في ندوة علمية في موضوع إسهام مادة التربية الإسلامية في تنمية كفايات وقدرات المتعلمين وتعزيز قيم الانتماء الحضاري والديني لديهم، كان النقاش ينصب في الجوهر من أجل الوصول إلى رؤية حديثة ومتجددة لدور التربية الإسلامية في منظومتنا التعليمية، وفي ما بدا ساعتها خروجا عن السياق من طرف مسير الجلسة، انخرط شاب نظن أنه في العشرينيات من عمره في الحديث بصوت مرتفع ونبرة حادة عن الدور غير السليم والمتواطئ حسب رأيه الذي لعبته شعبة الدراسات الإسلامية في محاربة الحداثة، والفكر المتنور منذ تأسيسها، وإقصاء شعبة الفلسفة، فهي المسؤولة عن هذا الإقصاء، وأن المخزن، في ظرف معين، أرادها حربا شعواء على الفكر الحداثي (حاليا الماركسي ساعتها)، واليوم يجني المغرب ثمار هذه السياسة، فالفكر المتطرف في كل مكان وحضور التدين أصبح أمرا لافتا، وهذا كله يحول دون انطلاق المشروع الديمقراطي الحداثي في المغرب، ويقف حائلا دون فصل الدين عن الدولة، وانخرط الشاب في كلمة مطولة كان يتخللها بين الفينة والأخرى نقر على المكروفون من طرف مسير الجلسة، طالبا احترام الوقت والاختصار، وبعد لحظات انفجر صارخا في وجه مسير الجلسة: ( ... إن هذه المقاطعة استفزاز وقمع لحرية التعبير وحرية الرأي ...)، مبرزا أن من حقه أن يقول ما يشاء في تجمع علمي وفي حرم جامعي. لا يمكنني إلا أن أنخرط في الدفاع عن حق المتدخل في أن يقول ما يشاء، غير أنني لا أتفق معه في أن يقوله كيف ما يشاء، ولم تكن هذه المرة الأولى التي أستمع فيها من طرف شباب ولدوا في فترة ما بعد تأسيس شعبة الدراسات الإسلامية، وما عايشوا فترة ميلادها ولا عرفوا الأسباب العلمية والقراءات السياسية التي أدت ساعتها إلى إيقاف التكوين في شعبة الفلسفة ببعض الكليات المغربية مع بقائها في فاس والرباط، غير أن النبرة الحادة للتدخلات، والربط غير المبرر علميا بين إيقاف التكوين بهذه الشعبة وتأسيس شعبة الدراسات الإسلامية، وحصر الحداثة في الدرس الفلسفي، وإلصاق الانغلاق بالدراسات الإسلامية، كل ذلك بتعميم وإطلاق، هو فكر شمولي يناقض حتى التفكير الفلسفي نفسه الذي يربي في المتعلمين القدرة على تدبير الاختلاف، واحترام الرأي الآخر وتجنب أحكام القيمة المتأثرة بالانفعال والعاطفة، وينمي قدرات وكفايات التواصل، لقيامه على عنصر السؤال والبحث عن الأجوبة المتعددة، مما تكون معه مساحة الحوار أوسع وأرحب، ويستطيع الذكاء الفلسفي آنذاك استيعاب كل الآراء على اختلاف توجهاتها، ولكن هذه الفسحة تضيق حين يكون المتكلم مسكونا بهواجس الإديولوجيا عوض التفكير الفلسفي الجاد، فتجده حاد الطبع منفعل المزاج لا يقبل الخلاف ولا يحبذه، ويرى أن الحداثة مركبة حجزت مقاعدها بالكامل للفلاسفة، في حين نجد المتمكنين من روح التفكير الفلسفي ومقاصده ودوره كوسيلة للارتقاء بالمعرفة، أكثر هدوءا حين يستمعون إلى الفكر المخالف، وأقدر على قبول الرأي الآخر، وأكثر انفتاحا على الثقافات ولو ووجه بفكر شمولي أو شوفيني، إنه يمتح من فكرة سيزيف والصخرة وإنه بذلك يعيش في محراب