إحساس بالفزع ينتاب زائر مقبرة الشهداء بالبيضاء من جلالة الموت ومهابة المكان.. صمت رهيب بالمقبرة لايقطعه سوى صراخ بعض زوار الموتى على ذويهم، قد يعتقد الزائر أنه لا حياة في تلك المقبرة الشاسعة الأطراف، لكن بمجرد التوغل داخلها المقبرة يبدو للمرء عالم آخر.. يجمع بين الأحياء والأموات.. عالم خارج نطاق الحياة، أطفال وشباب وكبار يعيشون كالأموات لا يختلفون عنهم إلا بقلوبهم التي لا تزال تنبض، لم تسعهم الأحياء الراقية والشعبية أو حتى «الكاريانات». زحفوا نحو الأموات، استكثروا عليهم المساحات الخالية التي تحيط بقبورهم، زاحموهم واستقروا بجوارهم وأقلقوا منامهم، وإن كان الأموات في راحة عنهم. مقبرة الأموات انتشر بعض الأطفال من كلا الجنسين بجوار مجموعة من القبور، وانتشر البعض الآخر بين شواهد القبور، حملوا بين أيديهم قنينات بلاستيكية من مختلف الأحجام والأنواع والألوان المليئة بالماء، كلا منهم يسارع الخطى نحو القادمين الجدد من الزوار الذين أقبلوا في ذلك اليوم لزيارة عزيز فقدوه بسبب الموت وألسنتهم تلهث بالدعاء له وبالمغفرة والرحمة. يحاولون جاهدين أكثر من مرة التسلل بين الزوار للوصول إلى القبر قبل أن يصلوا إليه.. يطردوا المرة تلو الأخرى، ويسحبوا من ياقات قمصانهم البالية إلى الخلف، قد يتعرضون للتعنيف مرة وقد يشفق عليهم بعض الزوار فيتصدقوا عليهم. جلب الأطفال للماء ومد الزوار به، هي المهنة القديمة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء ممن يسكنون المقابر ويزاحمون الموتى العيش بجوار قبورهم، أو من يقطنون بمحاذاتها لجأوا إليها أو أجبروا على ذلك كما يقولون، كونهم لم يجدوا ما يسدون به رمق جوعهم، ولا ظمأ عطشهم. يقول أحد السكان « نحن هنا نعيش رغما عنا، لم نجد مأوى غير العيش مع الأموات ولو وجدنا مسكنا آخر لانتقلنا إليه، لكن كيف السبيل إلى ذلك، إن العيش خارج المقبرة يحتاج إلى أموال طائلة، نحن نعيش على بيع الماء وأشياء أخرى لها علاقة بالقبور، ومن هو في أحسن حال يعمل مياوما يستطيع بالكاد توفير وجبة اليوم». لا حياة لمن تنادي ولكن.. التوغل داخل المقبرة، خصوصا في اتجاه السور الخلفي المحاذي للطريق السيار، يفضي بالمرء إلى مكان خال تقريبا من الزوار، يبدو للوهلة أنه لا حياة هناك حيث السكون دائم… اتخذوا لهم مأوى، أطفال ونساء وشيوخ يعيشون كالأموات، لا يختلفون عنهم إلا بقلوبهم التي لا تزال تنبض… لم يكن ذلك المكان خيارهم، فقد أجبرتهم عليه الظروف بعد ما ضاقت بهم أرض الأحياء فلجأوا إلى أخرى. تلونت حياتهم بالسواد وامتزجت بنكهة الموت، يتظاهرون بأن الأمر أصبح طبيعيا لديهم، لكن مآسيهم وهمومهم تتحدث عن أحلامهم التي لم تتخط سور المقبرة. «إنني نقف الآن على قبور موتى ربما دفنوا هنا قبل أربعين سنة» تقول ساكنة بالمقبرة» وقد أشارت إلى قبر تهاوى بفعل الأمطار الأخيرة، قبل أن تضيف، بأنه كان يضم