إذا كانت فلسفة الفن تبدأ مع أفلاطون، فهي تبدأ على النقيض من ذلك، بإدانة الفنون الجميلة والشعر. لكن من السذاجة اعتبار أفلاطون شخصا غير مثقف أو بليد الذهن. فهو قد تلقى، مثل الشبان النبلاء اليونانيين، تربية تمنح للشعر مكانة بارزة. ويذكر أستاذه سقراط نفسه الصداقة الموقرة التي يكنها للشاعر هوميروس1. ثم أليست المحاورات نفسها آثارا فنية؟ ورغم ذلك ينفي الشعراء ويرفض الخطب المكتوبة واللوحات الصماء. وحده الفن المصري حظي برعايته. إذا كانت فلسفة الفن تبدأ مع أفلاطون، فهي تبدأ على النقيض من ذلك، بإدانة الفنون الجميلة والشعر. لكن من السذاجة اعتبار أفلاطون شخصا غير مثقف أو بليد الذهن. فهو قد تلقى، مثل الشبان النبلاء اليونانيين، تربية تمنح للشعر مكانة بارزة. ويذكر أستاذه سقراط نفسه الصداقة الموقرة التي يكنها للشاعر هوميروس1. ثم أليست المحاورات نفسها آثارا فنية؟ ورغم ذلك ينفي الشعراء ويرفض الخطب المكتوبة واللوحات الصماء. وحده الفن المصري حظي برعايته. غير أنه من الممكن، بل من الضروري الانطلاق من أفلاطون، لأن التصور العصري للفن الذي يتميز ابتداء من القرن الثالث عشر بإلحاق الجمال بانتاجات الفنون من جهة، وبتعريف هذا الجمال المولود ذاتيا في جوهرها، تغوص جذوره في فلسفة أفلاطون، وهو ما جعل العديد من النقاد يرون عناصر علم الجمال ماثلة عند أفلاطون ولكنها مكبوتة. هذا هو السبب الذي جعل نيتشه يطيح بالأفلاطونية، إذا رأى في الأفلاطونية التي تجعل الحقيقة، فوق طبيعية والتي تدين الفن لأنه يعتمد على الظاهر المحسوس وعلى الخداع والخطأ، رأى فيها الشكل الأول للعدمية والعدوانية اتجاه الحياة. يتضمن مؤلف نيتشه ميلاد التراجيديا جميع عناصر فلسفته في الفن والجمال، وهو يتحدث عن التناقض بين العنصرين الأبولوني والديونيزيوسي، فيصوغ منظوره للفن والحياة. والفن في نظره هو النشاط الميتافيزيقي الحقيقي الذي يقوم به الإنسان، وفيه يتم الكشف عن الوجود بأسره. هذا الوجود تعتبره التراجيديا تشاؤما يجب التغلب عليه. إن الجمالية التي يؤسسها نيتشه على اكتشاف العنصرين الابولوني والديونيزيوسي، لها محمل ميتافيزيقي هام, فالفن بالنسبة له ليس نشاطا عقليا بالمعنى الهيجيلي، يتجسد في الأعمال الفنية. والطبيعة في نطاق كونها خلق وإبداع وملاءة وموت، هي بحد ذاتها فنانة. بهذا المعنى نجد الفن في كل شيء وكأنه جوهر كل مكنون. يضع نيتشه في مؤلفه «ميلاد التراجيديا» كامل ثقته في الفن، بناء على تصور مؤداه أن العيش مع الحقيقة شيء مستحيل، وأن إرادة الحقيقة هي سلفا رمزا لانحطاط والعدمية. ويمكن اختزال هذا المنظور في المقولة التالية: إن الفن أكثر قيمة من الحقيقة بمعناها الأفلاطوني والمسيحي. وهذه المقولة تتضمن في طياتها مقولة أخرى نعبر عنها كما يلي: إن المحسوس أكثر سموا وحقيقة من الوجود فوق المحسوس. المسألة إذن ليست الحقيقة على الطريقة الأفلاطونية والقائمة على التفاؤل، إنما هي تأويل قوامه المنظور التراجيدي التشاؤمي والعدمي للوجود من جهة، ومن جهة أخرى، السعي نحو بناء نتشوي يتجه إلى تكليف الفن بوظيفة تحرير الإنسان من ثقل الحقائق الأصنام، النافية للحياة والمقزمة لقيمتها على الأرض. لهذا يبرز التأويل الجمالي للوجود حسب نيتشه بمثابة