سبق لنا أن عالجنا، في الجزء الأول من هذه الورقة، إشكالية التوصيف الأجناسي للنص السردي «زمن التناوب الثالث» الذي وقعه إدريس لشكر واعتبرناه عملا سرديا يمثل سيرة ذاتية سياسية لفاعل سياسي له موقع وازن في الحياة السياسية الوطنية. وقد ذهبنا إلى أن هذا المنجز السير ذاتي بناء نصي تتفاعل ضمنه الأبعاد الشخصية والسياسية ويتقاطع فيها الذاتي والجماعي حيث التداخل المكثف بين محكيات الذات ووقائع المجتمع. وسنحاول، في هذا الجزء الثاني، الوقوف عند المحكي السياسي الذي يتخلل السيرة الذاتية السياسية لإدريس لشكر مبرزين كيفية اشتغال الخطاب السردي، إن على المستوى التركيبي وتأليف المحكيات المرتبطة بهواجس الذات وانشغالات المجتمع، أو على مستوى البنية السياقية الضامنة لتأطير المعنى السردي بالامتدادات السياسية والثقافية. كما سنقف، في هذا المقام، عند إعادة تمثل السارد لمحطات تاريخية فارقة وأحداث سياسية أساسية عبر استثماره الذهني للوقائع المختزنة في الذاكرة واستحضارها بنفس حكائي متنوع يتراوح بين تأمل الماضي واستشراف المستقبل. المحكي السياسي: من الجملة إلى الخطاب: تنزل السيرة الذاتية السياسية «زمن التناوب الثالث» منزلة النص السردي الذي لا يكتفي برصد المذكرات الخاصة للمؤلف عبر تدوين تطورات حياته اليومية العادية والبسيطة، وإنما يعيد تأمل مساراته الشخصية باعتباره فاعلا سياسيا أثر وتأثر، بشكل من الأشكال، في التحولات الأساسية على الصعيدين السياسي والمجتمعي. ومن ثمة، اتخذ الفعل السردي طابع الحكي السياسي حيث تتمظهر المحكيات كعلامات شاهدة على لحظات متباينة من مسار حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خصوصا، وعلى فترات مختلفة من تاريخ المغرب المعاصر على وجه العموم. ولذلك، لم يكن الهاجس المتحكم في الفاعل السياسي في السيرة الذاتية السياسية، التي نحن بصددها، متجليا في تقمص دور الأديب أو الراوي ولا في تجريب أسلوب الكتابة الأدبية بمعناها الضيق. في واقع الأمر، ومن خلال التقاط كيفية تحفيز السارد وطريقة الكتابة السردية، يتبين أن هاجس المؤلف تمثل، بالدرجة الأولى، في إبداع صيغة سردية توافق بين المنحى الإبداعي والتخييلي في التعبير عن هواجس الذات والمنحى التقريري والتأملي في نقل انشغالات المجتمع. بالطبع، قد نقر بأن السيرة الذاتية السياسية شكل خاص من أشكال الكتابة الأدبية على الأقل في مستواها التعبيري، لكنها تتميز بكونها نتاج رمزي لحركية الفاعل السياسي إذ تتأسس، في تحققها النصي، على التحولات المعرفية التالية: العبور من ضيق الجملة إلى اتساع الخطاب، أي مجاوزة حدود الجملة اللغوية في تشييد المعنى السير ذاتي بما يجعله منبثقا من الخطاب ككل ؛ الانتقال من المضمون الحكائي إلى الشكل السردي، أي عدم الاكتفاء برواية الوقائع والأحداث واعتماد تقنيات سردية في بناء الحكاية والتأليف بين المحكيات ؛ الخروج من بنيات الخطاب إلى محددات السياق، أي النظر إلى النص السردي بوصفه نسق دلالي محكوم بالمؤشرات السياقية التي تجعل النصي ممتدا في السياسي والمجتمعي والثقافي. 