المبحث الأول: الجسد من المنظور الفلسفي: 1¬1. في الفلسفة اليونانية: لا يمكن تعريف فلسفة الجسد ببساطة، فهي حمل ثقيل على امتداد التاريخ الطويل، فقد بحث الإنسان بشكل دائم عن أسرار هذا الجسد سواء الذي يمتلكه، أو كل جسد آخر يحيط به. لقد تباينت آراء الفلاسفة الرواد في اليونان القديمة حول طبيعة العلاقة بين النفس والجسد، فأفلاطون في محاورته لفايدروس حول مسألة فحص النفس في معرض مناقشة عشق الجمال من خلال عشق الجميل، يؤكد أن النفس غير فانية وذلك لأنها ذاتية الحركة، ويرى أن كل جسم يستقبل الحركة من الخارج، خال من وجود النفس، وكل ما يتحرك بذاته هو مصدر حركة كل متحرك آخر ومبدأه، وبالتالي فإن النفس لا تخضع للكون ولا للفساد، ولتقريبنا من جوهر النفس اقترح أفلاطون تشبيهها بالفارس والعربة التي يجرها حصانان مجنحان، وبما أن الفارس والحصانين من طبيعة خيرة في نفوس الآلهة فإن قيادة العربة سهلة، ولكن قيادتها شاقة في نفوس البشر إذا كان أحد الحصانين شريرا وإن كان الآخر خيرا ولذلك تتعرض نفوس بشرية كثيرة للنكوص من وجودها السماوي الأصلي إلى الأرض، ويستطرد أفلاطون بأن النفس تنزل إلى الأرض وتحل بالأجسام بعدما فقدت ريشها وعجزت عن إدراك المثل. تزرع النفس أولا داخل جسد بشري وليس داخل جسد حيواني بناء على تسع فئات من الأشكال البشرية على قدر تفاوتها في إدراك المثل: نجد على رأس اللائحة الفلاسفة الذين يسهرون على خدمة آلهة الفن والعلم، ثم يأتي بعدهم الملوك المخلصون للقانون، ثم رجال الدولة والأطباء والمنجمون والشعراء والحرفيون والسفسطائيون، ثم يأتي المستبدون في أسفل القائمة. وتهدف النفس في تواجدها بالأرض إلى استعادة ريشها للصعود إلى السماء. وتمثل محاورة فيدون الأفلاطونية بيانا نظريا يؤسس لمشروعية إقصاء الجسد من فعل التفلسف ما دامت الفلسفة كما يقدمها أفلاطون على لسان سقراط تخليا عن إرادة الحياة وإقبالا على الموت وتوقا دائما إلى الانعتاق من سجن الجسد قصد الالتحاق بعالم روحاني خالص. وتعتبر ثنائية "الروح والجسد" قطبي رحى النظرية الأفلاطونية ككل واللحمة الداخلية التي تصل بين الثنائيات المتفرعة عنها. فالروح أو النفس تعود إلى عالم المثل بعد أن تغادر الجسد عند الموت، إنها مصدر الانفعالات والفكر والوعي" يستدل على وجودها بتذكر المثل وتعقل المجردات، وتدبر البدن وضبط تصرفاته"([1]) أما الجسد فهو عتمة تقابل نورها. وبما أن الجسد عاجز عن بلوغ أمهات الفضائل التي يطلبها الفيلسوف فان روحه "تحتقر الجسد أعظم احتقار، تهرب منه وتبحث عن الانعزال عنه"([2]) فما هو هدف الفيلسوف؟ وماهي غاية الفلسفة؟ يجيب سقراط محاوريه بأن الاهتمام بالفلسفة ليس شيئا آخر سوى البحث عن الموت والحياة وما بعدها، وسيكون من العبث على الفيلسوف الذي قضى حياته وهو يميل إلى التجرد عن انفعالات الجسد وشهواته، ويتمرن على تجنبها واعتزالها أن يتوانى عن اختياره هذا لحظة الوفاة باعتبارها طريقا موجزا سيمكن روحة من الانفصال النهائي عن الجسد لإدراك الجواهر في ذاتها وصفائها بعيدا عن تشويش الحواس وخداعها، فما الموت إلا حياة مؤجلة لا تعدو أن تكون مجرد انفصال الروح عن الجسد. والحياة هي موت بالقوة يمارسه الفيلسوف بإهماله التام لكل