة فيه أو لذلك الوهم المفبرك والمرفق بالشعار حد العصاب والهلوسة، أي فيما يفيد العودة إلى التراث كمنقذ من الضلال، أو محاولة البحث في ما يستقيم مع وضعنا الجديد والبحث عن آليات منطقية تبرر هذا، عبر إيجاد تطابق بين هذا وذاك، بين أوجيست كونط وابن خلدون أو بين الشورى والديمقراطية وما إلى ذلك، إن دعوة مفكرنا لا تتماشى مع الأوهام بل لا تستقيم إلا بتحريض قارئة إلى المساءلة عبر التحرر من المواضعات والبداهات. لا عجب إذن أن يكون لحضور هذا المفكر في فضاء كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك له دلالات وإشارات متعددة، ليس من قبيل مداخلات الأساتذة الباحثين فحسب بل هذا هو الأساسي- في نظرنا- في إشاعة أعمال هذه الندوة عبر نشرها في كتاب وهذا ما دأبت عليه شعبة الفلسفة. هوامش: 1 هشام جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية ص: 125. 2 المرجع السابق، ص: 31.