يفاجأ المتتبع للشأن التعليمي المغربي وهو يتابع ما كتب عن البرامج والمناهج كثافة الكتابات التي خصصت لمادة التربية الإسلامية، فقد عرفت هذه المادة دون غيرها مئات من المقالات، وكانت محورا للتتبع والرصد من قبل العديد من التقارير الرسمية والحقوقية والمدنية بل وحتى السياسية، غير أن هذه الانتقادات التي تناولت المادة لم تعرف تركيزا على بعد من أبعادها، وإنما خضعت معالجاتها لمحطات كانت تقف في كل محطة على بعد من أبعاد هذه المادة، يمكن بالتتبع أن نرصد أربع محطات متداخلة تاريخيا، بحيث لا يمكن أن نتحدث عن انتهاء مرحلة وبداية مرحلة جديدة المحطة الأولى: حذف مادة التربية الإسلامية من الشعب العلمية. المحطة الثانية: حذف مادة التربية الإسلامية من التعليم الثانوي التأهيلي والاكتفاء بها في التعليم الإعدادي المحطة الثالثة: وهي محطة تقليص الحصص، في جميع سنوات قطب الآداب والإنسانيات من أربع ساعات إلى ساعتين وفي قطب العلوم من حصتين إلى حصة واحدة. وإلغاء الحصص الاختيارية للحضارة الإسلامية في جميع سنوات التعليم الثانوي التأهيلي في جميع الأقطاب والشعب. المحطة الرابعة: وهي التي تتعلق بالمحتوى والبرامج والمناهج، وهي التي انطلقت بكثافة بعد 16 ماي، ولم يتوقف النقاش حولها إلى اللحظة. التربية الإسلامية بين المحتوى المعرفي والمقاربة الديداكتيكية اتخذ النقاش حول محتوى مادة التربية الإسلامية وبرامجها أشكالا مختلفة، بدءا بالنقاش الفكري والحجاجي والذي يعتمد كتابة مقالات نقدية لمحتويات المادة أو بعض ما ورد في مقرراتها، ومرورا بتنظيم ندوات دراسية تجعل هذا الموضوع محورا لها كما هو الحال في ندوة دولية: كيف ندرس الدين؟ التي نظمتها يومي الجمعة والسبت 5 و6 دجنبر 2003 ندوة دولية حول كيف يدرس الدين كل من مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية ومؤسسة كونراد أدناور الألمانية.، ثم تحول شغل الاشتغال على محتويات التربية الإسلامية إلى تقارير تنجزها بعض المنظمات والجمعيات المعنية بحقوق الإنسان والمواطنة، ويمكن أن نسوق في هذا الاتجاه على الأقل تقريرين رئيسين، ثم فتر النقاش مدة من الزمن بعد أن عرفت مقررات التربية الإسلامية تجديدا كبيرا على مستوى الوحدات والمضمون والمقاربة الديداكتيكية، لكن النقاش والانتقادات لم تتوقف وإن كانت في حجاجها لا تستحضر محتويات المقررات الجديدة وإنما تستحضر بعض ما علق في ذهنها من محتويات المقررات القديمة. ندوة: كيف ندرس الدين؟ تعتبر هذه الندوة من حيث توقيتها- بعد 16 ماي 2003 ومضمونها وطبيعة المشاركين فيها أهم ندوة عقدت في الموضوع، وتلخص أعمالها مجمل الانتقادات والاستهدافات التي توجهت إلى محتوى مادة التربية الإسلامية، إذ عوض أن تناقش الندوة طرق التدريس انصرفت تدخلات كثيرة فيها إلى مناقشة الجدوى من تدريس الدين، وأثارت تخوفات كثيرة من أن يؤدي تدريس الدين إلى الإجهاز على ثقافة حقوق الإنسان وقيم المواطنة، بينما اتجهت بعض التدخلات (محمد العيادي) إلى مناقشة بعض محتويات مادة التربية الإسلامية وصلتها بقيم التسامح والاختلاف وحرية الاعتقاد. لكن الخلاصة التي تم الانتهاء إليها من خلال الندوة أنه سواء تعلق الأمر بإعادة النظر في تدريس الدين في الوطن العربي والإسلامي أو تعلق فقط بإصلاح برامجه ومناهجه لتكون رافعة من روافع ثقافة التعايش والانفتاح، هو النقاش اتجه إلى تحميل محتويات التربية الإسلامية بالشكل الذي كانت عليه مقرراتها جزءا كبيرا من المسؤولية في إنتاج ما أسماه بعض المتدخلين بثقافة الكراهية والحقد والانغلاق والإقصاء، وإن كانت هذه التدخلات تكتفي بإعطاء هذه الأحكام العامة