ما يتطلبه الجسد من ملذات وعناية بالمأكل والمشرب والملبس والجري الحثيث وراء المتع، بوحي من رغباته اللامحدودة في تجميع القوى والثروات. ويصب في المقابل اهتمامه على إبعاد الروح من اقتصاد الجسد هذا وتحضيرها بالانكفاء إلى ذاتها لاكتناه ماهية الموجودات في العالم السفلي حتى تكون قمينة بمعانقتها في العالم العلوي حيث السعادة الكبرى. يبرر سقراط هذه التراتبية بين الروح والجسد بتحديده لطبيعة العلاقة بينهما: "فالروح سيد يأمر، لأنها جوهر إلهي غير قابل للتحلل والفساد، والجسد عبد مطيع ومرصود للفناء"([3])، يقول سقراط: "الروح التي تحل في الجسد وتجلب له الحياة لا يمكن أن تحصل على نقيض صنيعها، الذي هو الموت"([4]). إن المحاورة التي أجراها أفلاطون وفيدون لم تبتدئ منذ أول وهلة بمناقشة خلود النفس بل بالأطروحة التي تفيد بكون الفيلسوف الواعي بأن الحياة الدنيا مجرد عبث، يضع كل أحلامه في الموت ما دامت النفس حبيسة بؤس الجسد ولا تستطيع الوصول إلى معرفة الحقيقة، وهذا ما يتضح من خلال كلام أفلاطون "إذا لم يكن في الإمكان التعرف على شيء بصورة واضحة فلن يحدث آنذاك إلا أحد أمرين: إما ألا نصل أبدا إلى المعرفة، وإما إلا نصل إليها إلا بعد الموت"([5]) أما أرسطو فقد تعرض لتنائية النفس والجسد على نحو يبرز من خلاله صلة النفس بالجسد تماثل صلة الحاكم بالمحكوم، وصلة السيد بالمسود "نشهد من جهة أولى، داخل النفس ذاتها وجود العقل، والوظيفة الطبيعية للعقل بداخلنا هي القيادة والحكم، ونشهد بداخلها من جهة ثانية، وجود مايحتكم إلى العقل، وما هو مهيأ بحكم طبيعته لأن يصبح مأمورا([6]). لم يفاضل أرسطو بين طرفي ثنائية الروح والجسد بل اعتبرهما مكونين جوهريين للإنسان، لا يمكن لوجوده أن يتحقق ولماهيته أن تكتمل إلا بهما معا. وقد رد على الزعم الأفلاطوني بقوله: "يحسن تجنب القول أن النفس تتعلم أو تفكر، بل قل إن الإنسان هو الذي يفعل ذلك بفضل ما به من نفس"([7]). وهذه النفس ليست إلا صورة للجسد وأداة لوظائفه بما أنها جملة من القدرات والاستعدادات مثل الإدراك الحي والتخيل والتفكير. وقد صنف أرسطو ثنائية الجسد والروح في إطار زوج أنطولوجي: الهيولاي والصورة، لا يمكن الفصل بينهما ولا استقلال لأحدهما على الأخر. وهما معا وجهان لعملة واحدة غير قابلة للانشطار أو التجزيء. فلا سبق إذن للروح ولا تأخر للجسد بما أن الهيولاي والصورة متلازمتان في الكينونة، وبالتالي في القدم. عموما، إذا كان أرسطو قد وجه نقده للفلسفة الأفلاطونية باحتشام وبهدف لايتعدى تفسير الغامض وتصحيح المغلوط وتعديله في مواطن محدودة داخل النسق الفلسفي الأفلاطوني، فإن مذاهب فلسفية أخرى ذات اتجاه أخلاقي نفعي رفضت الطرح الأفلاطوني رفضا كليا جملة وتفصيلا (كالقورينائية والأبيقورية...). يعد "مبدأ اللذة" عند هذه المذاهب "معيارا للتقويم الأخلاقي وغاية للسلوك الإنساني"([8]) فالخير الذي اعتبره أفلاطون قمة المثل وخالق الكون، تم حصره في الإحساسات اللذيذة فقط. يصرح أبيقور "إنني لا أستطيع أن أتصور الخير إذا غضضت النظر عن لذات الذوق، ولذات الحب، ولذات السمع، وتلك الناجمة عن الصور الجميلة المدركة بالعيون، وبالجملة عن كل اللذات التي يحصل عليها الناس بواسطة