تشخيص لأزمة الحضارة وما أصابها من مرض العدمية، وهو ما يقتضي من نيتشه الدعوة إلى عودة ديونيزوس، رمز الجمال ليبشر بثقافة جديدة تخلص الإنسان من طغيان المعقولية المنحدرة من سلالة سقراط. تقتضي إذن أزمة الثقافة أو الحضارة في العرف الألماني، عودة ديونيزوس الذي سيعمل على بعث اللاعقلانية والعفوية والجمال في الوجود. فهناك شيء ضاع منذ سقراط سيوحده الفن في نظر نيتشه، فهو المؤهل لمقاومة هذه الهوة، عبر العودة إلى زمن التراجيديا اليونانية. وعلى هذا الأساس، فالملامح الجوهرية للثقافة الجديدة التي يضطلع إليها، إنما هي الإبداع والعفوية والفن، إنها اللعب والنشاط والرقص الطفولي الذي يرمز إليه ديونيزوس، إله السكر والثمالة وليس سقراط رمز العقلانية والمنطق. جاء في الأساطير اليونانية أن ديونيزوس شخصية أسطورية، ?ولد من رماد أمه سيميلي، بعد أن طلبت من زوجها زيوس Zeus، أكبر آلهة الأولب الأثيني، أن يظهر لها في كمال مجده. ولما حاول زيوس ذلك، تحول إله صاعقة أحرقت سيميلي، ومن رمادها ولد ديونيزوس5. بهذه الطريقة المأساوية ولد ديونيزوس، وتكفلت أرواح الغابات، وربات الفنون، بتربيته، إلى جانب كائن اسمه سيلين Silène. تبدو إذن ولادة ديونيزوس غير طبيعية. وتضيف الأساطير أن ديونيزوس قد ترعرع وراح هو وسيلين يعلمان الناس زراعة الكروم، وصناعة الخمور، وممارسة النشوة، وتحقيق اللذة، ويفرضان في كل مكان مرا به الاحتفال بديونيزوس اعترافا بجميله. وكان هذا الاحتفال يبدأ بالغناء والرقص، ثم النواح والعويل حتى يبلغ المحتفون حالة الثمالة والمانيا Mania، أي جنون يقذفه الإله في صدر الإنسان مما يمكنه من الاندماج الكلي و الطبيعي. يبدو أن كل من أيولون وديونيزوس، لا يحضون في ميلاد التراجيديا، بالوضع المألوف للآلهة التي تتكفل بالفن والدين، بل يدلان على الدوافع الفنية للطبيعة التي نعبر عنها لدى الإنسان بحالتين إبداعيتين بامتياز هما: الحلم والثمالة. إذ يجب على الإنسان أن يتحرر من ذاته عبر حالات الجسم هاته، كي يتمكن من الإبداع. ففي الرؤيا الأبولونية للحلم والتخيل المنتج تظهر له الأشكال المثالية للآلهة. وبشكل عام يظهر الحد والميزان والتفرد والعنصر التشكيلي. أما في الحالة الديونيزيوسية التي يمكن أن تحدثها الحمى الربيعية والمخدرات والجنس، يتجلى التحرر الصوفي للذات. وحين يكون الإنسان مسكونا بهذه القوى يصبح قبل كل شيء عملا فنيا حيا للطبيعة؛ فهو لن يصبح فنانا بل يغدو هو ذاته عملا فنيا . آنذاك تصبح له القدرة على الإبداع. وتستند الفرضية المتعلقة بأصل التراجيديا عموما في رأي مشال هار M. Haar بتجربة التملك والتحول، على هذا المرور التلقائي من الطبيعة إلى الفن. إن أهم ما أسس عليه نيتشه استطيقاه هو التناقض بين العنصرين الأبولوني والديونزيوسي. هذا التناقض اعتبره محددا لملامح الإنسان الذي يمكنه الولوج لكلية الوجود. فإذا كان أبولون وديونيزوس يمثلان عالمي الفن فلا يعني ذلك أنهما متماثلا، بل يختلفان في ماهيتهما الداخلية وفي أهدافهما. ما هي طبيعة التجربة الأبلو- ديونيزيوسية؟ في سيرورة الحضارة الأبولونية للقياس نعثر على اللاقياس كإمكانية تهدد دائما ذلك الخواء الجبار في الطبيعة البدائية. الطبيعة في عمقها ألم وتناقض لأنها قوة من الإبداع والتحول. يكتشف الإنسان الديونيزيوسي الفاقد لهويته الفر دانية بسبب الرقص والغناء على شرف ديونيزوس، الواحد الأصلي والإرادة الوحيدة و الأبدية التي تقف وراء ولادة وموت الظواهر الفر دانية. وستكون الموسيقى هي الفن الديونيزيوسي بامتياز. ذلك الذي يعبر عن الإرادة بوحدتها، كما أن الملحمة والنحت تعتبر إبداعات أبولونية. فروح الموسيقى مرحة في الأصل، إنها أحسن ترياق ضد الحقد وضد المشاعر العدمية على حد تعبير مشال هار، إنها شافية ومقوية، تنشط الإرادة وتخلصها من النزعة التشاؤمية ومن كل التنازل والاستسلام اللذين وسمها بهما شوبنهاور Schopenhauer الذي يرى أن الشرط الضروري لإدراك الجمال وتحقيقه في الفن هو التحرر من الإرادة حتى يصير الإنسان عقلا خالصا، ومتنزها عن كل هوى. فينفى العالم كإرادة ولا يبقي غير العالم كتمثل تدرك فيه الصور. وعالم التمثل هذا يخلو من الألم لخلوه من الإرادة. بدأ نيتشه معارضته لموقف شوبنهاور عندما أخذ يشيد بالحياة ويحتفي بقيمتها، فالمبدأ الديونيزيوسي هو بتعبير نيتشه نعم للحياة، وهذا هو جوهر الخلاف بين الفيلسوفين. شوبنهاور لا يعرف سوى إرادة الحياة العمياء، أما نيتشه فينادي بإرادة القوة، بمعنى إرادة الحياة المتصاعدة، ويؤكد أن الفن أقوى من المعرفة، لان الفن يريد الحياة، أما المعرفة فلا تريد سوى الوصول إلى هدفها الأخير أي الإرادة. نعم النيتشوية هي نعم فنية وليست نعم ميتافيزيقية. إنها تتجه نحو تبرير الحياة حتى في أكثر أحوالها غموضا وزيفا. إن إرادة القوة حسب نيتشه تنهي تشاؤم القوى الشوبنهاورية لتأكد توكيدا مطلقا العالم. ويتم لها ذلك من خلال الدخول في علاقة ديونيزيوسية مع الوجود، شعارها حب الصيرورة. فبدلا من نفي إرادة الحياة نجد نيتشه يضعها في المركز من فلسفته، لينتهي إلى كلمة نعم مطلقة يوجهها إلى هذا العالم الأرضي. ولذلك نجده يمجد اليونان الذين تأملوا بجرأة ذلك الاضطراب المركب الماثل في قسوة الطبيعة دون أن يلجئوا إلى النفي البوذي للإرادة، بل أعادوا تأكيد الحياة من خلال الإبداع الفني. اكتشف نيتشه في اليونان نزعة ضد التشاؤم، يواجه من خلالها المرء أهوال التاريخ والطبيعة بشجاعة لا تلين، وبكلمة نعم للحياة. ذهب نيتشه إلى أن تطور الفن يرتبط بالضرورة بالعداء بين القوتين الطبيعيتين في الإنسان: الأبولونية الديونيزيوسية. إن الفن عبارة عن خصومة بين ديونيزوس أبولون، أما الفلسفة فهي حكمة مأساوية ونظرة جوهرية في الصراع بين مبادئها. وهي تسمح بإدراك الخلاف الأزلي بين الواحد ومبدأ التفرد، بين الشيء في ذاته والظاهرة. يريد الفن الديونيزيوسي أن يزودنا بالمرح الأبدي للوجود. وعلينا فقط أن نبحث عن هذا المرح لا في الظواهر وإنما في ما يقع وراء حدودها. وعلينا أن ندرك أن ما يأتي إلى الوجود يجب أن يكون مستعدا لنهاية محزنة. فنحن مضطرون إلى تأمل فظاعة الوجود الفردي. ويجب ألا نصاب بالخوف من جراء هذا التأمل، فالسكينة والراحة والمتاع تنتزعنا في أية لحظة من تتابع في أية لحظة من تتابع الأشياء وتكوينها المتلاحق. ويجذبنا الفن الأبولوني بعيدا عن الفن الديونيزيوسي، كما يشعرنا بالغبطة والسرور والسعادة مع الفرد، وهو بذلك يرضي إحساسا بالجمال الذي يتوق إلى الصور