يتعين علينا أن نحدد ماهية السلطة في المجتمعات التيولوجية، ونبحث عن أثر الحقيقة التي تنتجها، وتحفر من خلالها في الجسد الاجتماعي. ومن البديهي أن السلطة تخترق الحقيقة، كما أن الحقيقة لا تستقر ألا حين تتأهب للرحيل، من قارة العدالة، إلى قارة الحرية، والمساواة، وبالجملة إن ظاهريات الحقيقة لا تحقق كمالها إلا بواسطة السلطة المعرفية، أو السلطة السياسية، ولذلك يتساءل الفيلسوف قائلا، كيف تعمل الحقيقة؟ وكيف أن خطاب الحقيقة المتميز يمكن أن يبرهن على حقوق السلطة؟ بل أكثر من هذا كيف تنتج السلطة خطاب الحقيقة؟. بما أن الحقيقة توجد بالقوة في الجسم الاجتماعي الذي يتكون من أفراد لا يوحدهم سوى العقد الاجتماعي، فإن السلطة هي المحرك الأول لهذه القوة لكي تخرج إلى الفعل، وبذلك تتحقق ماهيتها في أرواح الأفراد، هكذا تجدهم حسب مشيئتها، فالسلطة لا تحكم بالعنف فقط ن بل بتوزيع الحقيقة عبر وسائلها: علاقة السلطة بالمجتمع متعددة ومخترقة ومميزة ومكونة للجسد الاجتماعي، ولا يمكن فصلها أو إقامتها أو توظيفها من دون إنتاج ومراكمة وتوزيع وتشغيل أو توظيف لخطاب الحقيقة . وبعبارة أوضح، لا يمكن للسلطة أن تعمم خطاب الحقيقة الذي تبدعه بدون أن تخترق الجسم الاجتماعي بأدوات المعرف، ولذلك نجدها تدعم وتشجع البحث كما تراها، سواء في القانون، أو طريقة الحكم، وخطاب السلطة، فهي تتدخل بواسطة المؤسسات الدينية، والتربوية، والعلاجية، والمالية، والأمنية، ولعل هذا الأسطول من المؤسسات هو ما يعجل بانتشار الحقيقة المرسومة بألوان السلطة. بإمكان النقد الثقافي أن يبعث على المفاجأة، عندما يقوم بقلب خطاب الحقيقة كما تتركه اثر السلطة في المجتمع، ولعل هذا القلب قد يؤدي إلي تفكيك أوهام السلطة، من خلال خطابها الاديولوجي، باعتباره وعياً مغلوطاً بلغة ماركس. لان السلطة تؤدلج المجتمع من أجل التحكم في تناقضاته: فالحياة الاجتماعية ليست سوى صراع بين قيمة الاستعمال وقيمة التبادل، قوى الإنتاج ضد علاقات الإنتاج الاجتماعية . ثمة علاقة جدلية بين السلطة السياسية والسلطة الرأسمالية، ولذلك فإن تبادل الأدوار والظهور على خشبة المسرح بمظهر تراجيدي: يستند على الاستغلال، لأن الرأسماليين {وهم أيضا رجال سلطة عندنا} يؤدون أجرة العمل المنتج بأقل ثمن يكون ضرورياً لإعادة إنتاج قوة العمل، من أجل بقاء العامل على قيد الحياة، وهو ما يأسرنا داخل منطق اقتصادي شرس . ذلك أن الاستبداد الاقتصادي لا يختلف عن الاستبداد السياسي، لأنهما معاً مجرد استلاب لحرية الإنسان، الذي يظل عبداً تابعاً للسيد. فما العمل؟، هل بإمكان الوعي التاريخي أن يؤدي بأفراد الشعب إلى لحظة التراكم في الوعي بالذات؟