الحواس، وليس صحيحا أن سرور العقل هو وحدة الخير، ذلك لأن العقل يسر برجاء اللذات الحسية التي بالتمتع بها يمكن للطبيعة أن تتحرر من الألم"([9]). في سياق هذا الفهم البرغماتي، لقيمتي الخير والشر والذي تغدو فيه الفضيلة أفقا لا سبيل لتحقيقها إلا بقبول اللذة. يدعو رواد هذه المذاهب ¬على اختلافهم¬ إلى أن المحسوسات هي غرض المعرفة وإن الإدراك الحسي هو وسيلتها الوحيدة. كما يعتقدون أن الحياة هي "الجذر الكامن وراء كل معرفة ومقياس حقيقتها"([10]) لأن الحقيقة ليست جوهرا مطلقا ولا هبة من السماء، كما يتصورها التفكير النظري المجرد (أفلاطون)، وإنما هي فعالية مرتبطة بحاجيات الحياة، وبمدى خدمتها لمطالب الإنسان المتجددة، مما يجعلها نسبية. بناء على هذا الرأي، تسترجع الفلسفة محتواها الواقعي وغايتها العلمية، وتعلن مصالحتها مع الجسد، مجال تحصيل اللذات والمتع. "فالحاضر وحده لنا، لا اللحظة الماضية ولا تلك التي نرقبها، لأن الأولى زالت، والثانية لا ندري ماذا ستكون"([11]). فلا مبرر إذن لإماتة الجسد ما دامت السعادة لصيقة قيم أرضية تعمل على تجنيب الإنسان الألم وتحفزه على حب الحياة. مما سبق، نخلص إلى أن أطروحات تلك المذاهب حول الوجود والمعرفة والقيم، لم تكن غريبة عن معتقدات المجتمع الإغريقي. ولا نشازا في طقوسه التي كان الفرد يمارسها وفق نظام أخلاقي متعال عن آلية المسموح والممنوع، والأوامر والنواهي، وفي ظل أسلوب حياة غير ملزم، قابل للتغيير والتقويم المستمر عند كل مرة يتم تحيينه فيها بواسطة السلوك الفردي، الذي يفرز بدوره تقنيات لاستعمال اللذات وممارسة المتع بناء على اختيارات إرادية واعية. وقد عبر عن ذلك أرسطيفوس القورينائي قائلا: "ذهبت إلى سقراط لأتعلم، والى ديونيزوس لاستمتع"([12]) فلا تعارض إذن بين العلم والمتعة،بين المعرفة والجسد، ولكن بينهما تظافر. صاغه اليونان في شكل نمط حياتي محكوم بمعايير جمالية ومطبوع بمسحة إبداعية، يمكن تلمسها في شعائر ديونيزوس الاحتفالية، وازدهار الفنون التصويرية التي اتخذت من الجسد والجمال في نصب خالدة ووعي في إنجازها مطابقتها للمتخيل الموجود بين الأخلاقي والجمالي، ويحول الشحنة الوجدانية والصفاء الروحي إلى ملامح مورفلوجية متناسقة تحاكي نموذجا أصليا للجسد المثالي"([13]). مما لا شك فيه، إن هيمنة الخاصية البصرية على الحضارة الإغريقية، دليل يؤكد إيثارها التعبير الأيقوني على الرمزية اللغوية المجردة للكشف عن خيارات المجتمع الثقافية وتناقضاته واستيهاماته ونشاطه الاقتصادي والديني، ولتدوين تاريخه المجيد وانكساراته المأساوية، وبالتالي كل فعالياته التي تضمنتها رسوم الفنانين ومنحوتاتهم([14]). 1¬2. في الفلسفة الحديثة: غير أن طفرة حقيقية تحققت مع الانتقال من الفلسفة الإغريقية المشائية إلى الفلسفة الحديثة. فكيف نظر الفلاسفة المحدثون إلى ثنائية الروح والجسد؟ يقول ديكارت في كتابه التأملات "سأعتبر نفسي أولا أن لدي وجها ويدين وذراعين، وكل هذه الآلة المؤلفة من عظم ولحم، كما تبدو في جثة أعطيها اسم الجسد... سأعتبر علاوة على ذلك أنني أتغذى، وأمشي، وأحس، وأفكر وأحيل كل هذه الأعمال إلى الروح"([15]). لقد أصبحت كل الوقائع حسب ديكارت خاضعة لفهم عقلاني ولمتطلبات الممكن، وذلك لأن غير الممكن لا يمكن أن يولد إلا العدم، فليس هناك من سر لا يمكن للعقل أن يصل إلى نهايته، ولهذا يطرح ديكارت نفسه كفرد، فهو ينتمي إلى عصر بدأ فيه الفرد يصير بنية مهمة في المجتمع وليس في مجموعة، وإنما في أهدابه الأكثر نشاطا. فقد استطاع ديكارت أن يلفظ بطريقة رسمية الصيغ التي تميز الإنسان عن جسده: بمعنى من المعاني فصل الروح (النفس) عن الجسد، أي جعل الجسد حقيقة مستقلة، وعملية الفصل هاته لم تعد قائمة على أرضية دينية، بل أصبحت مظهرا اجتماعيا. إن البعد الجسدي للشخص يتلقى بكل عبء خيبة أمل اللاقيمة، في حين بقيت الروح تحث وصاية الله، لقد أتقل الإنسان بجسد تضرر من النظر إليه كآلة من عدم كونه قابلا للتشغيل بشكل كاف ودقيق في إدراكه الحسي لمعطيات البيئة. إن العقلاني ليس فئة من فئات الروح وإنما هو إحدى الفئات الممكنة للروح. ومن هنا تكمن صفته الأكثر بروزا، ربما أن الجسد ليس أداة للعقل فانه مهيأ للاحتقار، ولأجل ذلك جعل ديكارت الفكر مستقلا تماما عنه. لقد أعادت الفلسفة الميكانيكية بناء العالم انطلاقا من فئته المفكرة وهي تفصل العالم المسكون من قبل الإنسان، والذي يمكن لشهادة الحواس أن تبلغه، والعالم الحقيقي الذي لا يمكن بلوغه إلا من قبل العقل فقط، وكما أقام باسكال ثلاث مراتب للحقيقة وفقا لزاوية الاقتراب من الظاهرة: الحواس، أو العقل أو الإيمان. فإن ديكارت أعان إدراك حقيقة الأشياء من زاوية الحياة اليومية وإدراك آخر لها من زاوية العقل: "إنه فقط باستخدام الحياة والمحادثات العادية وبالامتناع عن التأمل وعن دراسة الأشياء التي تمارس الخيال، نتعلم كيف ندرك اتحاد الروح والجسد([16]) لكن الفلسفة لا تفهم إلا وهي منفصلة جذريا عن الجسد، ويعطي ديكارت هذه الصيغة الساطعة "سأغلق الآن عيوني، وأسد أدني، وأحول كل حواسي، وسأحمي حتى فكري من كل صور الأشياء الجسدية أو على الأقل، ولأن هذا يمكن بالكاد أن يحصل، فإني سأعتبر ها باطلة أو خاطئة"([17]). إن هذه القولة تضفي صفة شرعية على التمييز الجاري بين الإنسان وجسده. بالرغم من مقاومة الرومانسيين والتحليل النفسي والظاهراتية، فالإتقان التقني يعمق هذا التباعد، لقد أعطى سبينوزا صيغة مضيئة للمعرفة الجديدة فهو يرى أنه ليس بعيون الجسد يجب حل رموز أسرار الطبيعة، وإنما "بعين الروح" وهذه الصورة هي نفسها عند ديكارت. فسبينوزا يرى أن عيون الإنسان ترى الشمس قريبة جدا، في حين أن شمس العلم تخبرنا أنها توجد على مسافة تبلغ أكثر من ستمائة مرة قطر الكرة الأرضية، لقد أصبح الجسد فائضا بتعبير لوبروتون . إن سبينوزا يقر أن الانفعال هو انفعال الروح والجسد معا والفعل كذلك فعلهما معا، ومعنى هذا أن هذا الفيلسوف أضفى على الجسد والروح نفس القيمة الأنطولوجية والأخلاقية وانتقد الموقف الديكارتي الذي كرس التصور الماورائي عن علاقة النفس بالجسد. ويمكن القول إن سبينوزا كشف التوجه الديكارتي الذي يفصل"أنا أفكر"عن الجسد فصلا تاما في التأملات حتى أننا لا نسترجع طبيعتنا وجسدنا إلا في التأمل السادس والأخير. تلك هي النزعة الميتافيزيقية التي دعمها ديكارت أما الفلسفة المحايثة التي فتح لها سبينوزا فضاء فسيحا فهي تضع الجسد والنفس في مرتبة أنطولوجية