1.3. البناء التركيبي والعوالم السردية يعتمد النص السردي «زمن التناوب الثالث» على نظام تركيبي يتجاوز الحدود الصارمة التي تعبر عنها قواعد النحو والتي تجعل من الجملة بنية مفيدة ومكتملة من حيث المكونات والدلالات في استقلال تام عن محيطها اللغوي. ذلكم أن المعنى الذي يرسمه السارد، في السيرة الذاتية السياسية، لا ينتج عن الجملة اللغوية الواحدة والمستقلة، بل يتمثل في ما وراء الجملة إذ ينبثق عن التأليف الجملي الأعم، أي تعالقات جمل متعددة تشكل ملفوظا سرديا يتداخل بدوره مع ملفوظات أخرى ليشكل، في نهاية المطاف، بنية النص السردي. ومعنى ذلك أن سيرة «زمن التناوب الثالث» تخضع لنظام تركيبي موسع يكرس التفاعل بين «الجملة» و»النص» بالمنطق السيميائي الذي جسده بارت (1985) Barthes إذ تمثل الجملة نصا صغيرا ويشكل النص جملة كبيرة. إنه المنطق المزدوج القائم على معادلة «الجملة – النص» المؤسسة للخطاب السردي ولنسقه اللغوي المفتوح على مقتضيات الذات والسياسة والمجتمع ؛ نسق لغوي يشيد الخطاب السردي على بنيات نصية متماسكة تكون فيها الجملة نقطة الامتداد الدلالي. وهكذا، تخللت مجموعة من المقاطع السردية تعابير مكثفة تترجم بؤرة السرد من قبيل: «هي أحداث بصمت ذاكرتي .. لازمتني في مساري الشخصي والسياسي، بل شكلت محطات فارقة في بناء رؤيتي للحزب والحياة ..» (ص 20) في ختام فصل «محطات فارقة» ؛ «أظن أن الرسالة وصلت .. ذمتي صافية .. وضميري مرتاح .. كل أفراد عائلتي يعملون في القطاع الخاص .. بكفاءاتهم وديبلوماتهم وتجاربهم .. لا علاقة لنا بالريع .. ولن تكون.» (39) في نهاية فصل «رؤيتي لمستقبل الحزب» ؛ «تحملنا مسؤوليتنا كفريق نيابي .. وعلى الآخرين تحمل مسؤولياتهم» في آخر الفصل الذي يحمل عنوان «وردة في كل المواقع». إن التعابير المكثفة في «زمن التناوب الثالث» تعكس أسلوبا سرديا لا يروم فقط إبراز المعنى الناتج عن عملية الحكي، بل يهدف إلى إظهار القصد التداولي للمحكيات المتمثل في استعراض المبدأ الإنساني وإعلان الموقف السياسي. وعليه، فكثافة النص السردي كما نسجه السارد من كثافة الموقف السياسي الذي يتبناه المؤلف (إدريس لشكر) مما يجعل العمل السردي في مجموعه ناتج عن إرادة الذات: «ذلكم ما عولت عليه.. وعملت وأعمل من أجله..» (ص 148). ويبدو من خلال هذا الأسلوب التعبيري أن الكلمة، بوصفها الوحدة الأساس في النص السردي، تنحاز عن وظيفتها المعجمية العادية وتسهم في الكشف عن المبدأ الإنساني والموقف السياسي، وبالتالي بناء القصد الذي يبتغيه المؤلف. وإذا تأملنا جرأة السارد في الدفاع عن رأيه ووجهات نظره، نجده ينتقي الوحدات السردية ذات الإيحاء السياسي والتي لا تقبل الالتباس وتعزز رغبته في الإعراب عن المواجهة وعدم المهادنة: «... لذلك، لم يكن غريبا أن يتم استهداف شخصي، وتهديدي بالتصفية الجسدية. / لكن ذلك لم يزدني إلا إصرارا..» (ص 31) ؛ ويستطرد: «[...] كان الصراع قويا.. كانت لوبيات الفساد تتوحد ضد شخصي.. لم يستسيغوا مبادراتي وجهودي التي فضحت ممارساتهم.. أزعجهم ازدياد نشاطي في محاربة الفساد.. اعتبروني -عن حق- معيقا لطموحات كل من يستهدف المال العام وإهدار ثروات الشعب.. وكل من يتهرب من الأداء الضريبي.. أو