حييته كما أفعل بعد كل جنازة، لكنني لمحت شيئا غريبا هذه المرة في عينيه، شيئا مثل رغبة مكبوتة، أو وجع يريد التخلص منه. اقتربت منه واختلقت عطشا وطلبت الماء. ابتسم وطلب مني أن أقعد. واختلق الغياب حتى يستفرد بعضنا ببعض. أسكن في هذه المقبرة منذ سنوات كثيرة لم أعد أستطيع عدها. كنت في البداية أحسب كل شيء، الصلوات والناس والقبور. ثم شعرت بمخالطتي الموتى أن لا فائدة من العد. وحدهم الضعفاء يعدون. الموتى لا يعدون. يشعرون ولا يحسون. يعلمون ولا يهمهم علمهم. يعرفون ولا يعرفون. آنست متعة في قوله. يشعرون ولا يحسون، كررت مستزيدا. قال: نعم. الموتى يشعرون ويدركون، ويفهمون ويعقلون، لكنهم لا يحسون. هم في الآخرة كما في الدنيا يحبون ويبغضون، يفرحون ويحزنون، يتألمون حزنا، ويتمتعون فرحا. لكن لا ملذات حقيقية لديهم، لا يتلامسون ولا يشمون. فقدوا الجلود والمسام، وتساوت لديهم الروائح. يعشقون لكنهم لا يتزوجون. بذلك فهم لا يتكاثرون إلا بالموت. عندما يموت أحد الأحياء يقيمون له العقيقة ويرقصون. إنهم يرقصون كثيرا، أجمل فن لديهم هو الرقص. وتراهم يحضرون حفلات الأحياء الراقصة. يحبون الليل، المتأخر منه، وينامون النهار. وهل هم مراتب كما في الدنيا؟ نعم، منهم القائد صاحب الأتباع، ومنهم الوضيع التافه. ومنهم ثاقب الرأي، ومنهم بليد الطبع. لكنهم كلهم يملكون بصرا قويا به يرون ما وراء المقبرة، لأنهم بحاجة إلى ساكنة المدافن الأخرى في الوادي. يملكون عيونا تبصر في الظلام، وتستطيع أن تميز كل الألوان. غريب أمر الموتى، يحبون ويكرهون دون إحساس، ويبصرون ويرقصون. فقدوا ذائقة المالح والحلو، ورائحة العطور والجيف. ورغم ذلك فهم يشعرون. شيء آخر يميز عالمهم هو غياب الزمن. أطفال وشيوخ وكهول يتصادقون، ويمشون زمرا ويكونون أحلافا. والحكمة بالمخالطة والسفر، وليس بالسن. يكثرون من السفر عبر الوادي كله، وكثير منهم زار أودية أخرى، لكنهم كلهم يرجعون. يحتفظون بجنسهم، فالذكر ذكر، والأنثى أنثى، لكن لا قيمة لذلك عندهم، لا عورة، ولا محرم، ولا خوف من الاختلاط. يكاد الموتى أن يكونوا مثل الأحياء في الذكاء والفطنة. وربما أفضل في أمور مثل حشد الأتباع والأصدقاء والاحتفال. هم لا يقيمون تجارب ولا يفترضون، ولا ماض لهم يعينهم على القياس، ولا ذاكرة تسعفهم في الكتابة والعد. ولا حاجة لهم بكل ذلك فهم أقل كثافة وثقلا، وبذلك أكثر شعورا بالآخر، وقدرة على التخفيف عنه، خاصة إذا كان من حديثي العهد بالوادي. هم أكثر مؤانسة وتفهما لحالات الضعف والوحشة والغربة والحرمان. الموتى لا ينقصهم شيء. لا يأكلون، لا حاجة لديهم للجوع، لا يتناسلون، ولا ينتظرون. في كل حين تضاف إليهم الحشود. لا ينامون ولا يتعبهم الأرق، يستعملون الحب العفيف كثيرا ويحبون الثرثرة والتعليق. يحبون الفنون البصرية والحركية والمسرح ويعبدون البلاغة وأصناف القول. ومنهم الكتاب والشعراء والرواة. لكن كما في الحياة منهم لصوص القول والفكر والمعاني. وصانعي العاهات والشائعات والترهات. الموتى، قال صاحبي، في الخلقة مثلنا تماما، غير أن رؤوسهم لا آذان فيها، ورغم ذلك فهم ينصتون أحيانا لكنهم لا يسمعون.