، وهل يقود هذا التراكم إلى الثورات على الاستبداد السياسي والاقتصادي؟. لابد من وضع المجتمع بجوار الانكشاف، لأنه بطلوع شمس الحقيقة ينهار الاستبداد، لأنه في ماهيته هش، يتأسس على الخداع والكذب، ولذلك فإن التطور التاريخي يكشف عن التناقض بين السلطة والحقيقة، ولكن ذلك يحتاج إلى نخبة مثقفة وثورية تقوم بهدم أصنام السياسة والأخلاق، لأنه من العبث أن لا يتطور المجتمع ويبقى خارج جدل التاريخ والعقل، ذلك أن الوعي ينفلت كالزمان، ولا يستقر إلا في الحرية، باعتباره تحريراً للطبيعة. مهما طال الزمان أو قصر، فالإنسانية تحقق وجودها في الحرية، وبخاصة وأن الأنا التي تفكر هي ذاتها التي تقوم ببناء حقيقة الوجود، وذلك من أجل السكن لا من أجل الهدم، لأنه إذا كان الاستبداد يخدم الوجود، فإن الحرية تشيده بالمعاناة والألم، بيد أن تأخر الوعي التاريخي ساهم في ترويج خطاب السلطة وحوله إلى قناعات أخلاقية وإلى قواعد لتنظيم الحياة الجماعية، وتحولت السلطة إلى معابد تعبد في واضحة النهار، مما أحدث ثقوباً في كينونة المجتمع، الذي أضحى يحتج على الزيادة في ثمن الخبز، ومعنى ذلك أنه يسلم بأبدية الاستبداد. من أجل إبداع أجساد الطاعة والخضوع للهيمنة السياسية، وبقدر ما أن الثنائية بين السلطة والحقيقة مأساوية، بقدر ما أن الإنسان شقي، لأنه ممزق بين رغبته في الحرية والكرامة، وبين خضوعه للسلطة المقدسة، ولذلك فإن الفلسفة تضعه أمام ضرورة الاختيار، إما التحرر والكرامة، وإما الاستسلام إلى النزعة المدمرة للإنسانية، وبما أن الرغبة في العبودية، لا يمكن تفسيرها في غياب أركيولوجيا الجهل وفقدان ذاكرة الوعي التاريخي، فان الإنسان العربي قد اختار الاستسلام للاستبداد السياسي والديني، وفرض إقامة إجبارية على الفكر التحرري وأضحى ينظر إليه بعين الحقد والكراهية. أنا واثق بان هذا الظلام الذي يسود من المحيط إلى الخليج، لا يمكن تفتيته بثورة الفكر التنويري، لان خطاب الحقيقة الذي تروجه السلطة أصبح يسكن في المخيال الجماعي، الذي تحول وعيه إلى رخام يتحرك ظله تحت بركة ماء، يتوهم من يراها بأنها الحقيقة، ويعتقد في صحتها ويمر التاريخ أمامه، ولا يلتفت إليه، لأنه أعمى بأوهام السلطة، ولعل هذه الهيمنة الطويلة تحولت إلى طقوس خرافية تحيل على مجتمع وسطوي، يقوم على الأعراف أكثر من القوانين، ولذلك فإن الدول العربية لازالت تصارع من أجل صياغة دستور حديث، يلبي رغبة البنك الدولي، والمؤسسات المالية والسياسية، ويقوم بقمع المجتمع المدني، بالأخلاق والدين، فل الشعوب العربية الحق في الحرية في الدستور، والحق في الاستبداد في المجتمع، إنه نظام سياسي مستحيل، يدير ظهره للعقلانية السياسية . والحال أن كل إرادة تبتعد عن إرادة الحقيقة، فهي إرادة مخدوعة، أو بالأحرى وعي مغلوط: ليس الوعي أبداً وعياً للذات، بل هو وعي للأنا بمواجهة ذات فاعلة غير واعية. إنها ليست وعياً للسيد، بل وعياً للعبد إزاء سيد ليس مفروضاً أن يكون لا واعياً .