ينبغي أن تتأسس المدينة على الفلسفة ضرورة تصفية الحساب مع رواسب اللاعقلانية في نظمت النقابة الوطنية للتعليم العالي، بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، ندوة وطنية في موضوع «التجربة الفكرية لمحمد عابد الجابري وآفاق الدرس الفلسفي»، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية أكدال بالرباط، ففي افتتاح الندوة، أشار الكاتب العام للنقابة محمد درويش، إلى أن تنظيم هذا اللقاء، يعود إلى اعتبارين أساسيين، أولهما أنه بمثابة ذكرى وتكريم رجل بصم العالم العربي بفكره وآرائه وتواضعه، وكذا إذكاء لثقافة الاعتراف بعطاءات الآخر حيا ومفارقا لنا. أما الاعتبار الثاني، فهو خلق فرصة لاجتماع ثلة من أساتذة الفكر والفلسفة والإبستيمولوجيا، حول موضوع آفاق الدرس الفلسفي، مع التذكير بذلك الخطأ الذي ارتكب في حق الفكر والمعرفة خلال سنوات الثمانينات من القرن الماضي، حين تقرر إغلاق شعب الفلسفة بمؤسساتنا التعليمية، خوفا من خطر الانفتاح. وفي حديثه عن المحتفى به، أشار محمد درويش إلى أن محمد عابد الجابري رجل زعزع الثابت الفكري وثبت المتزعزع العقلاني، وراهن على العقل باعتباره الآلة المنتجة للنظريات، وربح الرهان مرات عديدة وخسرها مرات أخرى، ومن ثمة يظل فكره مادة دسمه للبحث والتطوير. وخلص إلى القول إن هذا اللقاء لا يعد حفلا تأبينيا للمرحوم، بل احتفاء بمفكر كبير، صقل مواهب العقل لأجيال برمتها. وذكر رئيس جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط حميد بوطالب، بدوره أن المفكر الراحل الجابري، يعد صرحا شامخا، معرفته غير محصورة في جزء معين من فصول المعرفة، غير أن ما يثير العلمي والفكري في تجربته، هو الارتباط بين الممارسة السياسية والتفكير، علما بأن هناك مفكرين حاولوا اقتحام عالم السياسة، لكنهم فشلوا، والعكس أيضا صحيح. وفي هذا الإطار أوضح بوطالب، أن السبب في فشل المفكرين في السياسة، يرجع إلى كون الحقلين معا لهما طقوس وعادات خاصة، فالسياسة تتطلب الحنكة والمراوغة، في حين أن الفكر عادة ما يأتي بأفكار أخلاقية. واستنتج بوطالب في السياق نفسه، أن السياسة لا تزال لم تخلق بعد، فلو تم ذلك بالفعل، لنجح المفكرون حتما في السياسة. وأشار عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط عبدالرحيم بنحادة، إلى أنه في إطار إعادة الاعتبار إلى المجال والإنسان، حرصت العمادة على إطلاق أسماء رموز الثقافة المغربية، على عدد من قاعات الكلية، وفي هذا الإطار، تمت دعوة الحضور إلى تدشين قاعة محمد عابد الجابري، التي كان يطلق عليها في السابق قاعة الأساتذة التابعة لنفس الكلية. وفي الجلسة الأولى، من هذه الندوة، تناول كمال عبداللطيف، دور وإسهام محمد عابد الجابري في ترسيخ درس الفلسفة في المدرسة والجامعة المغربية، حيث ذكر أن المرحوم الجابري، قام بتدريس الفلسفة لما يربو على أربعين سنة، وأن مساهماته في هذا المجال، مضبوطة، وأنه استمر في تقديم منجزات وظف من خلالها العقلانية داخل الثقافة المغربية. وأكد المتدخل على أن مساره الفكري صنعته هواجسه السياسية، وأنه خاض معارك عديدة، لأجل أن يكون للفلسفة موقع مشرف وراسخ في المدرسة المغربية. واستحضر المتدخل كذلك، مدى تشبع الجابري بالبعد التاريخي والعقلاني، وكيف أنه انتقل من الاهتمامات الفلسفية العامة إلى التراث، واستطاع أن يحد من سطوة التقليد، لاستيعاب مكاسب الفلسفة