يستحوذ على صفقات كبرى خارج المساطر القانونية. لم يهدأ بالهم إلا بالتحالف مع قوى الفساد الانتخابي.. قاموا بكل ما يلزم من غش وتدليس وإكراه واستعمال للمال واستغلال للممتلكات العمومية لحرماني من صفتي النيابية.. ظنا منهم أن هذا سيثنيني عن عزمي.. لكن آمالهم خابت.. خابت آمالهم وتزايد عملي ونشاطي خارج المؤسسة التشريعية.. وبعزيمة أقوى.» (ص 106 / 107). ووفق هذا المنظور الدلالي، يتشكل الخطاب السردي في «زمن التناوب الثالث» من ملفوظات حكائية مليئة بالدلالات الإيحائية ومحملة برسائل سياسية متعددة تتصل بالحياة الشخصية والمشهدين الحزبي والسياسي. ومن ثمة، يعكس هذا الخطاب عبر مقاطعه السردية المختلفة موقفا صريحا بين الحين والآخر، لكنه يعبر في ثنايا محكياته عن مواقف ضمنية في الكثير من الأحيان محفزا القارئ على كشفها من خلال تفكيك اللغة السردية المستعملة. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نعتبر الخطاب السردي في عمل إدريس لشكر «خطابا أطروحة» – على غرار مفهوم الرواية الأطروحة – لكونه يقدم سردا واقعيا بمضمون سياسي ونفس حكائي يتوخى إقناع القارئ بمصداقيته ورجاحته (سيرفواز. 2007. Servoise). ولعل البؤرة البارزة في هذا الخطاب الأطروحة تكمن في الملفوظ الذي يدافع عن الرؤية الخاصة بالمؤلف: «نحن الأمل لأننا لا نزرع الأوهام .. بل نعمل لبناء مجتمع تكافؤ الفرص .. المساواة .. احترام الحقوق والحريات .. وأيضا مغرب التوزيع العادل للثروات .. الكفيل بتكسير حلقات الفقر .. وإدماج كل الفئات في المسلسل التنموي الشامل.» (ص 6). رؤية لا تأخذ قيمتها الحقيقية من المبادئ الإنسانية والقيم الوجودية التي تعلن عنها فحسب، بل تتميز بما تصارعه من تهديد للإنسان على كافة المستويات المجتمعية وما تواجهه من إكراهات متنوعة إن على الصعيد السياسي أو الصعيد الثقافي. ومن ثمة، يجهر السارد بكونه ملتزم بالدفاع عن أطروحته في وجه أطروحة مضادة تتجلى في المشهدين: السياسي والحزبي ؛ فعلاقة بالمشهد السياسي، يعتقد السارد أننا «[...] لسنا وحدنا في الميدان. خصوم الديمقراطية والحقوق والحريات الجماعية والفردية لهم أيضا تصورهم الخاص لمستقبل البلاد.. بل منهم من لا يزال يراوده حلم ضرب مكتسبات دستور 2011، وتقليص الهامش الحقوقي.. وإقصاء وإسكات كل من يُعارضهم.» (ص 30). أما في ما يتعلق بالمشهد الحزبي، فالسارد يعلن موقفه الواضح: «إن البلاد في حاجة للنطق بالكلمة الجريئة الملتزمة والتي لا يُطلب منها شهادة حسن سيرة كي تُسمع من أي جهة كانت.. لا بد من الرد الصارم على كل من يتخيل بأن الاتحاد في حاجة لمن يُوجه تفكيره أو مواقفه أو عمله.» (ص 67). وهكذا، يبدو أن الفضاءات الحكائية في السيرة الذاتية السياسية تشير، عبر بنياتها اللغوية المتعددة الدلالات، إلى تموقع الخطاب السردي ضمن سياق أوسع يتجاوز حدود البناء النصي لينفتح على مجالات سياسية وثقافية ومعرفية مختلفة. 