المعرفة. بهذه الروح الثانية عايشنا نحن الرعيل الأول لشعبة الدراسات الإسلامية لحظات التأسيس في مستهل الثمانينيات، وكان المبرر العلمي المركزي ساعتها لإنشاء شعبة الدراسات الإسلامية تدريس العلوم الاجتماعية والاقتصادية إلى جانب الفكر الإسلامي والعلوم الشرعية من أجل نظرة تكاملية بين العلوم، حيث حملت لائحة المواد الدراسية المقررة في الشعبة مواد علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والاقتصاد الإسلامي والاستشراق والحضارة الإسلامية واللغات الأجنبية والشرقية، وقد لقيت الشعبة ترحيبا وإقبالا جيدين من طرف الطلبة، وانخراطا كبيرا من طرف أساتذة مختلف التخصصات في التأطير داخل الشعبة الفتية، وعلى رأسهم أساتذة شعبة اللغة العربية والتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والحقوق والاقتصاد، في تعاون تام مع زملائهم من أساتذة كلية الشريعة. وكان من أبرز الأساتذة الذين استمتعنا بمحاضراتهم ودروسهم، الفلاسفة المفكرون: طه عبد الرحمن، وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، و سعيد بن سعيد العلوي، وعبد المجيد الصغير، والاقتصادي عبد الحميد عواد، والمرحومين رشدي فكار والمهدي بنعبود، وغيرهم من فطاحل الباحثين في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والقانون والاقتصاد، وكنا نجد متعة بالغة حين نجد لحظة فراغ لنحضر دروس هؤلاء جميعا في شعبة الفلسفة نفسها، وما كان أمثال هؤلاء الفطاحل لينخرطوا في مؤامرة القضاء على الفكر العقلاني المتنور كما يزعم بعض متقاعدي الماركسية في وقتنا لو أنهم أحسوا للحظة واحدة أن شعبة الدراسات الإسلامية أسست على أنقاض شعبة الفلسفة، بل كانوا بحضورهم للتأطير بالشعبة يرونها عامل إغناء للفكر والمعرفة في الجامعة المغربية، وبذلك يمكننا أن نقول إن كل هؤلاء هم من مؤسسي شعبة الدراسات الإسلامية، وإنها قامت بشعبة الفلسفة ولم تقم على أنقاضها، وما زلنا نحتفظ لهؤلاء الرواد بكامل الود والتقدير، فمنهم عرفنا كيفية تدبير الاختلاف واحترام الرأي الآخر، ومناقشة الحجة بمثلها والدليل بمقابله، بل ما زلت أذكر ساعتها أن مدارس فكرية كانت تتشكل في تلك اللحظات بين صفوف الطلبة، تجد تجلياتها وآثارها اليوم في تفاعلات المشهد الفكري والثقافي المغربي. وشعبة الدراسات الإسلامية، وهي تستعد للاحتفال باليوبيل الفضي بعد مرور ربع قرن على تأسيسها، أنتجت مفكرين كبارا بصموا بفكرهم الحياة السياسية والاجتماعية بالمغرب والمشرق، وتربطهم بزملائهم في مختلف الشعب وشائج من المودة العلمية والتقدير المتبادل، بل وجسور علمية امتدت على هذه الرقعة الواسعة من الزمان والمكان داخل الجامعة وخارجها في المحيط، ومن التجارب الناجحة في ذلك تأسيس جمعية ملتقى العلوم والمجتمع، التي أسسها مؤسس شعبة الدراسات الإسلامية الدكتور محمد بلبشير الحسني أطال الله في عمره، وهو الرجل المسكون بهاجس تكامل الدراسات الإسلامية مع سائر حقول المعرفة، وما زال حفظه الله يجاهد في هذا الاتجاه جهادا كبيرا. في هذا الجو العلمي الرفيع، الذي تميزه القدرة على تدبير الاختلاف العلمي، كنا نخرج من حصص الدراسة لنجد ملصقات للاتحاد الوطني لطلبة المغرب تندد بإغلاق شعبة الفلسفة في بعض الكليات المغربية، فننخرط بتلقائية وعفوية في وقفة احتجاجية أو مسيرة تجوب الحرم الجامعي ضد هذا القرار الجائر، ونحن بذلك مقتنعون بضرورة الانخراط في حماية الفكر والمعرفة، وكنا ساعتها نميز بين الإديولوجيا الماركسية، والفلسفة كمجال للتكوين والبحث. كان طبيعيا أن ننخرط في الاحتجاج لأننا كنا نعتقد أن الفكر الإسلامي مدرسة غنية من مدارس الفلسفة، ولا يقع خارجها، لأن صورة ابن رشد الطبيب والفيلسوف والفقيه كانت حاضرة في أذهاننا بقوة، وصورة الغزالي الذي قرأنا كتابه المنقد من الضلال للمرة العاشرة قراءة المتمتع بتقلب المسيرة الفكرية للرجل وهو يسعى إلى أن يجمع بين الحكمة والفلسفة، وكنا نقرأ أن الإمام المازري التونسي كان يستفتى في الطب كما كان يستفتى في الفقه، ونحن الذين كدنا نحفظ كتاب نحن والتراث لعابد لجابري في أقسام الباكلوريا، واستمتعنا بدراسة نصوص المناظرات بين الفلاسفة والفقهاء في مجالس العلم بالأندلس، بل ومجادلات المسلمين والنصارى واليهود في جو علمي رفيع بقرطبة وغرناطة، كنا انطلاقا من كل ذلك ننظر إلى التكوين في الفلسفة على أنه من دعامات بناء الفكر المنهجي والنقدي المتكامل كليا مع علم أصول الفقه، فاكتسبنا من كل ذلك أساليب بناء المعرفة وأدواتها، نجني بحمد الله من ثمارها اليوم، وننقله إلى طلبتنا. هكذا علمنا أساتذتنا من شعبة الفلسفة وأساتذتنا من شعبة الدراسات الإسلامية، غير أن هذا الوهج العلمي الرفيع تخنقه الإديولوجيا حين تحتمي بالفلسفة، فيمتح صغار الفكر من قاموس يشتمل على مفاهيم ثنائية متقابلة ومقلقة تؤثث خطابهم، كالمخزن والحداثة، والفكر المتنور والانغلاق، والظلامية والانفتاح، ثنائية تقاطبية لا تجد لها مساحة في الفكر الفلسفي ولا في الدراسات الإسلامية، بل لا تمت إلى التفكير العلمي بصلة، وهكذا وضدا على كل ما سبق نقرأ في الصحافة المكتوبة كلاما ضد التاريخ يقول (لقد كان الهدف من خلق هذه الشعبة هو محاربة الفكر العقلاني النقدي المسيطر آنذاك، ومحاولة إيقاف زحف الأفكار التنويرية الاشتراكية، وفتح المجال أمام مد إسلاموي، سرعان ما سيجني مهندسوه نتائجه بعد عقدين من الزمان بعد أن انقلب السحر على الساحر) إنه صراع الهلوسة في مخيلة من يريدها حرب داحس والغبراء بين حقول معرفية يشهد التاريخ بتكاملها وتجانسها، بل والوقوف عند الحجاج العلمي حين اختلاف الرؤى والأفكار فيها. وإنها إساءة للفكر العقلاني النقدي حين يحبس في شرنقة الإديويوجيا ضدا على النقد والعقل الذي يسائل كل شيء، ويرفض التفكير الفلسفي نفسه أن يكون حبيس أي إيديولوجيا. إننا نقول لمثل هؤلاء وهم قلة على كل حال ما هكذا عرفنا علاقة الفكر الإسلامي بالفلسفة على مدى أربعة عشر قرنا، حين كانت الفلسفة فكرا وكان الإسلام فلسفة. د. خالد الصمدي رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية الإسلامية [email protected]