اختارت المنظمة المغربية لحقوق الإنسان "حقوق الإنسان والهوية" كموضوع لندوتها الوطنية التي عقدتها يومي 4 و 5 أبريل بمكناس. حضورها كان نوعيا ، ضم الأطر الوطنية للمنظمة وفروعها ومنظمات ومراكز حقوقية وفعاليات من المجتمع المدني . وفضاء انعقادها كان رحبا : المعهد التقني للبستنة بمكناس. أرضيتها ارتكزت بالأساس إلى طرح إشكالية ذات أربعة أسئلة جوهرية تمثلت في : 1 - هل وجب علينا أن نفقد الأمل في كونية حقوق الإنسان؟ ما هي أسباب الانغلاق الذي تواجه به بعض الفئات حقوق الإنسان؟ 2 - كيف بإمكان التعدد الثقافي أن يضمن الحقوق ذات البعدين الإنسي والكوني؟ 3 - ما العمل من أجل نشر ثقافة حقوق الإنسان في محيط يعيش ردة أقل علاماتها تضخم الهويات المحلية؟ 4 - ما هي شروط التوافق والالتحام بين الاختلاط والتعدد الثقافي ووحدة وكونية حقوق الإنسان ؟ محاور الندوة وعروضها ضمتها جلستان، كان عنوان الأولى : "الحداثة وسؤال الهوية" ، والثانية: "الهوية والتحولات الراهنة".والجلستان معا قدمت خلالهما عشر عروض قيمة أثارت نقاشا خصبا وجدلا فكريا استند في أحيان كثيرة إلى عمق التاريخ وطروحات الفلسفة ونوايا السياسة. الجلسة الافتتاحية أدارها الأستاذ حمادي لمنور الذي أشار إلى أن الإشكال المطروح الآن هو "مشكل مرتبط بالذات الفردية والجماعية على مستوى الكونية والخصوصية" . وتناول الكلمة في هذه الجلسة الأستاذ عبد الرحمان الكرماتي، كاتب فرع المنظمة بالعاصمة الإسماعيلية، حيث وضع الندوة في سياقاتها وراهنية موضوعها . تحدث في جلسة الافتتاح كذلك الأستاذ محمد الصبار، الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، مستعرضا مضامين الدستور المغربي، و مذكرا بأنشطة المجلس في قضايا الهوية، مشددا على ضرورة النهوض بالخصوصيات الهوياتية لكل فئة من الفئات المكونة للمجتمع وخلق توافق بين بعض الخصوصيات والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، مشيرا إلى أن مسألة الهوية في علاقتها مع حقوق الإنسان حاضرة دائما في الصكوك والإعلانات الحقوقية بشكل مباشر أو غير مباشر. أشار ، في هذا السياق، إلى أن الهوية اقترنت بالحقوق الثقافية منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 مرورا بالميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966، معتبرا أن عدم اعتماد وحصر تعريف دقيق للثقافة والهوية جعل كثيرا من الحقوقيين يعتبرون الحقوق الثقافية ذات تفسيرات وخصوصيات أنتروبولوجية أكثر منها حقلا حقوقيا. وفي كلمته بالمناسبة بين الدكتور محمد النشناش، رئيس المنظمة، أسباب نزول الندوة، مذكرا بالنقاشات التي شهدها المؤتمر الوطني الأخير، حيث تباينت بعض المواقف في عمقها التاريخي والحقوقي ، مستعرضا تراث المنظمة بشأن إشكالية الهوية، إذ تضمن بيانها العام في مؤتمرها التأسيسي قبل ربع قرن هذا الموضوع مبينا ثوابته ، وهذه الثوابت التي خلص لها هذا البيان هي التي شكلت على مدار 25 سنة إطارا لعمل المنظمة . ترأس الجلسة الأولى الأستاذ مسعود بعيش عضو المكتب الوطني، حيث قدم أرضية الندوة ومخاضات التحضير .. ووقف عند بعض المصطلحات التي وجب تدقيقها لما لحمولتها من مضامين راكمتها عبر نقاشات تاريخية وسياسية. أول عرض في هذه الجلسة عنوانه :" الهوية وسؤال الحداثة"قدمه الأستاذ محمد أولاد علا أستاذ الأدب الفرنسي بكلية الآداب بالمحمدية ومشرف على نادي الكتاب بالمنظمة . استهله بمدخل تاريخي وتعريفي لبروز المفهوم الذي أصبح متعددا متشابكا ذا بعد سوسيولوجي، مستندا إلى مقولات العديد من المفكرين من بينهم ستراوس الذي يرى بأن الهوية "بوتقة افتراضية" . وفي مدخله النظري وقف الأستاذ أولاد علا عند بعض الإشكاليات من بينها : إشكالية الهوية هي إشكالية أفقية وليست عمودية. في المجتمعات المتقدمة تقوم المؤسسات على تصريف الهوية على عكس المجتمعات المتخلفة. الهوية انتماء اجتماعي يضعنا أمام إشكاليات عدة من بينها الهوية الاجتماعية . الهوية تكييف للتناقضات الاجتماعية والإيديولوجية . .. وفي تطرقه للموضوع في مجاله الإسلامي، ذكر بالأسئلة التي تم طرحها قبل قرنين تقريبا خلال ما يسمى بفترة النهضة وأبرزها : من نحن ؟ لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ "إن هناك قطيعة خيانة " يقول المتدخل وهو يستعرض خلفيات هذه الأسئلة .ف"هويتنا" (الإسلامية) كانت تشعر بالتعالي تجاه الآخر (قبل الاستعمار) وتعتبره طاغية وكافرا ومارقا . وبعد صدمة الاستعمار اكتشفنا الحداثة على شكل رصاص وقنابل . وبدأت هناك أصوات وأفكار تطرح أنه لكي أتقدم يجب علي أن أعود إلى أصل ، إلى سلف خنته. أي العودة إلى الانكماش الهوياتي .وهو ما اعتبره الأستاذ أولاد علا ب"الهويات المريضة" التي تقودنا حتما إلى هويات قاتلة. العرض الثاني ألقاه الأستاذ عبد الحي أزرقان (أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب بالرباط ) موضحا في البداية أن ما قصده من موضوع مداخلته "الهوية والمدينة" هو مفهوم الهوية داخل ما نسميه بالمجتمع المدني . وفي هذا الإطار قدم تدقيقات عدة من بينها أن المجتمع المدني : يتسم وينبني على الحرية الفردية وبالكيان الفردي بشكل عام . وأن مصلحة الفرد يدخل في إطارها ما هو مادي محض وفي الآن ذاته ما يندرج في إطار مصلحة معنوية. أن التكوين والتربية مسألة أساسية داخل المجتمع المدني. أن المجتمع المدني هو كيان يقوم أفراده ببنائه .إنه مجتمع يبنى ولا يعطى ويعتمد على ذاته في هذا البناء. إنه جسم بحاجة إلى روح تجعله يعيش و يحيى . وروح هذا الجسد هي الهوية .وما يميز هذه الهوية- الروح هو أنها خاضعة للبناء باستمرار . هي هوية منشطرة باستمرار ولا تكون متطابقة تطابقا تاما لأنه من الصعب أن يكون هناك تطابق بين الفرد والكل. لأن هناك اختلافا بين الأفراد فيما بينهم وبينهم وبين ما يبنونه من كيان . "الهوية والآخر" كان ثالث عرض في الجلسة الأولى قدمته الأستاذة فاطمة موهاجير ،دكتورة ، أنتربولوجية، خريجة كلية الآداب بالرباط . نبهت في بدايته أنها تفضل عنوان "الآخر هو أنا" . لماذا؟ لأننا عندما نستعمل كلمة الهوية نستعملها فقط من أجل إقصاء الآخر وإبراز الذات بشكل مبالغ فيه وأحيانا باعتداء عليه . واعتبرت أن الهوية كلمة "مصيدة" وليست بمفهوم . مصيدة تستعملها جهة لتستقوي على جماعة أخرى. وبعد أن تطرقت الأستاذة مهاجير إلى بعض الأعمال الأنتروبولجية التي اهتمت بالتفاعل الثقافي استنتجت أنه ليس هناك تراتبية ثقافية، فكل الثقافات متساوية . وخلصت إلى أن مصطلح الهوية هو كائن إعلامي بالدرجة الأولى وليس بمفهوم علمي. عنوان عرض الأستاذ عبد الرحمان العمراني(مفكر ، أستاذ جامعي بكلية الحقوق بفاس، برلماني سابق ) أثار عددا من الملاحظات بشأن ترجمته من الفرنسية إلى العربية .(les identités transversales) والتي جاءت في البرنامج : الهويات المتقاطعة . البعض اقترح الهويات الرخوة !!! والبعض اقترح : الهويات العرضانية . يقول الأستاذ العمراني أن موضوع الهوية هو نتيجة دخول العالم في مرحلة ما بعد الإيديولوجيا أو كما أسماه بعض الباحثين : إعادة أقبلة العالم. واعتبر في سياق حديثه عن العالم العربي أن للعرب غيرية في علاقتهم مع الغرب في الوقت الذي انتهت آسيا مثلا من هذا الوضع .العرب لازالوا يعتبرون أن الآخر هو الغرب. ووقف الأستاذ العمراني عند استنتاج الأستاذة موهاجير الذي اعتبرت فيه أن الهوية مصيدة، معبرا عن اختلافه معها، مشددا على أن الحديث عن الهوية أصبح إمكانا تاريخيا، مستعرضا تطور مفهومها منذ الثورة الفرنسية. إن الهوية بدأت مع مسلسل الحداثة . فقبل الحداثة يصعب الحديث عن القوميات. إن الهوية هي إعادة اختراع التقاليد ليس إلا. آخر عرض في الجلسة الأولى قدمه الأستاذ عبد الكريم الشيكر (أستاذ الأدب الفرنسي بكلية الآداب بمكناس ) في موضوع : " الهوية والفن" . إن الحديث عن الهوية هو حديث عن الماهية يقول الأستاذ الشيكر . وأن الخوض في موضوع الهوية والفن عملية محفوفة بالكثير من الصعاب لأنه موضوع تتقاطع فيه مفاهيم من حقول مختلفة ومتنافرة .