2.3. الخطاب السردي ومحددات السياق: إن تشييد الخطاب السردي في «زمن التناوب الثالث» يستند إلى تأليف حكائي بإيحاءات عميقة تبلور أطروحة يتبناها المؤلف وينهض بإعادة كتابتها سرديا من خلال تتبع مساراتها وتفاعلها مع مختلف محطات مسيرته الشخصية والسياسية. وعليه، لا يستوي فهم السيرة الذاتية السياسية إلا باستثمار المؤشرات النصية ذات البعد المرجعي، أي النسق النصي الذي يندرج فيه الملفوظ الحكائي من جهة، والنسق المعرفي الذي يستوعب الفعل السردي من جهة ثانية. ومن ثمة، نميز في التحليل السياقي للعمل السردي، تبعا للتصور النظري والإجرائي كما صاغه فان ديك (1977) Van Dijk في مجال تحليل الخطاب، بين سياق مخصص داخلي تشكله البنيات السردية في تحققها اللساني، وسياق معمم خارجي تمثله مختلف الملابسات السياسية والاجتماعية والثقافية للأحداث المحكية (6). إن السياق المخصص يوجه فهم القارئ لتحولات السرد ورؤية السارد في البناء التدريجي لمحكياته ضمن سيرة ذاتية جماعية تتوزع محاورها الدلالية بين الحياة الشخصية والمؤسسة الحزبية وقضايا اليسار والانشغالات السياسية. ويتحدد البعد السياقي الداخلي داخل البناء العام للمحاور الدلالية السردية بأكملها سواء في توالي محكياتها أو في تداخل أحداثها، بل إنه يتحدد أيضا على مستوى بناء كل محور دلالي على حدة إذ تبرز المحاور الفرعية الإضافية التي تتيح للسارد فرصة الدخول في تفاصيل الحكي. هكذا، يقدم السارد – على سبيل المثال، لا الحصر – محاور فرعية أخرى تجسد محكيات تفصيلية للمحور الدلالي المتعلق بالمؤسسة الحزبية: «... مأسسة الحزب.. وتجميع العائلة الاتحادية.. ومد اليد لكل مكونات اليسار الذي يشكل الحزب المكون الرئيس في الفضاء اليساري .. وأخيرا، حُسن إدارة الخلافات الداخلية. أربع أفكار.. كنت وما زلت أعتبرها المدخل الصحيح لإقامة صرح تنظيم حزبي قوي.. ذلك ما عولت عليه.» (ص 26). هكذا، تترابط البنيات السردية في السيرة الذاتية السياسية عبر تعالق محاورها الدلالية لتشكل سياقا نصيا تتعدد مكوناته الحكائية التي لا يمكن أن ندرك مغزى أحدها دون إدراك مقاصد الأخرى إذ يضيء بعضها بعضا. ولا غرابة أن نلحظ وجود تقاطعات بين المحور السياسي والمحاور المرتبطة بالشأن الحزبي والإيديولوجي والبرلماني والحكومي وغيرها، بل إن المحور الشخصي ظل يسري في كل المحاور الحكائية بحضوره الأفقي في معظم البنيات السردية بمختلف محاورها الدلالية. غير أن السياق النصي، الذي بإمكانه الكشف عن البناء الدلالي للعمل السردي، يقتضي التوسل بمؤشرات المجال المعمم لاستنباط المقاصد التداولية للخطاب السردي. إن السياق المعمم في «زمن التناوب الثالث» يتيح مجمل المعطيات التاريخية والسياسية والمجتمعية القادرة على تمكين القارئ من الاستيعاب السليم للخطاب السردي والنهوض بالتأويل المناسب للملفوظات الحكائية. ويتحدد هذا السياق الخارجي بنمطين من المعطيات النصية: أولا، المعطيات المؤطرة تاريخيا،أي المستندة إلى فترات تاريخية معينة والمحيلة إلى سنوات محددة، وهي التي تشكل المرجعية السياسية للصوت الجماعي الصادر عن الذات الساردة كما أشرنا إلى ذلك سابقا. وتشير إلى هذا النمط السياقي بنيات سردية من قبيل: «.. كان ذلك دائما سنة 1963 ..» (ص 16) /»بعد الانتكاسة الانتخابية التي عاشها الحزب إثر استحقاقات 2007..» (ص 69) «لنتذكر الأحداث