واحدة. ولذا نجدها تتخلل الفكر المعاصر الذي يسعى إلى مصالحة الإنسان مع جسده، بعيدا عن الموقف الماورائي المتعالي الذي يتضمن في نهاية المطاف تطورا أخلاقيا عن الكينونة. نيتشه: خلخلة المنظور المثالي للجسد: يقول نيتشه" إنني أرى جسد لا غير، وما الروح إلا كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد"([18]) لقد قام نيتشه بثورة عارمة على عدمية الفكر الغربي الكلاسيكي، عبر تجلياته العقائدية والأخلاقية والفلسفية وانتهى بعد تحليله لمكوناتها واكتشافه لغاياتها إلى أن انتساب هذه المنظومة إلى العقلانية ليس سوى ادعاء انبنى تدريجيا على أنقاض الغريزة والشبق وإرادة الحياة. وتأتي هذه الحملة النقدية كرد فعل مضاد على المؤامرة التي تهدف إلى اقتلاع الحياة من جذورها الأرضية"([19]) وتحويل المعرفة عن وظيفتها العملية ووسائلها الحسية. هذا الموقف، يبين بأن فلسفة نيتشه حول الجسد تقابل جذريا طروحات الثقافة الإغريقية قبل الأرسطية التي آمنت بالعقل إيمانا وثنيا واستحضرت الوعي كشيء أكبر بينما استخفت بالجسد ولم تعره أي اهتمام ولم تمنح نفسها فرصة لاكتشاف أسراره. وظل منظورها قائما على الفصل والتجزؤ والإقصاء بقول نيتشه في كتابه العلم المرح "لا نستطيع نحن، الفلاسفة الآخرين فصل الروح والجسد، كما يفعله العامي، ينبغي لنا دوما تأليف أفكارنا من عمق معاناتنا، وتدبير أمرها بحنان بكل ما فينا من دم، من شفقة، من رغبة، من هوى، من قلق كبير، من وعي، من قدر"([20]). فإذا كانت الحقيقة الإنسانية كامنة في جوهر تدفقات قوى الجسد اللاواعية، فإن مراقبتها من طرف الوعي الذي تهيمن المنظومات الاجتماعية ذات الصلة بالدين والأخلاق والسياسة والعادات والتقاليد، ستبقى عاجزة عن تطويق الانسياب التلقائي للجسد بكيفية محكمة. الشيء الذي يجعل الجسد متحفزا على الدوام لكسر عقال الوعي والانعتاق من قيوده، بشكل أو بآخر تحديا لعبوديته له. وهكذا، لم يعد الجسد يقوم على خدمة الأنا، بل أصبح يرى بعيون الحس ويسمع بآذان العقل، بعد ما كانت الهوية مرتبطة بوحدة الوعي بالذات وسيادة النفس على البدن، أصبح الجسد هو الذي "يواجه ويرد ويغزو ويدمر، بل أصبح سيد الأنا"([21]) كما جاء على لسان نيتشه.
المبحث الثاني: الجسد من المنظور السوسيولوجي: تعتبر سوسيولوجيا الجسد فرعا حديثا من فروع علم الاجتماع، إذ أن الجسد لم يكن موضوع معرفة سوسيولوجية يتمتع بمكانة الموضوع المحوري الأساسي بل كان حضوره لا يتجاوز مستوى الحضور الافتراضي أو مجرد محور صغير ضمن محاور كبرى. أو كما قال جون ميشيل برتلو: "مادة سوسيولوجية ذات خسوفات"([22]). وهذا لايعني غياب الاهتمام المعرفي بالجسد قبل هذا التاريخ، بل بالإمكان رصد البدايات الأولى لهذا الاهتمام مع بدايات العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر الذي كان حسب ميشيل برتلو "قرن الاهتمام بجسد العمال، وما يعيشونه في ظل ظروف العمل القاسية، من استنزاف مبكر وأعطاب وتشوهات([23]). فقد افتقرت الاهتمامات السابقة في أوربا إبان النهضة إلى دراسة جسد العمال ورصد معاناتهم في المناجم والمصانع كما نجد في دراسة فيليرمي في بحثه القيم عن الحالة الجسدية والنفسية المزرية للعمال المشتغلين في معامل