يقدم بعض كتاب السيناريو في المغرب أنفسهم، بافتخار،بكونهم يكتبون سيناريوهات بتفاصيل تقنية مفصلة لتسهيل مهمة الإخراج حسب رأيهم أو إبهار القارئ المفترض الذي هو في الغالب مخرج أو منتج باستعراض العضلات التقنية، حيث تكون الكتابة بتقطيع تقني متخيل لا يحيل على أي ديكور ولا على أي واقع مادي . أثناء قراءاته المتعددة لسيناريو يقوم المخرج بما يشبه الحفر الأركيولوجي للوصول إلى طبقات أعمق من الحكاية أو ما يوجد بين السطور للوصول إلى البنية المهيكلة لسيناريو،ثم يحدد الخطوط العامة لأسلوب الفيلم بصياغة مجموعة من علاقات جديدة بين الشخصيات والأجواء بمستويات مختلفة ومتعددة وبين جميع العناصر، وفق فكرة التقاطع أو التماثل أو رجع الصدى و الاسترجاع والتكامل...لخلق نوع من التركيز والتكثي، وبالتالي الانسجام. 1 يقدم بعض كتاب السيناريو في المغرب أنفسه، بافتخار،بكونهم يكتبون سيناريوهات بتفاصيل تقنية مفصلة لتسهيل مهمة الإخراج حسب رأيهم أو إبهار القارئ المفترض الذي هو في الغالب مخرج أو منتج باستعراض العضلات التقنية، حيث تكون الكتابة بتقطيع تقني متخيل لا يحيل على أي ديكور ولا على أي واقع مادي . أثناء قراءاته المتعددة لسيناريو يقوم المخرج بما يشبه الحفر الأركيولوجي للوصول إلى طبقات أعمق من الحكاية أو ما يوجد بين السطور للوصول إلى البنية المهيكلة لسيناريو،ثم يحدد الخطوط العامة لأسلوب الفيلم بصياغة مجموعة من علاقات جديدة بين الشخصيات والأجواء بمستويات مختلفة ومتعددة وبين جميع العناصر، وفق فكرة التقاطع أو التماثل أو رجع الصدى و الاسترجاع والتكامل...لخلق نوع من التركيز والتكثي، وبالتالي الانسجام. يقوم المخرج بتقطيع أولي، بعد أن يكون قد قام ببحث مسبق عن أماكن التصوير وتحديدها وقام بزيارات عديدة لها. على أن التقطيع النهائي يحسم فيه أثناء التصوير أو قبله بأيام، أخذا بعين الاعتبار تصميم الديكور والعلاقة التي يقيمها الفضاء الداخلي مع الفضاء الخارجي، إلى غير ذلك من عمق المجال التي يتيحه هذا الديكور نفسه، وإمكانيات الإضاءة واللون. التقطيع التقني النهائي يقرر فيه المخرج أثناء اجتماع كل العناصر المكونة للفيلم أثناء التصوير. عندما لا يأتي التقطيع التقني مندمجا في صيرورة الإنتاج، والبدء الفعلي للعمل على الفيلم، لا يمكن أن ينفد مهما توفرت الإمكانيات والنوايا. في مستوى أخر، السيناريست الذي يكتب بهذه الطريقة يتخلى عن وظيفته ويفترض مسبقا أن المخرج ليس إلا تقني، وأن وضيفته تقتصر فقط على تنفيذ فيلم موجود مسبقا على الورق وليس مؤلفا، والمسئول الأول عن الفيلم تقنيا، جماليا وفكريا. الكتابة بالتفاصيل التقنية كأن يصف الطبيب الدواء لمريض افتراضي لا يعرفه وليست له أية معطيات عنه ودون معرفة بماذا يعاني منه هذا الأخير. ببساطة، قراءة سيناريو بتفاصيل تقنية تعيق عملية القراءة، وتجعلها متقطعة، وغير سلسلة. مثلا: يدخل سعيد الحجرة، لقطة متوسطة. يتوقف، لقطة مقربة. أحمد يذهب ناحية المرأة / ترافلينغ جانبي مرافق إلى الخلف/ قطع / على السرير نرى امرأة عجوز ممدة/ لقطة متوسطة من أعلى3/4. ضد المجال / قطع ... هل يستطيع أحد أن يحافظ على التركيز خلال 120 صفحة، التي تتحول، مع هذه التفاصيل، إلى 240 صفحة أو أكثر؟ أكيد أن ذلك مستحيل. السيناريو ليس استعراضا للقدرات السينمائية ولكنه، من المفروض أن يحكي حكاية ويعبر على قدرة كاتبه على ألحكي وخلق شخصيات متفردة عبر متوالية من المشاهد، وقدرته كذلك على تمثل عوامل مخرج ما وترجمتها أدبيا. السيناريو حينما لا يكون كاتبه المخرج نفسه، لا يكتب كمبادرة فردية، ولكن تحت الطلب حتى وإن كان في إطار مشروع فني محض وبعيدا عن الماديات، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أنه يجب أن يشجع القارئ ويحببه في الفيلم المفترض (الذي هو في الغالب إما مخرج أو منتج)، ويجعله يتخيله ويتبناه كمشروع. قبل السيناريو يجب أن يوجد ملخص قوي ودقيق ثم معالجة ( ما بين 10 و 15 صفحة ) لأنه ربما قد يتفرغ مهني ويتشجع على قراءته عندما يتم توريطه بتدرج. من الطبيعي والبديهي أن يتخيل السيناريست أثناء الكتابة الزوايا التي يَنظر منها إلى مختلف المواقف والتفاصيل التي يمكن التركيز عليها خارج الفعل الدرامي الرئيسي، لكنه من المفروض أن يُتضمن ذلك في طريقة التحرير، من خلال تقطيع الجمل وصياغتها مثلا ، أي أن لا يبتعد عن صياغة أدبية بلغة بسيطة التي تميز كتابة السيناريو عموما. مثلا: حينما نقول « تقترب يد أحمد من الكأس وتأخذه « يمكن أن نفهم منه أنها لقطة مقربة أو «يقف أحمد وينظر إلى النافدة، في أسفل نرى سعاد تنزل من التاكسي و تقطع الشارع و تركض نحو باب العمارة...» نفهم أن اللقطة الأولى مقربة لأحمد اللقطة التي يمكن اعتبارها حقلا، واللقطة الثانية هي ضد الحقل من أعلى وهي لقطة عامة مقربة. الكتابة هنا تقترح تقطيعا تقنيا أوليا دون أن يؤثر ذلك على انسيابية ألحكي، وسلاسة القراءة. من بين الأشياء التي على السيناريست مراعاتها، مسألة تسهيل قراءة السيناريو وجعلها تقرب القارئ من الحكاية والأجواء التي ستطبع الفيلم باقتضاب، خصوصا عندما يتعلق بالتوجه لإحدى اللجان التي ستقرر في التمويل (اللجان التي من المفروض أن تقرأ عدد مهم من السيناريوهات في نفس الآن )، بالشكل الذي يجعل الأشياء واضحة والنوايا جلية، ودون إثقال النص بمعطيات تقنية غير قابلة التنفيذ في كل الحالات(العملية التي لا يقوم بها المخرج نفسه عندما يكتب سيناريو فيلمه بنفسه.) أو بأسلوب فيه الكثير من الإطناب. في المقابل، أن تكتب سيناريو فيلم سينمائي وأنت مخرج، على خلاف ما يعتقد البعض، عملية صعبة ومرهقة، لأنك تجد نفسك، بين الفينة والأخرى، تقاوم المخرج فيك لتركز على الكتابة. فما أن تعترضك مشكلة أثناء الكتابة، حتى تبدأ في البحث عن الحل، وأنت تتخيل موقع الكاميرا، تحركات وأداء الممثلين، الإضاءة... لتجعل المشهد مقبولا بعض الشيء. الدخول في التفاصيل التقنية للإخراج خلال الكتابة قد تجعلك، أولا لا تواجه المشكل الحقيقي المتعلق بصعوبات الكتابة و تهرب إلى الإمام، وثانيا تجعلك ترتبط ببعض الاختيارات الفنية وتسد الطريق أمام إمكانيات أخرى تتيحها لحظة التصوير، وتجعل الكتابة لا تعدو أن تكون إلا تبريرا لهذا الإخراج «الماقبلي» وكأننا أمام تمرين أسلوبي أو تجعل التصوير ليس إلا تنفيذا لأفكار لا تراعي خصوصية الفعل السينمائي الذي ينبني على اللقاء