الإرهابية التي استهدفت الدارالبيضاء يوم 16 ماي 2003..» (ص 101) / «كان ذلك بتاريخ 28 نوفمبر 2010..» (ص 111) / ... ثانيا، المعطيات المؤطرة بالأحداث الكبرى، أي المتعلقة بشخصيات حزبية وسياسية فاعلة أو المتمحورة حول وقائع مفصلية في السيرة الذاتية والجماعية للسارد، وهي التي تعكس الإطار العام لمسارات الحكي. ويتجلى هذا النمط السياقي في ملفوظات من قبيل: «خلال حملة القمع التي طالت الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في ستينات القرن الماضي، ..» (ص 15) / «كانت المناسبة هي رواج أخبار في حينا عن اقتراب موعد قدومه إلى الدائرة .. [المهدي بنبركة]» (ص 16) / «.. وكان كل ذلك متزامنا مع الحظر الذي تعرض له الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.» (ص 18) / «... تجذرت هذه القناعة عند الانفتاح على جزء من حركة 23 مارس.. تم تتويجه في مرحلة أولى بالتحاق المجموعة التي كان يرأسها الأستاذ محمد المريني آنذاك..» (ص 28) / «لكن رد فعلنا كان عنيفا.. الكاتب الأول عبد الرحمان يوسفي يقدم استقالته ويغادر المغرب..» (ص 94) / «يتعلق الأمر بالمسيرة الوطنية الكبرى بخصوص قضيتنا الوطنية.. (ص 110) / ... وطبقا للمؤشرات السياقية المعممة، يكتسي الخطاب السردي بعدا معرفيا يمتد خارج البناء النصي ويحل إلى مرجعيات ثقافية وسياسية تعين في فهم العديد من الأحداث والوقائع التي طبعت المشهد السياسي الوطني لسنوات طوال. ومن ثمة، يأتي العمل السردي لإدريس لشكر حافلا بالمعاني والدلالات الرمزية التي تجعل الخطاب السير ذاتي عبارة عن شهادة شخصية ذات إضاءات وتفاصيل سياسية بقيمة مضافة. ويعني ذلك أننا أمام عمل سردي أتاح للسارد أن يفصل ويوضح تارة، وأن يصحح ويكشف تارة أخرى، وأتاح للقارئ تأكيد الرأي القائل بأن السيرة الذاتية تتجاوز كونها مجرد قصة وأنها مفتاح خاص من مفاتيح فهم جوانب كثيرة من الحياة السياسيةوالإنسانية (غراي. 1998 .Gray). وقد استند المنجز السير ذاتي في «زمن التناوب الثالث» إلى تحفيز السارد على تقديم شهادته وإضاءاته حول قضايا وأحداث مختلفة بناء على آليات حكائية استرجاعية أساسها الاستثمار المتميز لمخزون الذاكرة والتوجيه الذكي لفعل التذكر. 3.3. الذهن السردي واشتغال الذاكرة السياسية: اهتمت السيرة الذاتية السياسية «زمن التناوب الثالث» باستعادة تفاعلات الذات مع قضايا حزبية وسياسية ومجتمعية بارزة في المغرب المعاصر حيث مزجت بين البعدين الفردي والجماعي في رصد التحولات واستعراض المواقف ضمن قالب حكائي منظم ونسق سردي محكم. وهكذا، اعتمد الخطاب السردي على استراتيجية استرجاعية تروم إعادة تأمل ملامح الماضي واستحضار إكراهات الحاضر بشكل يدفع السارد إلى تحريك ما اختزنه عبر مراحل تاريخية متعددة. وقد نهضت الذاكرة فعليا بأدوار حيوية في الخطاب السردي، سواء على مستوى بناء المحكيات المتمحورة حول الذات الساردة أو على مستوى تضمين الملفوظات السردية مجموعة من المواقف السياسية الصريحة (7). واتسمت الذاكرة السردية بما التقطه السارد من تحولات تاريخية تجعل الحياة الشخصية والحزبية والسياسية غير مكبلة بقيود الماضي والحنين