المعاصرة. وختم بذكر مجموعة من الخصال التي تميز الجابري، منها أنه كانت له قدرة هائلة على الاستماع إلى الآخرين، مدركا أن معارك مجتمعنا ليست سهلة، بل تحتاج إلى صبر طويل، كما أنه كان متزنا في اجتهاداته. وتطرق محمد المصباحي إلى موضوع العقل عند الجابري، استهله بالإشارة إلى أن المفكر المرحوم، كانت له قدرة خصبة على تقديم أطروحات جديدة، وأنه لم يظل حبيس توجهات منهجية، وأقدم على إخراج مشروعه من القوة إلى الفعل، إلى حد أنه ساهم في تغيير صورة الدراسات العربية. وأكد على أنه ابتكر أطروحات جريئة، ولم يكتف بتبني رؤية منهجية ما، جاعلا العقل العربي بؤرة أبحاثه المتعددة، لإعادة بنائه في مواجهة تحديات هذا الزمن الصعب. وتوقف عند نوعين من التحديات التي رفعها الجابري، أولاهما تبني مفهوم العقل العربي، برغم إثارة إشكالات معرفية وإيديولوجية.أما ثانيهما فهو النقد الذاتي،أي إصلاح الآلة العقلية، وما يتطلبه ذلك من فعل سياسي، لتغيير الواقع العربي المتأزم في اتجاه العقلانية العربية. وذكر المتدخل في السياق ذاته، أن مكونات بنية العقل العربي، هي عبارة عن ثلاث أنظمة: البياني والعرفاني والبرهاني، مشيرا إلى أن الجابري أضاف إلى هذه الأنظمة أو العقول، عقلا آخر، ألا وهو عقل البنية الأم، مهتديا إلى أن العقل الأمثل للعرب، هو العقل البياني، على اعتبار أنه يمثل العقل العربي الأصيل، في حين أن العقلين العرفاني والبرهاني، آتيان من الخارج. ويضيف المصباحي أن من خصائص العقل البياني الانفصال، قياس الغائب على الشاهد، التحوير أو خرق الضرورة الحتمية. مؤكدا بأن القاسم المشترك بين هذه الخصائص، هو غياب العلاقة السببية بين حوادث الطبيعة، ومن ثمة فإن العقل البياني العربي، هو لا عقلاني بطبيعته. وبالتالي، فإن التساؤل المطروح، بهذا الصدد، هو كيف يمكن تحقيق العقلانية بأداة غير عقلانية؟ وأشار المتدخل إلى أن الجابري، اقترح، لحل هذه الإشكالية، تطهيرا منهجيا للعقل، أي تصفية الحساب مع رواسب اللاعقلانية في بنية العقل العربي، وتفريغه من شحنته العاطفية، وبعث الحياة في مفاهيم قديمة لتأسيس عصر تدوين جديد، قائم على أساس الاتصال والانفصال، دون القطع مع العقل التراثي. وخلص محمد المصباحي إلى أن المشروع الفكري للجابري يتغيى إصلاح السياسة عبر إصلاح العقل العربي، والعودة إلى المدينة والدولة، لممارسة الصراع، في أفق خلق إنسان جديد يؤمن بحقه في الحياة والديمقراطية. وتناول محمد أيت حمو في مداخلته، موضوع الإسلام والحداثة لدى محمد عابد الجابري، مستهلا حديثه بالقول إن المفكر الراحل توصل إلى أن الحداثة لا تتحقق بالتبعية، وأنه ليس هناك علاقة سببية بين التراث والتقليد. كما أشار إلى أن العلمانية -حسب الجابري- قضية مفتعلة، بالنظر إلى غياب الكنيسة في الإسلام، فهذا الدين ليس كنائسيا ولا رهبانيا، وبالتالي فإن رفع خطاب العلمانية، يظل غير ذي جدوى. ومن ثم فإن استيراد العلمانية الغربية، ليس هو الحل للخروج من التخلف. وانتهى المتدخل إلى القول إن الجابري دافع عن الحداثة والعقلانية، وأجاب عن أسئلة اليوم بشجاعة، فاتحا بذلك آفاقا رحبة أمام الإنسان، لقد انتصر للعقل والحرية والتسامح وللإنسان الفاعل في التاريخ. وتحدث إبراهيم أزرقان عن الجابري، من منطلق أنه فيلسوف المدينة، حيث اعتبر أنه من أوائل من فرضوا ترسيخ فكرة أن المدينة ينبغي أن تتأسس على الفلسفة، بالنظر إلى أن الفيلسوف ينطلق