المباشر مع عناصر الواقع . الأفكار الأولية في النهاية هي كليشيهات، واستعادة لما سبق لنا أن شاهدناه أو ما ألفناه، أو ببساطة أفكار نمطية من المفروض أن نستأنس بها في أقصى الحالات، ونعي أنه علينا أن نتخلى عنها في الطريق. يجب أن يبقى التفكير في الإخراج أثناء كتابة السيناريو افتراضيا، وفي مستوى التصور العام لأن الكتابة عندما ستتطور ويتشكل منطقها الداخلي ستفرض أسلوبها واختيارات جمالية، أكيد أنها لم تكن على البال. التصور الإخراجي يتبلور ويتطور عبر مجموعة لحظات أنجاز العمل السينمائي : قراءة السيناريو، زيارة الديكور، لقاء الممثلين... ربما يجب علينا أن نتمهل قليلا أثناء الكتابة، ريثما تولد الشخصيات، وتحيا، وتستقل عن سلطة كاتبها، وأن تصبح عوالمها كائنة، آنذاك تصبح القراءة الإخراجية ممكنة. تصور الإخراج في مرحلة الكتابة، يجب أن يبقى في حدود البحث عن أسلوب الفيلم، وعن تخيل الأجواء العامة، أو في مستوى قد يساعدنا على معرفة درجة قابلية بعض المشاهد للتنفيذ، ولا أن يعيق الانفتاح على الإمكانيات التي يتيحها الاتصال المباشر بالواقع، واقع لحظة التصوير والتحضير له، التي هي لحظة الإبداع السينمائي، لأنها اللحظة الوحيدة التي تجتمع فيها للمخرج كل العناصر التي سيشتغل عليها وبها. العملية الفنية للإخراج تشبه إلى حد كبير العملية الإبداعية في الفن التشكيلي. في غالبية الأحيان، عندما يقف الرسام أمام المساحة البيضاء، هو لا يعرف الشكل النهائي للوحة التي سينجزها، والتي تتشكل بشكل تدريجي أي أن العمل لا يوجد خارج فعل الرسم في حد ذاته. السينما في جزء كبير يجب أن تحافظ نسبيا على نفس هذا المنطق، أن تكون للعلاقة المباشرة مع الواقع، أثناء التصوير، دور محدد بنسبة مهمة في تصور الفيلم وتشكله. توجد كل مرحلة من مراحل انجاز فيلم سينمائي بمنطقها الخاص، وباستقلالية نسبية عن المراحل الأخرى، نسبية في مستوى أنها مكملة لبعضها البعض في خط تصاعدي. إن كتابة السيناريو من المفروض أن تشتغل على القصة، والبناء الدرامي، ورسم الشخصيات والديكورات، بمعنى آخر المادة الحكائية التي ستكون النص الأول والمنطلق الذي ستبنى عليه الرؤية الإخراجية. إن الإشكالات التي قد تعترضنا أثناء الكتابة هي ذات طبيعة درامية وسردية، ولا يمكن حلها بالهروب إلى تخيل سابق الأوان لتفاصيل المرحلة الموالية، إلا في حالة مشروع فيلم يقطع مع الدراما و السرد الروائي، ويكفيه أن يوجد تقديم عام لفكرة الفيلم وبخطة عمل بدل سيناريو مفصل كما هو متعارف عليه. يوجد الإخراج أولا كضوء هارب نحاول القبض عليه، كمجموعة من المقصديات، والأحاسيس نرغب في تجسيدها وفي تقاسمها. تكون الكتابة في البداية ربما أكثر ذهنية، لكنها في نفس الآن مندمجة في وجود مادي محتمل، مندمج في نمط تعبيري سينمائي. بعد كتابة السيناريو تتحول هذه الرغبة إلى مجموعة من الاختيارات والقرارات، وفق رؤية ما، والتي من المفروض أن تكون منسجمة فيما بينها : اختيار السيناريو في حد ذاته أو مرافقة كتابته، اختيار الممثلين، الديكور، اختيار أسلوب ونسيج الصورة و الصوت، اختيار الطاقم التقني، وقبل كل شيء خطة الإنتاج... 