إليه، بل توججها نحو المستقبل، أي نحو الأفضل إنسانيا ومجتمعيا. يورد السارد في الفصل السردي «ذاكرة المستقبل»: «استحضرت في ذهني شريط انضمامي للحزب .. كمناضل يحدوه أمل كبير في تحسين أوضاع القوات الشعبية .. وترسيخ نظام ديمقراطي .. يحترم الحقوق والحريات .. يحفظ للإنسان كرامته .. ويضع البلاد في مسار التقدم والتنمية والحداثة ..» (ص 9). بالطبع، تتأسس وظائف الذاكرة السردية على طريقة اشتغال ذهن السارد في توليد محكياته مما يدفعنا إلى الحديث عن مفهوم «الذهن السردي» الذي نقترحه على منوال التصور المعرفي لما أسماه تورنر (1996) Turner بالذهن الأدبي. إنه مفهوم يترجم الحضور القوي للوقائع والأحداث، ليس باعتبارها معطيات جامدة ومغلقة مستقلة عن وجدان الذات ودلالات السياق كما أشرنا إلى ذلك سابقا، بل بوصفها تمثلات ذهنية يشيدها السارد ويقيمها فضاءات رمزية يتصورها القارئ لتحصيل المعنى السردي لما وقع ولما سيقع. وقد تحكم الذهن السردي في تأليف المحكيات بأشكال متنوعة تجسدت في أفعال سردية متباينة نوجز أهمها في الأليات التالية: آلية الاستحضار: «استحضرت في ذهني شريط انضمامي للحزب ..» (ص 9) / «استحضرت هذه الذكريات .. وأنا أفكر في تقديم ترشيحي للكتابة الأولى للحزب ..» (ص 9) / «استحضرت هذا الشريط منذ احتكاكي بالانشغالات الكبرى التي كانت كثيرة منذ انضمامي للحزب ..» (ص 9) / «استرجعت كل هذا الشريط، وقد أصبحت الرؤية العامة واضحة أمامي ..» (ص 10) / «استرجعت هذه الأحداث، وأنا أستعد للشروع في تطبيق برنامج عملي.» (ص 15) / ... آلية الترسيخ: «أشياء كثيرة ما زالت عالقة بذاكرتي .. عشتها .. عشت طفولة أتذكر منها ما يهم الشأن السياسي أساسا ..» (ص 15) / «سكنت الفكرة ذهني ..» (ص 15) / «كنت قد حفظت بعض الأسماء من الجريدة وأصبحت راسخة في ذهني ..» (ص 16) / «بقيت صورته عالقة بذهني .. وبعض كلامه لا يزال يرن في أذني.» (ص 16) / «أثرت في نفسي هذه الواقعة .. واستحضرت المهام التي كنت مكلفا بها كمستشار بالجماعة .. مهام نبيلة فعلا ..» (ص 19) / «هي أحداث بصمت ذاكرتي .. لازمتني في مساري الشخصي والسياسي، بل شكلت محطات فارقة في بناء رؤيتي للحزب والحياة ..» (ص 20) / ... آلية التذكر: «ما أذكره أيضا من هذه الفترة الانتخابية، ...» (ص 17) / «أتذكر مثلا ذلك الطالب اليساري «جدا» ..» (ص 18) / «أتذكر بعض الصراعات التي كان لنا الفضل في إدارتها لتصحيح أوضاع غير طبيعية.» (ص 94) / «وأتذكر جيدا المعركة القانونية التي خضناها بخصوص الرسم البالغ قيمته 5.000 درهم عن كل مواطن يستخدم «البارابول»..» (ص 96) / «أتذكر أنني طرحت بعض المحاور للتفكير.. كانت خمسة محاور يجمعها عنوان واحد: كيف يُمكن إدخال البلاد إلى مصاف الدول الصاعدة؟» (ص 134) / «أتذكر جيدا الالتفاف الجماهيري على إحدى تظاهرات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بإحدى مدن الجهة الشرقية..» (ص 137) / ... هكذا، تجلت البنيات السردية في مختلف المقاطع الحكائية للسيرة الذاتية السياسية مسنودة بأفعال ذهنية تروم الكشف عن الامتدادات الجماعية للذات الساردة وإن وردت الملفوظات بصيغة الأنا