القطن والصوف والحرير. وبناء على هذا الاهتمام المتزايد بالجسد العمالي سيتم الاهتمام بالانعكاسات السلبية للتصنيع على الصحة وخصوصا مع تغير نمط عيش السكان نتيجة انتقالهم من الأرياف إلى المدن وما رافق ذلك من تكدس العمال بالقرب من المعامل في سكن غير لائق. ومع ظهور مدرسة "التحليل النفسي" بدأ الحديث عن لغة الجسد حيث أصبح الجسد لغة تعكس بشكل غير مباشر العلاقات الفردية والاجتماعية كما تعكس الاحتياجات والرغبات ولو بطريقة رمزية. ورغم أن رائد مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد لم يكن متخصصا في علم الاجتماع فقد أدخل الاهتمام بالجسد كمادة تصنعها وتنتجها العلاقات الاجتماعية، ويساهم في تشكيلها التاريخ الفردي للفاعل الاجتماعي"([24]) وعليه يصبح الجسد موضوعا للمفكر فيه. 2¬1. ميشيل فوكو: تدبير السلطة للجسد: ومع بداية القرن العشرين ستتبلور"سوسيولوجيا متقطعة حسب تعبير دافيد لوبروتون وذلك من خلال دراسات انطلقت من فرضية أساسية مفادها أن الإنسان يصنع وينتج اجتماعيا خصائص جسده، من خلال اندماجه مع الآخرين، وانخراطه في مجال الرمزي. وقد بين لوبروتون أنه منذ الستينات من القرن المنصرم انطلق مخيال جديد للجسد واقتحم ميادين الممارسة وحضر في الخطب وهذا لم يكن معهودا إلى ذلك الحين بعد فترة من القمع والتكتم يفرض الجسد كموضوع مفصل للخطاب السوسيولوجي ومكان هندسي لإعادة غزو الذات. تلك الأرض التي علينا ارتيادها حيث يمكن رصد الأحاسيس التي لا تحصى ومكان المجابهة المرغوب فيها مع المحيط بفضل الجهد أو البراعة. إنه المجال الذي فيه تتجلى الرفاهية وحسن المظهر من خلال بناء الجسد عن طريق أنشطة كالتجميل والحمية والرياضة... لقد استخدم ميشيل فوكو الجسد كاشفا ثمينا لتحليل آليات السلطة في المجتمعات الغربية المعاصرة ويرى فوكو أن الجسد يعتبر أحد أهم الوسائط التي تم استخدامها لممارسة وتمرير سلطة مغلفة، رقابة سياسية مهذبة. ولعل التواطؤ بين إرادتي القوة(السلطة) والمعرفة (الخطاب) كان مرصودا لخلق تكنولوجيا تحول الجسد إلى طاقة إنتاج وتعدم كل إمكانياته ومؤهلاته التي من شأنها عرقلة أهداف النظام السياسي. وقد بين فوكو أن حرص مؤسسة السلطة على امتلاك جسد الآخرين تطور في شكلين أساسين لممارسة السلطة والرقابة على الجسد يعبر عنهما فوكو بمفهومين مركزيين هما: التشريح السياسي للجسد والبيولوجيا السياسية للسكان. يكمن دور المفهوم الأول في العمل على تدجين الجسد وترويضه. ومن هنا تتضح نوايا السلطة السياسية إذ أن وعي المجتمع الرأسمالي بضرورة الاصغاءلنبض الغرائز وتخليصها من قبضة الأعراف البالية فرض عليها وعيا مضادا بخطورة الجسد في عفويته الجارفة ورغباته اللامحدودة. وهذا يستوجب سن قوانين تعمل على تدبير تلك العفوية والحد من الرغبات وكبحها، قصد إنهاك قوته وتنمية نفعه ودمجه في أنساق رقابة ناجعة سياسية واقتصادية. أما الشكل الثاني فقد انتبه إلى الجسد كمرتكز لعمليات بيولوجية وعبر عن نفسه في الاهتمام بتنظيم السكان، من خلال عدد الولادات والوفيات ومستوي الصحة ومعدل الأعمار، كل هذا عن طريق رقابة سياسية يَسِمُهَا فوكو ب"السياسة البيولوجية للسكان (bio politique de la population). وهكذا تغيرت