دون أن تجتهد بإثبات ذلك من خلال الإحالة إلى فقرات من المقررات الدراسية لكتاب التربية الإسلامية. تقرير المنظمة المغربية لحقوق الإنسان أنجزت المنظمة المغربية لحقوق الإنسان في دجنبر 2004 تقريرا أول حول مدى إعمال قيم حقوق الإنسان في الكتاب المدرسي، تترصد من خلاله ثلاث قيم حقوقية من خلال المقررات الدراسية ويتعلق الأمر بقيم التسامح والمساواة والكرامة، وانتهت في تقريرها بخصوص مادة التربية الإسلامية إلى أن بأن ثقافة التسامح والتربية عليها مغيبين بشكل ملموس من الكتب المدرسية، بل إنها اعتبرت أن اختيار آيات تركز على العذاب والبطش والنار وجهنم لأطفال في بداية نموهم واستئناسهم بالمعرفة قد تكون له مضاعفات عكسية سيكولوجيا، ويلاحظ التقرير برصده للصور من خلال مقررات الإعدادي أن التمثلات التي تهدف المادة إلى ترسيخها لدى التلاميذ والتلميذات بعيدة كل البعد عن ترسيخ مبدأ المساواة وأن المادة ترسخ مبدأ أفضلية الرجل على المرأة الذي يقوض حسب رأي منجزي التقرير مبدأ المساواة. تقرير وثيقة باستنتاجات وشبكة قراءة كتب مدرسية من زاوية ثقافة حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين وهو تقرير أعدته اللجنة المركزية لحقوق الإنسان والمواطنة، التابعة لقطاع التربية الوطنية، ورابطة التربية على حقوق الإنسان، وهي ـ حسب ما جاء في موقعها على الانترنت ـ منظمة دولية غير حكومية تدعم تعليم حقوق الإنسان، ووزع في ندوة علمية عقدتها الوزارة حول قراءة في الكتب المدرسية الجديدة من منظور حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين يوم 25 مارس ,2006 وقد انتقد هذا التقرير مقرر التربية الإسلامية بشدة ووصفه بعدم احترامه لحقوق الإنسان حوالي 50 مرة في مجموع التقرير الذي يبلغ 30 صفحة، دون احتساب المرات التي حشر فيها التقرير مادة التربية الإسلامية في تعابير عامة مع مواد يعتبر أن في مضامينها خرقا لحقوق الإنسان، وسجل التقرير على مستوى اللباس: احترام المواد الدراسية المشخصة لمبدأ المساواة بين الجنسين، باستثناء مادتي التربية الإسلامية والاجتماعيات بالسلك الإعدادي، حيث هيمنة اللباس التقليدي عند النساء أكثر من الرجال !! بل إن التقرير ذهب أكثر من ذلك حين اعتبر: أن مواد التربية الإسلامية واللغة العربية والاجتماعيات في السلكين المعنيين، هي الأكثر تفضيلا للصيغ الذكورية بينما انفردت مادة اللغة الفرنسية باستخدامها المتكافئ للصيغ اللغوية، ذكورية كانت أم أنثوية وفي ذلك تعزيز لمبدإ المساواة بين الجنسين على المستوى اللغوي، بخلاف المواد سالفة الذكر، والتي كرست التمييز لصالح الذكور وأغرب ما في التقرير أنه وفي النقطة المتعلقة بالحق في التدين وحريته، نالت التربية الإسلامية الحظ الأوفر من الاتهام بخرق هذا الحق، بحيث سجل التقرير أنالمادة تفضل الدين الإسلامي على باقي الأديان !! من الاستهداف إلى التأهيل يسجل المتتبع للنقاش المتداول عن محتويات مادة التربية الإسلامية أنه عرف تطورا ملحوظا على مستويين: - مستوى تدبير ملف المادة: بحيث تم تجاوز أساليب الكولسة وترتيب المشاريع حول المادة في غياب المعنيين المباشرين بالموضوع، فقد كان للجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية وكذا للمفتشين المركزيين والجهويين والإقليميين لهذه المادة دور في إحباط هذه المشاريع التي تعارض التوجهات الرسمية المتمثلة سواء في خطابات الملك التي تدعو إلى إعطاء الأهمية اللازمة لهذه المادة باعتبار الدور الذي تقوم به في تحصين الهوية الإسلامية، أو في ما نص عليه الكتاب الأبيض. - على مستوى منهجية الاستهداف: إذ حول النقاش حول