وضمير المتكلم. فبمنطق صوت الذات الجماعي الذي أبرزنا هيمنته في عمليات السرد، حضر خطاب الذاكرة لإعادة رسم ليس فقط المسار الطبيعي لحياة الفاعل السياسي إدريس لشكر، بل لإعادة تشكيل الحركية والتغيرات التي وسمت المشهدين الحزبي والسياسي في المغرب. ومن ثمة، طفا إلى سطح السرد، بين الفينة والأخرى، التذكير بصيغة الجمع لتأكيد رمزية الصوت الجماعي: «تمكنا من استرجاع القطاع الطلابي .. وتغليب كفة الطلبة الاتحاديين .. وأدينا ضريبة النضال التي كان نصيبي منها الاعتقال والمحاكمة وسنتين حبسا ..» (ص 17) / «يتذكر الجميع.. ويُسجل التاريخ.. أنني انتفضت ضد هذه الوضعية.. « (ص 70) / «لنتذكر الأحداث الإرهابية التي استهدفت الدارالبيضاء.» (ص 101) / «قمنا جماعة، اتحاديات واتحاديين، بعمل جيد..» (ص 138) / وغيرها. ولعل القصد من هذه الأشكال التعبيرية المتنوعة في ما يتذكره السارد أثناء تأليف محكياته أن يقرن المعنى السردي بإطاره المرجعي بما يمكن من نسج الحكاية السياسية وإعلان الموقف السياسي. أفق السيرة الذاتية: التناوب الممدد والزمن الآتي: يبدو، من خلال استجماع العناصر والمكونات السردية التي أتينا على ذكرها في هذه القراءة الأولية، أن الخطاب السردي في «زمن التناوب الثالث» يؤشر على مواقف في الحياة والسياسية ضمن رؤية مؤسسة على توظيف الذاكرة النقدية. والمعنى النقدي هنا يفيد استحضار تداعيات المواقف السياسية ضمن سياقاتها التاريخية والمجتمعية بما ينير التباسات الحاضر ويمهد لاستشراف مستقبل مختلف عماده الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. فقد أظهر تحليل العتبات السردية وبنيات النص الموازي أن الموقف العام للسارد يتمحور حول رغبة الذات في اقتحام مرحلة جديدة تكون بمثابة «التناوب الثالث» والانتقال إلى زمن سياسي ذي قيمة مضافة بإمكانه إحداث المنعطف التاريخي المأمول لتحديث المجتمع. يتعلق الأمر – من وجهة نظر السارد – بشرط زمني لا ينساق للمنطق التقليدي ولا يحتكم لمبدأ الثالث المرفوع، ويعتبر أن التصور الثنائي منطبق في حدود المجال الصوري ولا يستقيم تطبيقه في المجالات الطبيعية، ومنها المجال السياسي المفتوح على المنطق المتعدد القيم. ضمن هذا المنطق السردي العام، ترسم السيرة الذاتية السياسية مواقفها الثابتة وأفقها المغاير. تعلن عن الموقف الذي لا يهادن، في أمور الحياة كما في قضايا السياسة، لكون السارد يتسلح في مختلف المحطات بالإرادة والعزيمة القويتين، يقول: «عبرت مرارا عن مواقف قد تبدو قاسية.. [...] لكنها مواقف نابعة من غيرة على مستقبل هذا البلد الذي يستحق الأفضل.» (ص 148). ولعل الموقف الأكثر تعبيرا ما تبناه السارد بخصوص الزمن السياسي حيث يذهب إلى أن اللحظة الراهنة بلغت مداها وأن الأوان قد حان لتدشين مرحلة سياسية جديدة. لم يعد هناك مبرر، وفق مقصدية الخطاب السردي، للثبات والجمود والتكلس في المشهد السياسي العام، وكل تردد في الدفاع عن زمن آخر وعن المستقبل القائم «على الحداثة والتقدم والتنمية والقيم الكونية» بتعبير السارد، يعد في حد ذاته تمديدا للزمن الحالي ؛ بمعنى أن التقاعس في الدفاع عن ولوج تناوب