ويسعفنا هنا معادلة شبه جاهزة تساعدنا على مقاربة الموضوع . معادلة تضع توازنا بين هوية الفن وفن الهوية كانت فردية أو جماعية وليس فنا منمطا للهوية أو هوية ممنطة للفن. وبعد أن أشار إلى بعض مظاهر الهوية ومنها الفلكلور الذي ما هو سوى مرادف لعمليات ذات بعد فيدرالي . قال الأستاذ الشيكر أن نمو الوعي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ضمن تصور وطني ومواطني أكثر فأكثر يدفعنا للتساؤل حول موقف الدستور حول الحيز المخصص للهوية والفن عبر تقاطعاتهما الممكنة وليس بالضرورة المستحيلة . وبعد أن قدم الفصول الدستورية التي تحدثت عن الهوية والفن خلص إلى أن هناك بياض خصب يطل بين ثنايا الخطاب الدستوري يمكن استثماره في اتجاه إغناء الوحدة الوطنية والمواطنة. حصة مناقشة عروض الجلسة الأولى كان ثرية بمداخلات وأسئلة أبرز خلاصاتها : أن هناك تشويشا على مفهوم الهوية ومحاولة لشيطنته . وهذا التشويش يطال المنظومة الحقوقية . أن إشكال الهوية هو الحقوق الثقافية . وعلى المستوى السياسي هناك قوى لا تعير أدنى اهتمام للهوية إذ تتبنى سياسة "إعمل هويتك وتنوعك كما تشاء لكن أترك "كوكاكولا تصل إلى حيث تشاء". حل مشكل الهوية يكمن في بناء الدولة المدنية. ويجب أن نبتعد عن التوظيف السياسي للهوية للإستقواء على الآخر. الجلسة الثانية التي انعقدت صباح يوم السبت ترأسها رئيس المنظمة الدكتور محمد النشناش . تحدث في بدايتها الأستاذ مصطفى بوهندي أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب ببنمسيك ومدير مركز أديان للبحث والترجمة الذي اقترح تطويرا لعنوان مداخلته من : "الهوية والأديان" إلى " عندما يصبح الدين هوية" معتبرا أن الهوية هي زاوية نظر أي من أي زاوية ننظر للفرد أو الجماعة لنعطيه هوية . وأن هناك هوية تصبح مهددة لهويات أخرى وبالتالي لحقوق الإنسان. وأن الأديان لا علاقة لها بهذه الأشياء التي تأسست في التاريخ بفعل الآمال والآلام والأفراح والحروب واتخذت صبغة دينية إلى درجة أن وقع تداخل بين الدين والجماعة التي أصبحت تدعي أنها هي الدين أو تتكلم باسم الله. وأشار الأستاذ بوهندي إلى أنه عندما يصبح الدين هوية، والمتكلم باسم الدين متكلما باسم الله ويعتبر أن ما يحق له لا يحق لغيره نصبح في قراءة خطيرة هي القراءة الطائفية التي تؤدي إلى الحروب والصراعات. في موضوع"الهوية الفردية والهوية الجماعية" ألقى الأستاذ عز العرب بناني(أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بفاس) عرضه في هذه الجلسة أبرز فيه أن الإشكال المطروح بالمغرب هو إشكال الهوية إذ يوجد في مرتبة وسط بين هوية جماعية وهوية فردية . فالتصور المؤسساتي يستند إلى هوية بناء المؤسسات فيما التصور الفردي يعطي للقانون أولوية على الحق . ويتجلى ذلك في وضع يتم خلاله تطبيق القانون في العلن وممارسة حرية المعتقد في السر . أي أن على المغاربة أن يخرسوا ضمائرهم في العلن ويعودوا إليها في السر . الأستاذ بلعيد بودريس أستاذ التعليم العالي بكلية علوم التربية، جاء عرضه تحت عنوان "الهوية وحرية المعتقد" أنطلق في بدايته من قراءة للمادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، متسائلا عن الملامح العامة للسياق المغربي لهذه المادة "التي لازالت تثير القشعريرة لدى المغاربة".وما إذا كانت مادة لصالح الإنسان أم لتدمير الإنسان؟ وأشار الأستاذ بلعيد إلى أن المقاربة المعتمدة لدينا هي مقاربة تفكيرية . وهو ما يضع سؤالا عريضا على الحقوقيين : كيف يمكن بناء استراتيجية لحماية حرية المعتقد. هذه أبرز خلاصات ندوة ذات قيمة فكرية نظمتها المنظمة المغربية لحقوق الإنسان بدعم من المؤسسة الألمانية "فريديريك إيبرت" . ندوة تأتي والعالم العربي يعرف"مدا أصوليا يدعو إلى الانطواء حول الذات . إذ بالرغم من اهتمام فئات عديدة من بلدان العالم الثالث بحقوق الإنسان ، فإن شعوب هذه المناطق تبقى رهينة ارتداد وانكماش هوياتي يستنفر بالكاد كل مهتم" كما ورد في الورقة التأطيرية للندوة.