2 لا تؤمن بعض السيناريوهات، التي أتيحت لي فرصة قراءتها، بالقدرة التعبيرية والإيحائية للمواقف الدرامية، ولصورة، وباق مكونات اللغة السينمائية في إيصال المعلومات، وخلق الأحاسيس، فيضطر كتابها إلى الاعتماد الكلي على الحوار، لذا تأتي شخصيات سطحية البناء، ومصاغة بمنطق لغوي لا تتجاوز في تعبيرها المنطوق و المرئي المباشر. يجعل هذا النمط من الكتابة الشخصيات تفتقد لدوافع قوية، أو توجد بدافع وحيد فقط، تُعبر عنه شفويا، أو غالبا ما تُحصر في دوافع اجتماعية مادية آنية بسيطة، دون أن يكون لهذا مبرر نفسي أعمق يسمح بوجود لا منطوق أو نوع من الغموض يطالب المتفرج بفك لغزه، ويسمح لها أن تكون أكثر إنسانية، وليست فقط حامل لأحكام المؤلف المباشرة عن واقع ما أو الاحتجاج عليه. توجد بعض الشخصيات الثانوية في هذه السيناريوهات، فقط كتنويع، أو توجد لكي تكون لشخصيات الرئيسية مخاطب يسمح بأن يكون هناك تبادل حوار، لأن المؤلف وجد صعوبة في التعبير عن أشياء بدون استعمال الحوار، أي بتقنية مسرحية حيث يتوجه الممثل وهو متقمصا شخصية ما، إلى الجمهور ليبوح بنواياه ويعلن عنها أو يعلق على الموقف الذي يعيشه بما يعادل من التبئير الداخلي في الرواية. السينما فن الصورة المتحركة والناطقة، لكن المبرر الذي قد يجعلنا نتابع فيلم طويل تتجاوز مدته 70 دقيقة، ليس التقنيات التي يستعملها أو شكله، ولكن الشخصيات التي تبث الحياة فيه، والتي هي المولد الرئيسي لسرد الفيلمي، هي الحامل للأحاسيس والانفعالات وهي إحدى الدعامات الأساسية لهيكلة بنائه، وتموقع لغته السينمائية من المواقف الدرامية أو الوقائع، والكيفية التي نقل بها الكاميرا الأحداث أو تعيد صياغتها بما يتحول إلى رؤية فنية. الكاميرا جهاز آلي لتسجيل الواقع، تنفد بشكل اتوماتيكي، ووفي لما نطلبه منها، عندما نتمكن منها، لكن الشخصيات كإحالة على جسد، وحمولة من المشاعر والأحاسيس تنفلت من قبضتنا، لا تستجيب بشكل أوتوماتيكي لإرادتنا كما تستجيب الكاميرا، وتصبح المسألة أعقد وملتبسة، عندما يتقمصها ممثل، الشيء الذي يتطلب تدابير خاصة في إدارته، لإنجاح هذا التقمص، وضبطه حسب نفسية الممثل وطباعه وتاريخيه الشخصي. يكفي الحضور الجسدي للممثل لكي، ليجعل المواقف أو شخصية ما مقنعة، أو يدفعنا إلى إعادة النظر فيها. تولد في ذهن الكاتب الشخصية ككلمات، وكصور ذهنية، لكنها تحيل بالضرورة على تركيبة نفسية سابقة الوجود، أو يحيل مسارها على نمودج إنساني معين، وبالتالي لن تستجيب بشكل مطلق لإرادة مؤلفها لأن لها منطقها الخاص، وبالتالي تقاوم المسار الذي يفرضه عليها. تنطلق الكتابة من فهم المنطق الخفي لذات الإنسانية ولتطور للواقع، وجوهره لتعيد إنتاجه في قالب يجعل هذا الواقع دالا، والشخصية موضوعا لتماهي المتفرج، الشيء الذي يجعل العرض السينمائي كمدة زمنية ممكننا وموجودا لأنه دون عرض، أي بدون متفرج لا وجود فعلي للفيلم. حتى في الأفلام التي تبدو في ظاهرها تقيم قطيعة مع الواقع، كأفلام الخيال العلمي مثلا، فإن علاقة شخصياتها فيما بينها يحكمه نفس منطق أي عمل واقعي، لأن شخصياتها تحب، تكره، ترغب في الامتلاك المادي أو المعنوي، تحلم و تتصارع لتجعل هذا الحلم ممكنا. وحتى إن اختلف الموضوع الامتلاك، يؤدي الصراع إلى تقدم الأحداث، وتطور الحكاية، ويخلق، في النهاية، معنى ما من المفروض أن يولد مجموعة من الأحاسيس عند المتلقي. 