تقنية السلطة في نظرتها لطبيعة التعامل مع الجسد فلم يعد القتل هو أهم وظائفها كما كان من قبل بل أصبح الأهم هو الجسد، إدارته وتدبيره، ويعتبر فوكو أن السلطة على الجسد كانت من أهم العناصر لنمو الرأسمالية. نمو لم يكن ليتحقق لولا الدمج المضبوط والمراقب للجسد في جهاز الإنتاج، وعبر تكييف وملاءمة الظواهر السكانية مع الصيرورة الاقتصادية. ويشكل الجنس ¬حسب فوكو¬ باعتباره مظهرا من مظاهر أنشطة الجسد، رهانا سياسيا هاما يتموقع بين القطبين المذكورين سابقا"البيولوجيا السياسية "والتشريح السياسي". فهو من ناحية يرتبط بأشكال ضبط الجسد، ومن ناحية ثانية يرتبط بتنظيم السكان. والخلاصة أننا نكون أمام ما يسميه ميشيل فوكو: "سلطة متناهية في الصغر على الجسد"([25]) وفي الآن نفسه أمام تدخلات تهم الجسد الاجتماعي في كليته.
2¬2. بيير بورديو: البناء الاجتماعي للجسد: تقدم سوسيولوجية بيير بورديو نموذجا للدراسات التي ركزت على الجسد خاصة في أبحاثه الإثنوغرافية. لقد اعتبر بورديو أن البناء الذي يخضع له الجسد أصبح وكأنه بيداغوجيا ضمنية قادرة على تلقين تصور كامل على الكون: تصورات فلسفية وأخلاق وسياسة معينة وميتافيزيقا بعينها من خلال أوامر تتعلق بحركات جسدية. كما أنها قادرة على أن تطبع المبادئ الأساسية للتحكم الثقافي بعيداعن كل وعي وعن كل تفسير: جزئيات اللباس جزئيات العناية بالجسد، وقد تبدو هذه الجزئيات غير ذات معنى. إن الاستثمار الاجتماعي للجسد يجعل أشكال اشتغاله وسيلة من وسائل التعبير عن بنيات وعلاقات اجتماعية ومرآة للتقابلات الاجتماعية مثل التفاعل ما بين الذكورة والأنوثة، إذ يتجسد ذلك في شكل استعمال الجسد أو اتخاذ أوضاع من أشكال التصرفات والسلوكات مثل صفة المشي والجلوس.... وبالتالي فالبناء الاجتماعي للجسد يعكس تقسيم العمل الجنسي تقسيم العمل الاجتماعي. وباختصار شديد، إن الجسد يعتبر: ¬ مجالا تنعكس عليه التمثلات والمخيالات والقيم. ¬ رابطا للطاقة الاجتماعية، فبواسطته يتم دمج كل فرد في النسيج الجمعي. ¬ نقطة تقاطع اللحظات الثقافية ومختلف أشكال التبادل الرمزي. ¬ أداة لإنتاج استراتيجيات فردية أو جماعية تسمح بالتعبير عن حاجة أو رغبة... وبالتالي فإن الاستثمار الاجتماعي للجسد ليس في نهاية المطاف إلا تعبيرا عن "ميثولوجيا سياسية" تحولت إلى استعداد مستمر في شكل طريقة دائمة لاتخاذ أوضاع جسدية للكلام والمشي ومن ثم الإحساس والتفكير. من خلال ما سبق نكون أمام رؤية واضحة نستجلي عبرها مدى الاهتمام المتزايد للسوسيولوجيا بالجسد، وذلك ما يمنحنا مشروعية التساؤل: هل استطاعت السوسيولوجيا أن تستنطق جروح الجسد دون أن تعمقها؟ والواقع أن هذا السؤال قابل لأن يعمم على مجموع التصورات التي شددت على الجسد باعتباره موضوعا للاشتغال الفكري، وجعلته مركز اهتمام النسق الفلسفي والسوسيولوجي. بحيث لم تستطع مختلف الاتجاهات الفكرية أن تحوك خطابا أصيلا ومحايثا للفعالية الحسية إلا عندما نقلت مجال الاشتغال من "اللوغوس" إلى الوجدان، ووجهت بوصلتها صوب الممارسة الإبداعية والتجربة الجمالية، وعيا منها بأن الجسد لا يغادر حيز الصمت إلا إذا ما احتوته لغة المجاز والاستعارة والتخييل، وأفصح عن كينونته عبر مدارات الأدب.