رفات رجل أو امرأة أو طفل فهي لم تستطع تحديد جنسه أو سنه، الشيء الوحيد التي استطاعت أن تحدده هو أن بعض رفاته خرجت إلى السطح بفعل السيول التي جرفت الأرض قبل أيام وقام بعض السكان بدفن تلك الرفات في مكان آخر.. بدم بارد، تقول «منازلنا مبنية على جزء من المقبرة ولكن ماذا سنفعل لقد اضطرتنا الظروف لكي نتعايش مع هذا الوضع، فإما السكن بالمقبرة أو البحث عن سكن آخر بعيد كل البعد عن إمكانياتنا المادية حتي ولو كان السكن الاقتصادي لذي طالما تتحدث عنه الدولة» يسكن بالروضة المنسية كما يطلق عليها قاطنوها، مجموعة العائلات، مع العلم أن عائلات تم ترحيلها في إطار إعادة السكن إلى شقق بعين السبع، كل عائلة تضم حوالي أربعة أسر.. بعضهم وجد نفسه لا مكان له إلا المقبرة المنسية بما أن والده استقر بالمكان منذ سنوات والبعض الآخر اختار أن يعيش بعيدا عن مشاكل الأحياء.. كما يقولون. البيوت مبنية من الطوب والقصدير.. أغلب غرفها لا تتجاوز المترين المربعين.. تبدو جل الغرفة منقسمة إلى قسمين بستارة من قماش، قسم يوجد فيه خزانة الملابس وسرير ينام عليه الأب والأم، والقسم الأخر يوجد فيه «مانطات» متهالكة ينام عليها للأطفال وبجوار الغرفة فرن، وبعد الأواني المهترئة. أحد سكان المقبرة يقول «منذ أن وعيت على هذه الدنيا وأنا أسكن في هذه الغرفة والآن عمري أربعة وثلاثين سنة ومازلت أعيش بها .. الشيء الجيد الذي تغير في حياتي أنني بعد أن كنت أعيش مع والدي ووالدتي وإخوتي أصبحت أعيش في هذه الغرفة مع زوجتي وأبنائي» ليضيف قائلا اعتدنا أن نعيش مع الأموات جنبا إلى جنب لا نبتعد عنهم إلا بضعة أمتار حتى أن بعض الغرف هنا مشيدة على أنقاض قبور». نفس الشيء أكدته ساكنة بالمقبرة حيث ترى أنها تنتظر اليوم الذي تجد نفسها فيه خارج مقبرة الأموات، فمن الغير المنطقي حسب رأيها أن يعيش الأموات جنبا إلى جنب مع الأموات وأنها في بداية عهدها بالسكن في المقبرة كانت تعرف الكوابس، ولكت هذه الكوابس اختفت تدريجيا بعد أن ألفت المكان وألفتها الأموات كما تقول تهكما على الوضع. طفولة مغتصبة اعتاد هؤلاء الأطفال المكان، حتى أصبحوا جزءا منه، تربوا على مشاهد الحفر ودفن جثث الموتى، فباتت الزيارة اليومية للقبور، والدعاء للأموات هواية بالنسبة للكثيرين منهم، وأضحى المشهد بالنسبة لهم عاديا ترسخ في ذاكرتهم، إلا أن هذا كله لا يؤثر في لهوهم ولعبهم بل يزيد من خيالهم لابتكار ألعاب أخرى كل مرة، كل شيء في حياتهم ارتبط بالموت، حتى ابتسامتهم اختفت لتحل محلها هموم عميقة أكبر من أعمارهم. أطفال تختلف أعمارهم بين السادسة والثانية عشر سمة استغلوا الجو الصافي في ذلك اليوم لكي يلعبوا مباراة في كرة القدم اختاروا مكانا فسيحا نسبيا بين مجموعة من القبور واختاروا قبرين كعمودن للمرمى. كانوا يتقاذفون الكرة بن أرجلهم دون مبالاة كأنهم يلعبون في مكان آخر غير المقبرة. تعليقا