3 ننبهر بفكرة سيناريو ما عندما تستوقفنا أول مرة، نفتخر بها، نفرح بها، نحتفل بقدومها، ثم ننتظر أن يصفق العالم. مع اللحظات الأولى للكتابة تبدأ رحلة التيه والضياع. نحن نعرف بالتجربة أن ثلثي ما نكتبه سينتهي إلى سلة المهملات وليس إلا صدى بعيد، بعيد جدا لما سيكون عليه النص النهائي أو محاول يائسة لنص لن يكتب له الوجود في بعض الحالات. النسخة الأولى من السيناريو والثانية والثالثة نسخ مؤقتة، وتُعبر عن تردد وعدم ثقة في النفس تصل إلى حدود مرضية، نحس عندما نقرأها، أي نقرأ هذا الكم الهائل من رؤوس الأفكار والصور والرسومات، أنه من المستحيل الخروج بشيء يصلح أن لقراءة في أقصى الحالات. عندما تستوقفنا فكرة فيلم جديدة نحسها دعوة لسفر ممتع ومشوق، حيث تبدو لنا الطريق سهلة بدون عقبات ومنعرجات، وأن بلوغ محطة الوصول أي الفيلم ليست إلا مسألة وقت ليس إلا. لا نتأخر في اكتشاف أنها دعوة خادعة ، عندما نجد أنفسنا أمام الصفحة البيضاء، أو أمام شاشة الحاسوب، ومطالبين بأن نحول الفكرة إلى حكاية ثم سيناريو. تفقد الفكرة الكثير من بريقها لتتحول إلى فكرة عادية، لا تستحق أن تكون المنطلق لعمل سينمائي، قد لا نتأخر في الانتقال إلى فكرة أخرى نعتقد أنها الأحسن. بعد فترة، نقتنع مع توالي الأفكار والمحاولات، أن المشكلة ليست في الفكرة. يحدث ما يجعلنا نعود مرغمين لأحدى الأفكار التي تخلينا عنها، فنحاول رغم كل شيء أن نتخطى عقبات البداية، والتخلص من التردد. نبدأ في بناء القصة وخلق وتوليد الشخصيات، ورسمها بشكل تبدو وكأنها كائنات حية، نعمل على خلق جو عام للقصة، وخلال أيام تخرج للوجود، في غفلة منا، نسخة أولى للعمل. حدث يستحق الاحتفال والتصفيق. نفرح لأننا استطعنا خلق الشيء من اللاشيء. مرة أخرى يبدو الفيلم ممكنا وأن الطريق إليه بدأ يقصر. نضع النسخة الأولى جانبا وعندما نعود إليها، بعد فترة راحة قصيرة، نصاب مرة أخرى بخيبة أمل ونوع من الإحباط لأننا بعد قراءة ثانية نكتشف أنها بعيدة كل البعد عن أن تكون نسخة نهائية ونقف أمام حجم التعديلات التي علينا القيام بها، والأشياء التي يجب حذفها رغم ارتباطنا بها، لا يبقى من هذه النسخة إلا القليل. نتصل بصديق ونطلب منه أن يقرأ النسخة الموالية، وأن يبدي ما استطاع من ملاحظات، ونترجاه أن يكون قاسيا ما أمكن. بعد مدة يبدي الصديق بكل ما توصل إليه من ملاحظات وهو يتكلم، نكون نفكر في أشياء أخرى وتبدأ بعض الحلول تظهر ولكي لا يحس الصديق بأن المجهود الذي قام به لا معنى له، نفعل و كأننا ندافع عن ما كتبناه، ولا نخبره أننا عندما أرسلنا إليه النسخة ،وفي مدة التي استغرقها في القراءة، كنا قد أنجزنا نسخة أخرى أي أن ملاحظاته أصبحت بلا معنى. كما لو أن كان يكفي أن نعرف أنه هناك قارئ ما، لتوجد مسافة بيننا وبين ما نكتبه. نعود إلى الكتابة، ولكن هذه المرة بحماس وبنوع من الثقة في النفس، لإيماننا أن النسخة القادمة ستكون أحسن. نكتشف مرة أخرى أننا لا تستطيع أن نتقدم ولو بجملة، بعد محاولات عدة نقتنع أننا استنفدنا إمكانياتنا، المسالة