«الديمقراطية لا يمكن أن تكون مجرد رقم في صندوق الانتخابات، وإنما هي قيم متكاملة ومنظومة من الحقوق. والدولة المدنية تتحقق بقيم المساواة والعدالة وسيادة الحريات، وأم الحريات هي حرية المعتقد»، ذلك ما اختتم به المفكر أحمد عصيد مداخلته خلال الندوة الوطنية التي نظمها مركز عناية للتنمية الأعمال الاجتماعية بالمغرب، بشراكة مع نقابة المحامين بالمغرب، عشية يوم السبت 28 يناير 2017 بمقر جمعية النخيل بمراكش، وهي الندوة الوطنية السنوية الثالثة التي اختير لها موضوع «الدين والسياسة» بمشاركة مفكرين وأكاديميين: د. مصطفى بوهندي، أستاذ مقارنة الأديان بجامعة الحسن الثاني- الدارالبيضاء، و دة. نعيمة المدني، أستاذة الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش، وذ. أحمد عصيد الباحث والكاتب، وذ. محمد أغناج المحامي والحقوقي، إضافة إلى تسيير فقراتها من قبل المفكر والإعلامي الأستاذ عبد الصمد الكباص. « الدين والسياسة «ن ثنائية شكلت أرضية خصبة تمحورت حول أسئلة متشابكة عبرت عنها مداخلات الأساتذة المشاركين الذين أبرزوا مدى أهمية هذا المجال وارتباطاته بالواقع المعاش. و اعتبر المنظمون أن تقاطعات الندوة تلامس منطق هذه الثنائية، والتي يتجاوز الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، لأن السياسة لا تهم فقط من يمارس السلطة، وإنما أيضا من يقاومها، إنها تنتشر في جغرافية اجتماعية معقدة، تتوزع عبر نقط متفاوتة، توجد في السطح من خلال من يعلنون أنهم يمارسون السياسة ويتعارفون فيما بينهم بصفتهم هذه، مثلما تنتشر في العمق لدى القوى التي تتنكر لكل ما يملأ السطح وترفضه رفضا متوحشا، تظل على الهامش لكن لها قدرة مخيفة على المفاجأة. كما أن الإجماع الكوني يحدد طبيعة الفعل السياسي ومشروعيته عبر المنظومة الديمقراطية التي لا يشكل مبدأ « الاختيار للشعب» سوى عنصر صغير منها، لا يكتمل معناه الديمقراطي إلا بالتفاعل مع المنظومة الحقوقية الكونية، والقيم المؤسسة للإنسية السياسية المتمثلة في الحرية والمساواة والعدالة، وانعدامها يجانب للفعل الغير ديمقراطي. كما أن المجتمعات التي تعمل على بلورة مشروعها التحديثي خارج تجربة التنوير حسمت المقدمات التي مكنت الغرب من تدبير هذه العلاقة بسلاسة كبيرة حمت السياسة من تدخل الدين، و حمت الدين من التسخير السياسي. ومن أهم ما طرح من أسئلة حول العقل، أن العقل السياسي يختلف من حيث الجوهر عن العقل الديني، لكون الأول يقوم على عقلنة المصلحة العامة وسؤال تدبيرها المرن حسب السياقات، في الوقت الذي يقوم فيه العقل الديني على تفعيل مصلحة روحية منبتها المعتقد الشخصي ومجالها الضمير الفردي والوجدان ومؤداها طريقة في فهم المصير الفردي، فألا يفترض ذلك أن كل محاولة لضبط هذه العلاقة وتنقيحها على مستوى الممارسة، إعادة فهم عميقة لطبيعة اشتغال « الديني» في قلب الحقول الاجتماعية وتحليل الآليات التي تعمل على فرضه كإلزام جماعي يشمل كل مكونات المجتمع، وتحول كل قضاياهم و مشاكلهم إلى قضايا دينية تستدعي حلولا دينية. كما أن حماية الإنسان من تدخل السلطتين الدينية والسياسية يفرض مشروع عقلنة النسق السياسي ونجاعته الكاملة، في ظل التغييب الاجتماعي لمقولة الفرد، التي تعني أن هناك مجال لا يحتمل وصاية من أحد سوى الفرد نفسه وحريته. وفي ظل درجة التفاعل مع الدروس التي يقدمها التاريخ، والتي تقول إنه كلما توحدت السياسة والدين إلا وأنتجت فظاعات لا نهاية لها، حيث أنها غذت الاستبداد وحولته إلى مهمة إلهية، وجعلت من الحروب واجبا دينيا، وتواصل اليوم تغذية النزعات الشعوبية التي تمثل أكبر تهديد للمشروع الديمقراطي، فهل يمكن للنسق الحزبي الذي يشكل واجهة العقلنة السياسية، أن يظل محترما لشروط هذه العقلنة في ظل استغلال الموارد الدينية للهيمنة على الحقل السياسي، و للزيادة في القدرات الاستقطابية والتجييش، من خلال تفعيل الالتباس الذي يجعل من السياسة والدين وجهان لعملة واحدة، و تحوير جوهر الفاعل السياسي وتحويله إلى الفاعل المؤمن؟ وعن السياق المغربي، يتساءل البعض عن الالتباسات التي تعلن عنها التجارب الانتخابية الأخيرة، متأتية من هذا التداخل الذي يُظهره الخطاب السياسي الذي يفسح المجال للديني، ويستعمل مرجعياته الروحية في تبرير وجوده. حتى أن الملاحظ يحار إن كانت اختيارات الناخب سياسية أم دينية، وهل يمكن الحفاظ على العقلنة المعول عليها للفعل السياسي، التي تقوم في حدها الأقصى على أن يكون الاختيار ( أي فعل الانتخاب) حكما عقليا على برامج قابلة للتعقل والحساب، وليس صيغة في التعصب مصدرها ميولات عرقية أو عقائدية؟ ومن جهة تدقيق القانوني في تحديد العلاقة بين السياسي والديني ( في قانون الأحزاب مثلا) وفي تنقيح هذه العلاقة على أرض الواقع وحماية إستقلالية كل مجال من تدخل المجال الآخر، أم يستلزم ذلك عملا شاملا يهم المجتمع بكامله وأساسه الثقافي بغرس قيم التنوير، وفرز شروط القناعة الاجتماعية بمدنية الدولة والقانون، و بالطابع السياسي للفعل السياسي المستقل عن مجال المقدس، وبتعزيز التمييز بين المجال العام حيث تحكم القوانين المدنية والمجال الخاص حيث تسود الحرية الفردية؟ الدكتور. مصطفى بوهندي أستاذ مقارنة الأديان بجامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء، أكد أن العودة إلى القرآن تؤكد على أن الشرع قراءة بشرية في الدين وليس إلهيا. من جهته أبرز المحامي و الحقوقي محمد أغناجعلى أن هناك توجه نحو علمنة الدين بتضمينه قراءة دنيوية ، والعلاقة بين الدين والسياسة يجب أن تطرح بمنظار جديد. وخلصت الدكتورة نعيمة المدني أستاذة الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش، إلى أن الدين ضروري للمجتمع وهو يوحده. أما الكاتب والمفكر أحمد عصيد فقد خلص إلى أن الدولة المدنية تتحقق بقيم المساواة والعدالة وسيادة الحريات، وأم الحريات حرية المعتقد، وأن الديمقراطية لا يمكن أن تكون مجرد رقم في صندوق الانتخابات، وإنما هي قيم متكاملة ومنظومة من الحقوق ، حقوق لا يمكن تجزيئها أو إخضاعها لتمييز ديني أو عقائدي ، لذلك ينبغي فصل الدولة عن الدين، وترك الدين للأفراد دون تدخل خارجي. وفي كلمته الختامية، عبر الإعلامي و الشاعر مصطفى غلمان عن رغبة المنظمين في استمرار تفاعلية مثل هذه الندوات الفكرية على اختلاف مواضيعها لخلق نقاش دائم يخلص لتنمية العقل ومسايرة القيم الكونية بمرتكزات تصون كرامة الفرد وقيم المجتمع. نقابة المحامين المغاربة ممثلة في الأستاذ المحامي والفاعل الحقوقي مولاي الحسين الراجي نوهت بقيمة الشراكة المثمرة مع مركز عناية للتنمية والاعمال الاجتماعية في تنظيم مجموعة من اللقاءات الوطنية الناجحة بحجم المتدخلين، واغتنم الأستاذ الراجي المناسبة لتوشيح مصطفى غلمان بالعضوية الشرفية، وهي عبارة عن رؤية المجلس التنفيذي للنقابة في إطار الاعتراف بمجهوداته في مجالات مختلفة. حضور مكثف ومواضيع وازنة ونقاش عميق بتسيير هادئ للمفكر والإعلامي عبد الصمد الكباص، معطيات جعلت من الندوة الوطنية حول الدين والسياسة أن تعتبر محطة مائزة لإبراز ملامح وظيفية لنقاش معمق يفرض راهنيته...