ثالث يمثل بالضرورة تمطيطا للتناوب الثاني الذي لا مستقبل له. غير أن السارد يشدد على الحاجة الماسة للزمن الآتي وأهميته القصوى ما دام قابلا للتحقق بحكم قوة إرادة المؤمنين به والمعتقدين في التغيير المجتمعي الإيجابي. فزمن التناوب الثالث، كما يتجلى في الخطاب السردي للسيرة الذاتية السياسية، أمل يحدو مناضلات ومناضلين تحملوا وناضلوا وواجهوا: «يحدوهم أمل واحد.. أمل المساهمة في بناء مغرب حداثي عصري.. أمل المساهمة في تشييد دولة الحق والقانون.. دولة الحرية والمساواة.. بين الأشخاص والجهات.. دولة قادرة على تكسير حلقة الفقر.. والأمية.. دولة في خدمة الجماهير الشعبية..» (ص 147) هي نقطة البداية لسيرة أخرى ولمحكيات ذاتية وسياسية قد يحتضنها زمن غير الزمن وتحكي عن قيم إنسانية نبيلة لمجتمع يتسع لمختلف الطاقات ؛ إنها نقطة تدل على أن للسرد السياسي الذي نسجه إدريس لشكر طعم الحكاية التي لم تنته بعد، الحكاية التي لها ما بعدها: «غيض من فيض». الهوامش: (6) – أولت الدراسات المتعلقة بتحليل الخطاب عناية خاصة لمفهوم السياق إذ اعتبرته مدخلا حاسما في إدراك وفهم دلالات اللغة والكلام في ممارسات تواصلية متعددة ؛ ويمكن الرجوع إلى الدراسة العميقة لفان ديك (2015) Van Dijk التي يقر فيها بأن السياقات تؤدي دورا مهما في مراقبة وتوجيه الظواهر الاجتماعية بصفة عامة، وفي استعمال اللغة والخطاب على وجه الخصوص. (7) – شكلت الذاكرة السير ذاتية autobiographical memory موضوعا خصبا، ليس فقط في مجال السرديات وتحليل الخطابات السير ذاتية، بل أيضا في رصد طبيعة تشكيل الخطابات اليومية وكيفية اشتغال الذهن البشري خاصة في الدراسات المعرفية وأبحاث علم النفس المعاصر. للمزيد من التفاصيل، يمكن الاطلاع على فيفوش ونيلسون (2004) Fivush & Nelson ونيلسون (2003) Nelson. المراجع: Barthes, R. 1985: "L'Aventure Sémiologique" Seuil, Paris. Fivush, R. & Nelson, K. 2004: "Culture and Language in the Emergence of Autobiographical Memory" Psychological Science 15 (9), 573 – 577. Gray, R. J. S. 1998: "More than a Story: An Exploration of Political Autobiography as Persuasive Discourse" University of Lethbridge, Lethbridge. Nelson, K. 2003 : "Self and Social Functions: Individual Autobiographical Memory and Collective Narrative" Memory 11 (2), 125 – 126. Servoise, S. 2007: "Roman à Thèse et Roman Engagé: Exemplarité Diégétique et Exemplarité Narrative" in Alexandre Gefen, A. ; Bouju, E. ; Macé, M. & Hautcœur, G. (eds): "Littérature et Exemplarité" Presses Universitaires de Rennes, Rennes. Turner, M. 1996: "The Literary Mind" Oxford University Press, Oxford. Van Dijk, T. A. 1977: "Text and Context: Explorations in the Semantics and Pragmatics of Discourse" Longman, London. Van Dijk, T. A. 2015: "Context" in: Tracy, K. (Ed.): "The International Encyclopedia of Language and Social Interaction" Wiley-Blackwell, London. *باحث في التواصل وتحليل الخطاب