أصبحت تتجاوز الإلهام وما جاور ذالك من الميتافيزيقا، المشروع في هذه اللحظة يكون قد أصبح له منطقه الخاص، الذي نحن مطالبين بأن نجده لنتمكن من التقدم. نتوقف لحظة، ونهرب إلى الحياة اليومية، نحاول عبثا أن ننسى العمل الذي نكتبه، لأنه أصبح يطاردنا في منامنا وصحونا كأنه كابوس مزعج. نعود، مرة أخرى، للكتابة لكن بدون جدوى. نتوقف ونحاول هذه المرة أن نعود إلى نقطة البداية إلى اللحظة التي نشأ فيها المشروع لنجيب على أسئلة من قبيل: لماذا هذا الموضوع بالذات؟ ما هي دوافعنا الشخصية؟ وما الذي يجعلنا مرتبطين به؟ وماذا ننتظر من تحقيقه كفكرة؟ هنا يتأكد لنا أن المسألة تتجاوز قدراتنا الفنية والفكرية، ونحن نبحث عن الأجوبة،نجد أنفسنا في الشارع مع الناس رغم أننا نتوقف عن الكتابة لكننا نحس أن العمل يتطور بشكل ما، ونكون قد تخلصنا من الإحساس بالا جدوى. بعد هذا السفر القصير نعود للكتابة ونكتشف، كما لو أننا في حلم يقظة، أننا نتقدم بسهولة لأن الطريق بدأ يتضح وأننا تعلمنا أن الحل الفني قد يوجد حيث لا نتوقع: في الحياة. لا تتوقف الشخصيات عن التحول ; وتغيير مظهرها، قد تكون الشخصية في البداية امرأة ثم في الطريق تتحول إلى رجل، أو يكون رجلا مسنا فنحوله إلى شاب في مقتبل العمر. نوع من اللعب بقواعد غير ثابتة وغير محدودة وصارمة في نفس الآن. إننا لا نستطيع أن نكتب أي شيء إن لم تكن لدينا القدرة على جعله مقبولا ومنطقيا ومنسجما مع مكونات النص الأخرى. نعيد ترتيب الأوراق، المشاهد، دمج شخصيتين في شخصية واحدة، ونقرر أنه يجب الاكتفاء بالحد الأدنى من الحوار، وأن نعيد النظر في نهاية الفيلم، الشيء الذي سيؤثر حتما على المشاهد التي قبلها، ونقرر أيضا أن نحكي كل السيناريو من وجهة نظر شخصية واحدة، وجعلها حاضرة في كل المشاهد، الشيء الذي يدفعنا أن لا نحتفظ إلا بالقليل مما كتبناه إلى حد الآن، ونجد أنفسنا أمام صعوبة إدماج المعلومات التي تتضمنها المشاهد المحذوفة في الباقي، أي في المشاهد التي احتفظنا بها...نجمع كل هذه النقط ونرتبها لكننا لا نجد الرغبة في الكتابة، نجاهد أنفسنا بدون أمل، إلى أن يحين موعد أخر آجل لتقديم المشروع لإحدى صناديق الدعم والتمويل، آنذاك نكون قد استنفدنا كل المبررات وأحرقنا كل مراكب العودة، ولا يبقى أمامنا إلا المواجهة، إلا الكتابة لا غير. بعد فترة ننتهي من كتابة نسخة جديدة. تكون الفرحة هذه المرة بدرجة أقل لأننا نعرف أنه من الطبيعي أن تكون هناك نسخ أخرى، وأننا بدأنا نعرف الطريق والأدوات و لا يهمنا كم سيستغرق ذلك، لأاننا بدأنا نستمتع بالطريق . عندما نخوض غمار كتابة مشروع، نفقد الثقة في النفس إلى درجة الإحساس بالضياع والشتات، ونصبح معرضين لتجربة تجعلنا تغير نظرتنا للأشياء، وتفقدنا الكثير منة الأوهام والأفكار المسبقة عن ذوات والعالم, نفقد الكثير أثناء الطريق، ونربح الأهم والقليل. الكتابة سفر شيق وجميل لأنه يتيه بك في مناطق نجهلها في ذاتنا ويجعلنا نعيد النظر في منطلقاتنا. الخوض في كتابة نص جديد هو تجربة جديدة تبدأ من حيث بدأنا في المرة الأولى، لا يرحمنا فيها النجاح أو الفشل، نكون أثنائها وحيدين في المكان المناسب، على هامش الأضواء.