من التجربة الشخصية، وأن العلاقة بين الحرية والمدينة، ينبغي أن تتأسس على العقل، حيث لا يمكن الحفاظ على الحرية، بدون أن تكون العلاقة بين الأفراد مبنية على هذا العنصر، الذي هو العقل، كما أن تأسيس المدينة، لا يكون نهائيا، ومن هنا أهمية التجربة الفردية أو الشخصية في هذا التأسيس. وذكر المتدخل أن انشغالات الجابري الفكرية، كانت تصب في العلاقة الوطيدة بين حاجة المدينة إلى الفلسفة، باعتبارها الإطار الأنسب لتنظيم العلاقات الإنسانية. وأكد عبد السلام بنعبد العالي في مداخلته التي خصها للحديث في «سياسة التراث»، أن الجابري يعد أكثر المفكرين مثارا للجدل، بالنظر إلى أن هناك من رأى في أعماله نفحات إيديولوجية، بعيدا عن الفلسفة. وأشار المتدخل إلى أن الجابري أعاد النظر في التراث لتصنيف حقول المعرفة داخل الثقافة العربية. وأنه لم يهتم بالتوازي بين المعقول والعلوم العقلية، وبين المنقول والعلوم النقلية، بل كان ينطلق من قناعة أن المعقول يكمن في العلوم العقلية والنقلية معا. واعتبر أن هذا التصنيف، يكشف عن وجود لا معقول في العلوم العقلية. ليخلص بذلك إلى أن الجابري أعاد النظر في الفلسفة الثاوية في التصنيفات المتوارثة عن العلوم، باعتبارها تنطوي على ثورة معرفية. ومن فضائل فكر الجابري أنه خلص النص التراثي من أسره، جاعلا إياه في مستوانا، وجها لوجه معا، بالنظر إلى أن أنه ظل محجوبا وفي موضع لبس وتشكك، وحكرا على فئة تمتلك حق التنقيب. وانصبت مداخلة محمد الدكالي على مقاربة الدرس الفلسفي، مصرحا منذ البداية بأنه لا يهم إقحام فكرة الموت الشخصي عند الحديث عن أي مفكر، وعيا بأن المفكرين يجدون خلودهم في تلقي القراء لفكرهم. مذكرا بهذا الصدد أن الجابري سيحظى باستقبال طويل الأمد. وتحدث المتدخل عن الجابري باعتباره أستاذ مادة الفلسفة، وكيف أنه استطاع أن يلقن للطلبة أن قيمة الفلسفة تكمن بالضرورة في لا يقينيتها، دون أن يعني ذلك أنه مشكوك في قيمتها، وبالتالي فإن التعامل معها يتطلب نوعا من البطء. فعند التفكير عن طريق الفلسفة، نرى الأشياء العادية في حياتنا اليومية بمنظور آخر، فهي لا تعطي أجوبة، لكنها على الأقل توحي بإمكانية تحرر الفكر من طغيان العادة. الدرس الفلسفي - يضيف المتدخل- يحدث زلزالا في ذاتية الشخص المتلقي، يزلزل يقينياته، وهذا يبرز من خلال ثلاثة أمور: الإعلام بالواقع الممكن، إخفاء الدوغمائية المتعجرفة لمن لم يتعاطوا للفلسفة، الحفاظ على الإحساس بالإعجاب. واختتم المتدخل بالقول إن أعمال الجابري منذ بدايات تدريسه، كانت تحدث دائما هذا الوقع، أي النظر إلى أمور معتادة تحت ضوء يوم جديد. وتحدث عز العرب الحكيم بناني عن مفهوم التراث بين بناء المستقبل وحفظ الذاكرة في أعمال الجابري، مشيرا إلى أن المشروع الفكري للجابري قام على تصور نضالي، وأنه كان حريصا على مقاربة الماضي لإعادة بنائه لأجل المستقبل. وأوضح المتدخل كذلك أن الجابري ركز على العقل البياني العربي، لتجديده وربط المستقبل بأفضل صورة لنا عن الماضي، وتحرير الإنسان من العقبات التي تعترضه. وحملت مداخلة محمد قشيقش عنوان: منزلة كتاب التنبيه على سبيل السعادة في المتن الفلسفي المنطقي للفارابي، موضحا كيف قارب الجابري هذا النص، للوصول إلى أنه ليس نصا للمنطق، بل نص أخلاقي، وبالتالي الخلوص إلى أن أساس السعادة هو الفضيلة الإنسانية، وأن الغاية من الأخلاق والعلم والمنطق، هو تحصيل السعادة.