عن هذا الوضع تقول أم أحد المشاركين في مباراة كرة القدم، «قد يبدو لعب الأطفال بين القبور أمرا غريبا، لكن هو أمر طبيعي بل أراه عاد جدا افالتعود على العيش في هذا المكان هو الذي أزال الهلع والخوف الذي يكون عند العديد من الناس عندما يتحدثون عن المقابر أو عن الأموات أو يتواجدون حتى بالمقبرة». وتضيف قائلة «نمنع أبناءنا من الخروج من بوابة المقبرة بونحثهم على البقاء داخلها باستمرار وعدم تركها إلا للذهاب إلى المدرسة، فالعيش بين الأموات أفضل بكثير من العيش بين الأحياء». لكن إذا كانت هذه الأم تفضل أن يقضي أبناءها وقتهم الثالث بين الأوات أفضل من قضائه بين الأحياء، فإن أما أخرى كانت تعتبر أن طفولة أبناءها اغتصبت من بين أيديهم وهو يضطرون كل صباح أن يستيقظوا على منظر القبور المنتشرة هنا وهناك، هذا ناهيك على عدم إيجاد أي مكان آخر غير القبور للعب واللهو على غرار جميع الأطفال في سنهم. مقبرة للهو والمرح زيارة بسيطة إلي هذه المقبرة تؤكد على أن هذه المنطقة تعرف إقبالا لمنحرفين .. شباب يتأبطون قنينات خمر في واضحة النهار.. يتسللون تباعا إلى داخل المقبرة.. جلسات خمر ومخدرات ولقاءات عاطفية وجنس بين القبور.. شباب من الجنسين يقصدون هذه الأماكن الشبه منعزلة ليسرقوا لحظات المتعة وسط الحشائش والأعشاب المتنامية مستغلين ضعف الحراسة من جهة وشساعة المنطقة من جهة ثانية.. هؤلاء لا يقلقون راحة الأموات فحسب، بل يقلقون راحتنا كذلك «تقول ساكنة بالمقبرة، المشاهد المخلة بالحياء وتناول المخدرات والسرقة وسط المقابر، يجعلنا نشعر بالحرج ونخاف على أبنائنا منهم، فأبناؤنا معرضون للخطف وبالتالي للاعتداء الجنسي من طرف هؤلاء، لذلك نأمرهم بعدم التوغل داخل المقبرة». نفس الشيء أكدته امرأة بالمقبرة مشيرة إلى أن هناك عمليات اعتداء عديدة تعرض لها بعض المارة من طرف هؤلاء المنحرفين الذين يجدون من المقبرة مكانا مناسبا للاختباء به، فهم يخرجون ليعتدوا علي المرة «الكريساج» وبعد ذلك يعودون من حيث خرجوا. لم يختلف حديث ساكن عجوز عند حديث من سبقوه من سكان المقبرة، بالقول «إنني وجدت نفسي وعائلتي مجبرين على ما نحن عليه اليوم، فليس لنا خيار فنحن نعيش مع المنحرفين كما نعيش مع الموتى. فالمكان يفتقر للكثير من الخدمات ومقومات الحياة الأساسية، ف نحن نقضي حاجتنا الخاصة إما في الأكياس البلاستيكية أو بجانب القبور. قد عشت مع عائلتي هنا منذ سنوات طويلة حتى قبل أن تكتظ المقبرة، سواء بالموتى أو الأحياء… مع زيادة أعداد الموتى والشهداء وجدنا أنفسنا وسط ازدحام القبور لا نعرف هل نحن في ضيافتهم أم هم الذين في ضيافتنا؟!» طفل لم يتجاوز عمره بعد عشر سنوات يقول «أكثر ما بضايقني ويجعلني أشعر بالخجل هو أن يسألني أحد زملائي في المدرسة عن عنوان سكني، وأنا أزور أصدقائي وزملائي في منازلهم، حتى لا أضطر إلى دعوتهم لزيارتي في بيت أهلي وسط القبور».