السامية، ويحثنا على إدراك معنى الحياة، فالوهم الأبولوني يفسر أبدية الشكل الجميل. أما ديونيزوس فيفسر الزوال بوصفه متعة ناجمة عن القوة الخلاقة الهدامة وبوصفه خلقا مستمرا. إن الفن عند نيتشه هو تفاعل بين هذه القوى، بين التركيب الأبولوني للصورة، والتحطيم الديونيزيوسي لهذه الصورة. وعن تنوع إيقاع الاختلاف والهدم والبناء، في هذه العملية، ينجم الشعور بالمنفعة. ومن أجل فهم هذا التوفيق الغامض، أو لنقل هذا التصالح بين العنصرين يجب العودة إلى أصل التراجيديا اليونانية، فكم تألم هذا الشعب لبلوغ هذا المدى من الجمال ! هذه العودة الى أصل المأساة، ستفاجئنا بأن التصالح بين أبولون وديونيزوس كان قصير الأمد. فبعد كل من إشيل Eschyle وسفوكليس Sophocle ها هو يوربديس، Euripide يأتي وتحتضر معه التراجيديا. يرى جون لاكوست، على لسان نيتشه، أن سقراطية يوربديس هي التي أماتت التراجيديا لأن هذه الأخيرة، رغم التكريم المتأخر للباخوسيات أرادت فصل التراجيديا عن أصلها، أي الموسيقى، مدخل ظل الديونيزيوسية. في ظل الفنان الديونيزيوسي والأبولويني، يقف الإنسان النظري ذلك المتفائل السقراطي المعتقد أنه عن طريق إتباع خط العلية والعقلانية الهادئ، يمكنه الوصول إلى أمهات الكائن الذي تكلم عنه غوته Goethe. الذي يولد مع سقراط، هي غريزة العلم، الفانية بالنسبة إلى نزعتي الطبيعة الفنيتين. تلك الغريزة التي تنتصر من خلال صورة سقراط المحتضر. ألا يعود أصل الحاجة إلى الفن إلى الضعف والعجز عن مواجهة تراجيدية الحياة؟ يرى نيتشه أن التراجيديا اكتشاف للحياة كفيض من القوة، وكطبيعة فنانة، وكقوة من التحول، ألم يقارن هراقليطس القوة المكونة للعالم بطفل يلعب في بناء كومات من الرمل، يهدمها، ليعيد ترميمها من جديد؟ إنه لعب لنستمر في اللعب. كيف نصحح تشاؤمية شوبنهاور؟ ونظرية سقراط؟ وعدمية فاغنر؟ بعبارة أخرى كيف نقطع مع الأصنام التي أدت إلى قتل التراجيديا؟ كيف يمكن بناء الحضارة من جديد على أسس مأساوية؟ كيف نصحح خطأ أرسطو الأول الذي يبحث في التطهر عن بعض الشغف (الخوف والشفقة) وعن أثر أخلاقي- طبي. إن التراجيديا انفعال مقو، ومن الممكن قياسه بالديناموميتر. ولكي نحل هذه المفارقة ونحل غموض التشاؤمية، يعود نيتشه في الشذرة.370 من العلم المرح إلى تصنيف القدامى للفنون، ليعوضه بتصنيفين للفنانين: إن الحاجة إلى النقد والتدمير والهدم والتجديد يمكنهما أن تكونا تعبيرا عن قوة فائضة وذات مستقبل. ذاك هو الفنان الديونيزيوسي. لكن أيضا يمكن لهذه الحاجة أن تولد من الضعف ومن كراهية كل متفوق ومن احتقار الذات. ذلك هو فنان الغيظ. يسمي ميشال هار هاذين النموذجين ب: النموذج الفعال والنموذج المنفعل سيرا على هدى جيل دولوز أيضا الذي يتحدث عن الفاعل والارتكاسي. هنا يطرح سؤال الإبداع على كل عمل فني: هل من رغبة الوجود أم رغبة الصيرورة؟ في هذا الإطار برزت أربع نماذج من الفنانين: الرغبة في الصيرورة أي في هدم الأشكال، يمكن أن تنتج عن غنى وفيض للقوى، قادرين على التهشيم، لأنهما حاملان للمستقبل. وهنا نكون أمام ديونيزوس. غير أن الحاجة إلى الهدم نفسها، يمكن أن تكون تعبيرا عن ضعف، أي عن حقد اتجاه عظمة الماضي. وهنا نكون أمام فنان الأحقاد. أما رغبة الوجود والدوام والخلود فبإمكانها أيضا، إما أن تعبر عن إرادة تأكيدية تعشق العالم وتفيض امتنانا باتجاهه، وهو الحال مع الفنان المادح أمثال هوميروس ورفائيل، وروبنس . وإما أن تعبر عن إرادة معذبة تريد أن تسم كل شيء بالعلامة التي لا تمحى، علامة العذاب الخاص، الشبيه بأثر الحرق بالحديد الساخن، هذه هي الإرادة التي تريد الانتقام من كل الأشياء. عبر احتقارها وإبراز قبحها وعدميتها. يتعلق الأمر هنا بفنان التشاؤم الرومانسي الذي يمثله أتباع شوبنهاور وعلى رأسهم فاغنر. نستطيع انطلاقا من هذه التصنيفية عن الفنانين أن نسمى استطيقا نيتشه ?فيزيولوجيا مطبقة? على حد تعبير بول أودي. أي فيزيولوجيا لإرادة القوة. إن الحكم الاستطيقي يتأسس بالتأكيد على اللذة والمتعة. متعة القوة التي تستحسن المشاكل الفظيعة والشر. سيكون الفن إذا محمول الوجود الأكبر، الذي يجمل ويقبل العالم، بدلا من أن يستخلص تبريرا عن نفي سكين. بهذا المعنى يشكل الفن التراجيدي علاجا في مقابل العدمية والشهير الميتافيزيقي للظواهر. ولكن إذا كان الجمال ازدياد القوة، فإن له قصدية حقيقية وبيولوجية. يصبح إذ ذاك الجمال بعبارة أخرى توهما وكذبا نافعين، أبعد من أن يكون صفة حقيقة للأشياء وللمطلق. انه يستند على الأصل الجنسي للفن، على حالة النشوة والقوة المتزايدة التي نجدها سلفا أثناء الاستعراضات العشقية للحيوانات. تكشف حالة النشوة الفيزيولوجية فنيا في جسدنا عن ملكة في غاية الكمال. تسمح بتحويل الأشكال الكانطي من الكلية إلى حق الحكم الإستطيقي. والحال أن الاستيطيقا هي شعور من السلطة المتزايدة يشترك فيه الفنان المبدع من جهة والفاهم للعمل الفني من جهة ثانية لا يتكلم الفنان إلا مع الفنان يقول نيتشه. إن الجمال عند نيتشه يرجع إلى نفسية الفنان وإلى شعوره المتزايد في القوة،إنه في خدمة الحياة المفهومة كإرادة قوة وكجنس وكجسد معبر. ولهذا السبب ليست الاستيطقا سوى فيزيولوجية مطبقة . إذا كان الإبداع والتأمل الجماليين غير منسوبين إلى الذات الفردية الواعية، فإن هذا الإلحاح للفن على الحياة، يتم من خلال التوسع في فكرة الرسم المنظوري باعتباره الشرط الأساسي للحياة. يريد نيتشه أن يتجاوز الحقيقة باسم الفن، الذي يقبل براءة الصيرورة والذي هو إرادة الشكل والمظهر. إن مراهنة نيتشه لتجاوز الوجود الحقيقي الزائف، ومراهنته على غرائز الجمال باعتبارها تعكس حقيقة العالم. تهدف إلى الإعلاء من شأن الوهم وليس الحقيقية انطلاقا من نظرية التطابق. لذلك كان مطلبه الجديد هو عودة ديونيزوس لتمجيد المظهر، وتثبيت الصيرورة بواسطة العود الأبدي، الذي يتجاوز كل تصور خطي أو غاني للزمن التاريخي. فعودة ديونيزوس هي إعطاء لغرائز الجمال مرتبة مبدأ أنطلوجي كما يقول أويجن فينك. هكذا سعى نيتشه إلى تجاوز القيم، بغاية إيجاد وحدة الإنسانية الممزقة منذ آلاف السنين بواسطة التناقض المذهبي المكرر بين الفكر والحياة. ولأجل ذلك كان لابد من المراهنة على الفهم التراجيدي للوجود، لكن بدلالته الإيجابية والفرحة، أي استعادة براءة الوجود. وبذلك تعتبر فلسفة نيتشه بأكملها تأويلا استطيقيا للوجود في مقابل التأويل العقلاني والميتافزيقي للوجود. نستخلص من هذا الجرد المركز أن ديونيزوس هو أصل التراجيديا والنقطة المحورية للفن اليوناني، قصة إبداع الحضارة الهلينيستية. لكن ما هي العناصر المحققة لهذا الغرض؟ وكيف تتكامل هذه العناصر وتتفاعل في تحقيق وبلوغ تلك الحياة التي ينشدها نيتشه؟ الواقع أن صيغة الصراع في التراجيديا صيغة عمودية وليست أفقية كما بين يوربديس، صراع الآلهة والقدر. صراع من أجل مقاومة القدر والموت نفسه، صراع من أجل تحقيق ما يسميه مارسا إلياد ما فوق الإنسان أي الإنسان الأعلى بتعبير نيتشه، ذلك الإنسان الذي لا يعوقه عائق ولا يحد أرادته حد. وقصد تحقيق هذا التعالي والتفوق لابد من عنصرين أساسين وحاسمين داخل التراجيديا وهما الموسيقى والأسطورة. تعتبر الموسيقى في نظر نيتشه عملا حاسما في الاحتفال التراجيدي، والسبب في ذلك يعود إلى كون الموسيقى في نظره تعبير عن روح الأشياء. يميز نيتشه بين نوعين من الموسيقى: موسيقى مقلدة، وموسيقى حقيقية. الأولى تقتصر على الظاهرة لأنها تعتمد على التذكر فقط. والثانية تغني الظاهرة، وتتحول إلى رمز كوني لأنها موسيقى مبتكرة. بفضل الموسيقى والأسطورة تتخلص التراجيديا من الواقع والعالم الخارجي ككل. وبذلك يتحرر الجسد ويعانق الزمن الأول. علما أن الأسطورة كما ذهب إلى ذلك حدثا أصليا، يبدأ مع الزمن. فالشخصيات الأسطورية ليست أناسا بل آلهة وأبطالا متحضرين. وبالتالي على عكس الخرافة- تكون الأسطورة هي قصة الآلهة والكائنات الإلهية في بداية الزمن. ويتابع مارسيا إلياد في تحديد مفهوم الأسطورة ووظيفتها قائلا: أن تقول أسطورة معناه إعلان عما كان يحدث في الزمن الأصلي. بهذا المعنى تكون الأسطورة جنالوجيا تاريخ الإنسان وعمق ماضيه السحيق. بواسطتها يتسنى له معانقة التاريخ الأصيل والزمن المقدس، الذي عبر استعادتنا له ننسى كل قساوة الألم. وأكبر الألم عند الإنسان هو الموت. مع ذلك يظل الموت حاضرا. وإذا كان لابد منه، فعلى الأقل لنختبر كيف نموت. أي نموت بكرامة وشرف. وطبعا هذا لا يتأتى إلا بالمواجهة البطولية. أي إذا كان لابد من أن نموت فيجب أن نموت منتصرين، نختار موتنا ونتوجه إليه بعزم وتحد بطولي. فالموت البطولي أجل من الموت جبنا، على هذا الأساس تقوم التراجيديا عند نيتشه. فالأبطال عنده يعرفون أنهم سيموتون، لكنهم يختارون موتهم ببطولة. إن التراجيديا هي الفرح المضاعف، الفرح المتعدد، هذا الفرح ليس نتيجة تعويض، أو خضوع أو تبريك كما في الأديان، بل هو شكل جمالي للفرح، وليس وصفة طبية ولا حلا أخلاقيا للألم والخوف والشفقة بتعبير دولوز. خلاصة القول أن الروح العلمية بتجليها ( العقل، الوعي، المنطق...) والمسيحية، ومعها باقي الأديان بمواقفها من الوجود والحياة، كلها في نظر نيتشه علامات على موت التراجيديا، بل إنها علامات على الانحطاط والمرض والعدمية التي أصابت الحضارة الحديثة ( النهضة، الأنوار، الوضعية في ق ). ولبعث التراجيديا، لابد من تقويض أسباب موتها، واحتضارها، والإيمان بالحياة والديونزيوسية، لأن زمن الإنسان السقراطي، الإنسان النظري أو الشيطان كما يسميه نيتشه، قد ولى وحل محله زمن الإنسان التراجيدي، زمن الإنسان الأعلى، الأنساق المتفوق، الإنسان الذي نجد مواصفاته عند زرادشت... ملحوظة تم الاحتفاظ بالهوامش نظرا لكثرتها (*) كلية الآداب و العلوم الإنسانية ظهر المهراز - فاس