محتويات المادة من مقالات نقدية تركز على الثقافة التي تروجها محتويات المادة وخلفياتها ومن المستفيد منها إلى ندوات علمية ودراسية يشارك فيها خبراء من الداخل والخارج، إلى أن استقر في شكل تقارير تنجزها هيئات حقوقية تشتغل على تتبع ورصد قيم حقوق الإنسان من خلال المقررات الدراسية، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذه المنظمات بعضها مقرب من أحزاب سياسية (الاتحاد الاشتراكي)، وبعضها هيئات اعتمدتها الوزارة بدون أن تحترم عناصر الشفافية في الانتداب والاختيار، وبعضها هيئات دولية غير حكومية تعاونت مع هيئات محلية لإنجاز هذه التقارير. غير أن الملاحظة العامة التي تسجل بهذا الصدد هو أن مجمل هذه التقارير ركز وبشكل خاص على المقررات الدراسية السابقة وحاكم محتويات المادة من خلالها دون أن يتتبع مسار التأهيل الذي مارسه خبراء المادة ومفتشوها ولجان التأليف من أجل النهوض ببرامج هذه المادة وربطها بالمقاربات الديداكتيكية المعاصرة (الكفايات)، وهو ما لم يحصل بشأنه أي رصد أو تتبع، إذ في الغالب ما تصدر أحكام عن المادة بالإحالة على مضامين غير موجودة في محتوياتها وبرامجها، ومن ذلك ما يتردد على لسان بعض المثقفين أمثال أحمد عصيد وصلاح الوديع وغيرهم من أن مادة التربية الإسلامية تدرس التلاميذ وجوب قتل تارك الصلاة، وتشجع في دروسها على إشاعة ثقافة الكراهية والحقد وأنها تنبذ مبدأ المساواة والتسامح، في حين أن المادة قد عرفت تأهيلا كبيرا بعد حملية تحرير الكتاب المدرسي، إذ عرفت تطورا يمكن أن نحدد بعض معالمه حسب الدكتور خالد الصمدي فيما يلي: - الانطلاق من مبدأ التربية على القيم وتنمية والكفايات. - استحضار البعد العملي التطبيقي والسلوكي للمعرفة الإسلامية كنظام يجد تجلياته إلى جانب العقائد العبادات في الإسهام رفقة باقي المواد المكونة للمنهاج التعليمي في تخليق الحياة العامة سواء في الصحة أو البيئة أو التواصل أو الحقوق أو الأسرة أو المعاملات المالية أو في مجال الفن والجمال أو غيرها. وبذلك أصبحت المعرفة الإسلامية وظيفية، فانتقلنا بذلك من تدريس العلوم الإسلامية إلى تدريس التربية الإسلامية. - بناء المفاهيم الإسلامية في أذهان التلاميذ بالتدرج مراعاة لقدراتهم واستعداداتهم النفسية والفكرية وعملا بأحدث النظريات التربوية في بناء المناهج التعليمية. - صياغة محتوى المنهاج بما يتلاءم وتعدد فضاءات التعلم الذي لم يعد محصورا في القسم وإنما اتسع ليشمل قاعة المعلوميات وقاعة الأنشطة الموازية بل وحتى محيط المؤسسة التعليمية - الأخذ بعين الاعتبار تعدد أشكال التعلم الفردي والجماعي والتعلم في مجموعات ولذلك اشتمل المنهاج لأول مرة على حصص للأشغال التطبيقية وأنشطة التقويم والدعم. - فتح المجال لاستثمار أفضل للوسائل التعليمية خاصة الإعلاميات والوسائل السمعية البصرية. على أن المأمول اليوم أن تنجز دراسات وتقارير جديدة منصفة غير خاضعة لأي اعتبار سياسي وغير مرتهنة لأي استحقاق انتخابي تناقش هذه التجربة الجديدة والذي يبدو أنها وبعد انتهاء من تأليف آخر مؤلف (السنة الثانية من الباكلوريا) وخضوعه للتجريب أن المرحلة باتت تفرض تقييما لمحطاتها وإثراء لأهم المكتسبات التي تحققت فيها، وهي الورشة التي ينبغي أن تنطلق أولا من داخل أساتذة المادة وأطرها والممارسين لعملية التدريس. على أن النقاش العمومي الذي انطلق ويمكن أن يستأنف حول مقررات مادة التربية الإسلامية لا ينبغي أن ينظر إليه على أساس أنه يضعف المادة، بل إنه على العكس من ذلك يسهم بشكل كبير في تطويرها وجعلها في مستوى مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.